التقديرات المالية وأثرها على الأحكام القضائية الشرعية
بقلم
أ . د . علي محيى الدين القره داغي
أستاذ بكلية الشريعة بجامعة قطـر
والحـائـز على جائـزة الدولة ، والخبير بالمجامع الفقهية
وعضـو المجلـس الأوربـي للإفتاء والبحوث
ونائب رئيس مجلس الإدارة لجمعية البلاغ الثقافية " إسلام أون لاين "
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد
فإن مستجدات العصر ، ونوازله المتجددة المتغيرة تقتضي النظر الصائب ، بل وإعادة النظر بين فترة وأخرى في الأحكام القضائية الشرعية ، وذلك لأنها تتطلب العدل المطلق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .
إن أي خلل في المعلومات ، والتقديرات ، والأعراف ، والتغييرات ـ مهما كان قليلاً أو صغيراً فإنه يؤثر في الحكم الصادر بشأن القضية المعروضة ، وهذا مصداق لما أقره أهل العلم في كل التخصصات من أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وتابع له ، وأن التصور إنما يتحقق إذا شملت المعرفة الدقيقة العميقة للجزئيات ، والوحدات والمفردات ، والروابط داخل كل جملة .
وبما أننا مأمورون في شريعتنا بالعدل مع الجميع حتى مع الأعداء ، فإن البحث عن مستجدات العصر ومتغيراته بصورة دقيقة شاملة أمر مطلوب ، تفرضه الشريعة وتقتضيه الضرورة .
ومن هنا تأتي أهمية المؤتمر القضائي الشرعي الدولي بمحاوره السبعة ، من حيث الموضوعات ، ومن حيث الوصول إلى النتائج التي تخدم القضاء وتحقق له ما يصبو إليه من تحقيق العدل الذي قامت عليه السموات والأرض ، ونزلت به جميع الشرائع السماوية .
وقد طلب مني سماحة قاضي القضاة الأستاذ الدكتور أحمد محمد خليل ، بأن أكتب بحثاً حول المحور الرابع الذي يتحدث عن التقديرات المالية وأثرها في الأحكام القضائية الشرعية من حيث تغير القيمة الشرائية للنقود ، وأثره على المهور المسماة ، ومن حيث التداخل بين الدية والتعويضات المالية الأخرى ، وغير ذلك مما يتعلق بالموضوع ، ولم يسعني أمام هذا الطلب الكريم إلاّ الاستجابة والمساهمة ببحث متواضع يتناول هذا الموضوع ومحاوره على ضوء ما ذكره فقهنا الإسلامي العظيم ، وما يمكن أن يجتهد فيه بالنسبة للمستجدات ، والنوازل والقضايا المعاصرة ، وذلك من خلال ثلاثة مباحث تستوعب هذه المسائل .
والله أسأل أن نوفق جميعاً فيما نصبو إليه ، وأن يكتب لنا التوفيق في شؤوننا كلها ، والعصمة من الخطأ والخطيئة ، في عقيدتنا ، والاخلاص في أقوالنا وأفعالنا ، والقبول بفضله ومنّه لبضاعتنا المزجاة ، والعفو عن تقصيرنا ، والمغفرة لزلاتنا ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .
المبحث الأول : التعريف بالموضوع ، وضوابط التقدير :
التعريف بالموضوع :
أ ـ التقديرات :
جمع تقدير ، وله معان كثيرة ، منها : قياس الشيء بالشيء ، ومناه التدبر ، ومنها إصدار الحكم ، ومنها التروية ، والتفكير في تسوية أمر ، ومنها تبيين كمية الشيء ، وغير ذلك ،
وقد استعمل الفقهاء المقدرات في باب الجنايات ، فقالوا : العقوبات المقدرة ، وهي : الحدود والقصاص ، والديات المقدرة ، وهي : التي قدرها الشرع ، والمقدرات في مجال الأموال هي التي تتحدد مقاديرها بالكيل ، أو الوزن ، أو الذراع ، أو العدّ ، وهو ما يسمى في وقتنا الحاضر : الوحدات القياسية العرفية التي تعامل الناس بها في العصور السابقة ، فقد جاء في المادة ( 132 ) من مجلة الأحكام العدلية النص على أن : ( المقدرات : ما تتعين مقاديرها بالكيل ، أو الوزن ، أو العدد ، أو الذراع ، وهي شاملة للمكيلات ، والمزونات ، والعدديات ، والمذروعات ) .
مواقع بحث التقديرات المالية لدى الفقهاء :
وقد تناول الفقهاء موضوع التقديرات المالية في عدة كتب ، وأبواب ، منها ما ذكروه حول موضوع : المكيلات ، والموزونات ، والمعدودات ، والمذروعات ، في أبواب : البيع ، والوكالة ، والتعويضات في الفقه الإسلامي ، وكذلك في أبواب : النكاح ، والطلاق ، والخلع والنفقات ، وأبواب الديات والأروش ونحوها .
فقد تطرق ابن الهمام في فتح القدير إلى أن : تقدير الثمن من الوكيل الأول إذن وإلى تقدير القاضي للنفقة الزوجية وكيفية تقدير مهر المثل .
وذكر ابن عابدين المقدرات بشيء من التفصيل ، وذكر الزر قاني كيفية تقدير الجناية بشيء من التفصيل ، كما ذكر ابن قدامة مقادير الأوقية ، والرطل ، والمثقال ، والدرهم ، والمد والصاع والوسق ، والفَرَق وغيرها .
المصطلحات القريبة من " التقديرات المالية " التي تناول الفقهاء بعض محتواها :
هناك مصطلحات أخرى قريبة من العنوان ، وهي :
1 ـ التقويم : لغة : مصدر قوّم ، ومن معانيه : التقدير ، فيقال : قوّم السلعة ، أي قدرها بثمن ، وقوّم المتاع إذا قدره بنقد وذكر له قيمته .
والتقويم في اصطلاح الفقهاء لا يخرج عن هذا المعنى اللغوي .
وقد تحدث الفقهاء عن التقويم في أبواب كثيرة من الفقه مثل : أبواب الزكاة ، وعروض التجارة ، وجزاء الصيد ، والجوائح ، والقسمة ، ونصاب السرقة ، وفي تقويم حكومة العدل ـ ـ وإتلاف البهائم الزروع ونحوها ، وأبواب الضمانات ، وغير ذلك .
2 ـ التعويض : لغة : مصدر مزيد فيه من العوض ، وهو البدل ، فيقال : عوضته تعويضاً إذا أعطاه بدل ما فاته .
وفي اصطلاح الفقهاء : دفع ما وجب من بدل مالي بسبب الحاق ضرر بالغير حيث تناولوه في أبواب الضمانات والاتلافات ، والأوقاف ، وفي عقود الأمانات في حالات التعدي والتقصير ومخالفة الشروط ، وفيما تتلفه الدواب ، وغير ذلك .
3 ـ التضمين : لغة : مصدر ضمّن الشيء تضميناً فتضمنه ، أي التزمه بتغريمه وضمانه فالتزمه ، وأصله من الضمان ، وهو يطلق في اللغة على عدة معان ، منها : الالتزام ، فيقال ضمنت المال ، ومنها الكفالة ، فيقال : ضمنت فلاناً ، أي كفلته .
وفي اصطلاح الفقهاء يطلق على : كفالة النفس ، وكفالة المال عند جمهور الفقهاء ما عدا الحنفية ، وعلى غرامة المتلفات ، والغصوب ، والتعييبات والتغييرات الطارئة ، كما يطلق على ضمان المال ، والتزامه بعقد ، أو بغير عقد ، وغير ذلك .
4ـ التثمين : لغة : مصدر ثمنه تثميناً ، أي جعل له ثمناً بالتقدير والتخمين .
والفقهاء أطلقوه في هذا المعنى اللغوي وخصصوه بالمعاوضات المالية .
5ـ الأرش : لغة : هو أرش الجراحة أي ديتها ، ويطلق كذلك على الخدْش ، وما نقص من الثوب ، والخصوصية ، وما يدفع بين السلامة والعيب في السلعة وأصله من الهرش .
والفقهاء استعملوه بمعنى المال الواجب في الجناية على ما دون النفس ، سواء كان فيه دية مقدرة من الشارع أم لا ، وقد يطلق على بدل النفس .
6ـ حكومة العدل : وهو مصطلح فقهي يقصد به : الواجب الذي يقدره حاكم ، أو محكم ، في جناية ليس فيها مقدار معين من المال ، قال ابن عاشر : ( اتفقت الأنقال ـ جمع النقل ـ على أن المراد بالحكومة الاجتهاد ، وإعمال الفكر فيما يستحقه المجنى عليه من الجاني ) .
وسبب التسمية أن استقرار المال للمجنى عليه يتوقف على حكم حاكم ، أو محكم معتبر ، ومن ثم لو اجتهد فيه غيره لم يكن له أثر ، ولا يسمى : حكومة عدل .
ب ـ المالية :
نسبة إلى المال ، وهو لغة من المول وفي اصطلاح الفقهاء له تعريفات كثيرة ، رجحنا تعريفه بأنه هو : كل ما هو له قيمة بين الناس ، ومنفعة حسب العرف .
المقصود بعنوان البحث :
بعد هذا الاستعراض نستطيع أن نعرف بالتقديرات المالية المقصودة في البحث ، والمطلوب الخوض في تفاصيلها هي : ما يدخل ضمن سلطة قاضي الموضوع في موضوع تحديد المال الواجب دفعه للمستحق ، سواء كان هذا التحديد جاء من خبير عدل فأقره القاضي ، أو هو قدره بناء على معطيات معينة .
فالتقديرات المالية هي : تبيين مقدار المال الواجب دفعه للمحكوم له باجتهاد القاضي وتقديره .
وبالتالي فهي تشمل المجالات الآتية :
1ـ تقدير المال عند التعويضات المالية في نطاق الجنايات ما عدا الديات التي هي مقدرة من الشرع ، مثل دية النفس ، وديات الأعضاء والجروح المقدرة بنص ثابت . أي ما يدخل في حكومة العدل ، ونحوها .
2ـ تقدير المال عند التعويضات المالية بسبب الإضرار ، سواء كان الضرر مادياً ، أم معنوياً ، أو بسبب الاعتداء ، أو التقصير ، أو مخالفة الشروط في عقود الأمانات ، أو الهلاك ، أو التعييب في غير عقود الأمانات ـ على تفصيل ليس هذا محل بحثه ـ .
3ـ تقدير النفقات .
4ـ تقدير ما للمرأة من حقوق مالية في حالة استمرار الزواج أو بعد الطلاق أو الموت خلال فترة العدة .
5ـ حالات المهور التي قدرت بأموال تحتاج إلى الاجتهاد في تقديرها وذلك بسبب تغير القيمة للعملة التي حدد بها المهر .
ضوابط حكم القاضي في التقديرات المالية :
إن القاضي وإن كانت له سلطة تقديرية ، ولكن هذه السلطة ليست مطلقة دون قيود وشروط وضوابط ، ولذلك نرى أن الضوابط لصحة تقديرات القاضي المالي هي بالاضافة إلى شروط وضوابط القاضي من حيث الأهلية والعدالة ما يأتي :
أولاً ـ أن يكون المتلف مالاً متقوماً ، أو شرع فيه التعويض كما في حالة الجنايات على الإنسان .
ثانياً ـ أن يتحقق موجب المال المقدر من تحقيق ضرر سواء كان بإتلاف عين أو منفعة ، أو بالجناية على النفس ، أو ما دونها ، حيث إن من القواعد المقررة أن لا تعويض إلاّ في مقابل ضرر .
وأما التعويض عن الضرر المعنوي فهو أمر مستحدث اختلف فيه المعاصرون ، سيأتي الحديث عنه .
ثالثا ـ أن يكون التقدير المالي قائماً على العدالة ، بعيداً عن أية مؤثرات خارجية .
رابعاً ـ أن يكون التقدير المالي قائماً على عوض المثل ، وهذا يحتاج إلى شيء من التفصيل نحاول إيجازه بقدر الإمكان .
المقصود بعوض المثل في اصطلاح الفقهاء هو : بدل مثل شيء مطلوب بالشرع غير مقدر فيه ، أو بالعقد لكنه لم يذكر مقداره فيه ، أو ذكره لكنه فسد المسمى ، أو كان بسبب عقد فاسد ، أو نزع جبري مشروع للملكية .
فعلى هذا يشمل :
1ـ ما إذا لم يذكر في عقد النكاح مهر ، أو ذكر ولكنه لم يعتد به الشارع مثل أن يكون المسمى شيئاً محرماً ، أو لا يعتبر مالاً متقوماً ، وهذا ما يسمى بمهر المثل .
2ـ وما إذا كان بين العاقدين اتفاق ، ولكنه لم يذكر فيه المسمى ، أو أصبح المسمى معدوماً ، أو فاسداً ، او أصبح العقد فاسداً أو مفسوخاً ولكنه ترتب عليه أن أحد العاقدين كان قد نفذ من العقد شيئاً ، أو أهلك المعقود عليه ، أو كان العقد قرضاً ووجب فيه رد القيمة ، أو نحو ذلك مما سيأتي تفصيله ، وهذا يدخل فيه : أجر المثل في الإجارة الفاسدة ، أو المضاربة الفاسدة أو نحوهما ، وكذلك يدخل فيه : ثمن المثل ..
3ـ وما كان نتيجة نزع جبري مشروع لملكية خاصة من قبل الدولة ، وهذا ما يسمى بتمليك المثل .
4ـ وما كان نتيجة إتلاف لكنه لم ينص الشارع على تحديد مقدار الضمان فيه وهو ما يسمى بضمان المثل سواء كان في الحج أو غيره من الضمانات المالية الأخرى .
وقبل أن ندخل في في تفاصيل هذه المسائل لا بدّ أن نذكر كيفية الوصول إلى عوض المثل ومعياره .
أهمية الاعتماد على عوض المثل :
وقد عني الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه ومدارسه ، بتطبيقات عوض المثل في أكثر أبواب الفقه سواء ما يتعلق منها بالمعاملات أو بأحكام الأسرة ، أو بالضمان والتعويض والتمليك بالمثل ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( عوض المثل كثير الدوران في كلام العلماء ، وهو أمر لا بدّ منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة ، فهو ركن من أركان الشريعة مثل قولهم : قيمة المثل ، وأجرة الثل ، ومهر المثل ونحو ذلك .... ويحتاج إليه فيما يضمن بالإتلاف من النفوس والأموال والأبضاع والمنافع ... ) بل إن العلامة ابن القيم جعل مدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين ، والفرق بين المختلفين .
معيار عوض المثل :
1. العدالة المطلقة ، أي دون تأثر بالمؤثرات
2. القياس والاعتبار للشيء بمثله
3. العرف السائد فيه ، فلكل شيء عرفه بين الناس ، ملاحظاً فيه الزمان والمكان والاعتبارات الشخصية من الرغبات ، والأحوال فمثلاً إن قيمة قارورة من المياه في الصحراء غير قيمتها في المدينة ، وهكذا .
4. في حالة التقدير لحكومة العدل فالمعيار فيها إحدى الطريقتين الآتيتين :
الطريقة الأولى : على تقدير كونه عبداً مسلماً غير مجروح ، ثم يقوّم على تقدير كونه عبداً مجروحاً ، فينظر ، كم نقصت الجناية من قيمته ، فإذا قدر النقص بالعشر مثلاً وجب على الجاني عشر دية النفس ، وذلك لأن الحرّ لا يمكن تقويمه ، فيكون الاعتبار بديته .
والمقصود بهذا المعيار مدى تأثير الجرح في المجني عليه من حيث القدرة والتأثير ، واليوم والحمد لله قد انتهى عصر العبودية الفردية ، ولكن نستفيد من هذا المعيار في موضوعيته ومرونته ، بحيث ننظر إلى موضع الجرح وتأثيره ، وإلى أهمية المكان المجروح ، فمثلاً فالجرح في اليد بالنسبة للخياط تختلف عن الجرح في يد الحارس ، بل إن أي خلل في يد الطبيب الجراح وأصابعه يختلف تقديره وتقويمه حتى بالنسبة للطبيب الباطني ، وهكذا ، والمرجع في ذلك أهل الخبرة .
الطريقة الثانية : تقدير الجرح بنسبته من أقل جرح له أرش مقدر وهو الموضحة ، ومقدارها شرعاً نصف عشر الدية الكاملة ، فيكون مقدار دية هذا الجرح بمقدار نسبته من الموضحة ، وهذا قول الكرخي من الحنفية ، وعند الشافعية أن تقويم النقص يكون بالنسبة إلى العضو الذي وقعت عليه الجناية إن كان لها أرش مقدر ، فإن لم يكن لها أرش مقدر تقوّم الحكومة بالنسبة إلى دية النفس .
وهذا المعيار ذاتي لا يلبي في اعتقادي المرونة المطلوبة ، ولذلك فالراجح هو المعيار الموضوعي السابق المرن ، أو الاعتماد مباشرة في هذه المسألة على رأي الخبراء من الأطباء ونحوه في تقدير نسبة العجز ، وبذلك يكون هذا الاختيار الأخير الطريقة الثالثة بالنسبة لحكومة العدل .
خامساً ـ مراعاة خصوصيات بعض العقود ، فمثلاً يراعى في مهر المثل ، إضافة إلى الأمور الثلاثة السابقة عناصر أساسية مؤثرة مثل النسب ، والشرف ، والجمال ، والوقت والمكان ، إضافة إلى الرغبات .
سادساً ـ مراعاة الظروف المشددة كما في حالة الغصب والاتلاف العمدي ، حيث يتم التقدير ، بتقدير المال المتلف بالأكثر قيمة من يوم الغصب إلى يوم التلف عند الشافعية ، والحنابلة ـ وعلى تفصيل بين الفقهاء ـ في حين أن بقية المتلفات تقوّم بقيمتها يوم التلف أو يوم الخصومة .
سابعاً ـ مراعاة حالة المستحق للتعويض ، كما هو الحال في تقويم عروض التجارة ، حيث يجب أن تقوّم بما هو أنفع للفقراء نصاباً ومقداراً عند الحنفية والحنابلة .
ثامناً ـ في حالة تقدير الجنايات بحكومة العدل يشترط فيها ما يأتي :
أ) أن لا يبلغ التقدير في حكومة العدل إلى دية العضو نفسه فمثلاً ، فمثلاً حكومة اليد لا يجوز أن تصل إلى نصف الدية ، هذا إذا كان العضو فيه أرش مقدم ، أما إذا لم يكن له أرش مقدر كالظهر ، والكتف ، والفخذ فيجوز أن تبلغ حكومته دية عضو مقدر كاليد ، بل تزيد علياه ، ولكن لا يجوز أن تبلغ حكومة عضو واحد من الأعضاء المذكورة دية نفس كاملة .
ب) أن يتم التقدير والتقويم للحكومة بعد اندمال الجرح وبرئه ، لاحتمال السراية التي تؤثر في التقدير .
ما يتم به التعويض :
يتم التعويض في حالة الإتلاف الكلي بالمثل إن كان المتلف مثلياً أي من المكيلات أو الموزونات ، أو المعدودات التي لا تختلف أحاده كالبُّر والشعير ، وبقيمته إن كان قيمياً ، أما إذا كان الإتلاف جزئياً ففيه أرش النقص ، ويرجع في تقديره إلى أهل الخبرة .
وبالنسبة للجنايات على الإنسان التي تتربت عليها التعويضات فإنها تخضع لأحكام الديات ، والأروش ، وحكومة العدل ـ كما سبق بإيجاز ـ .
وقد اختلف الفقهاء اختلافاً كبيراً في تعريف المثلي ، والقيمي ، بحسب الحالات التي تطرقوا إليهما فيها ، فنجدهم أن المثلي عندهم في باب البيع هو غيره في باب الإحرام في حالة جناية المحرم على حيوان مثلاً ، لذلك توصلنا إلى معيار عام للمثلي وهو : كل ما كان له شبه بآخر بحيث يكون الرد به ، أو اعتباره يحقق العدالة ، ولذلك فالمعيار هو ما يحقق العدالة ، وعلى ضوء ذلك نرى كثيراً من المسائل تدخل حسب الظاهر في المثلي مع أن الفقهاء نصوا على أن الرد فيها بالقيمة ، وما ذلك إلا لاعتبار العدالة ، فمثلاً ان الماء من المثليات ، وبالتالي فالمفروض أن يكون الرد ، أو التعوض بالمثل ، ولكن إذا غصبه إنسان في مفازة أو استقرضه فيها ، فلا يرده بالمثل ـ كما هو الأصل ـ بل يجب رده بالقيمة ، وكذلك الذهب فهو من المثليات ، ولكن إذا دخلته الصنعة أخرجته من المثليات ، بحيث لو أتلفه شخص تجب عليه القيمة .
مسائل مهمة في التقدير والتقويم :
المسألة الأولى : بما يكون التقويم والتقدير ؟
ذهب الفقهاء إلى أن التقويم في عوض المثل يكون بغالب نقد البلد ـ أي البلد الذي تم فيه التصرف الموجب لعوض المثل ـ قال النووي : ( مهر المثل يجب حالاً من نقد البلد كقيمة المتلفات) وقال السيوطي : ( فلا تقويم بغير النقد المضروب ) وقال ابن نجيم : ( يجب .... من جنس الدراهم والدنانير ) وكذلك قال غيرهم ؛ لأن القاعدة العامة هي أن التقويم يكون بنقد البلد الغالب .
وقد أثار الفقهاء ما إذا كان في البلد نقدان يتعامل بهما على قدم المساواة فبأي منهما يكون التقويم ؟ فذهب بعضهم إلى رعاية الأقل قيمة ، وبعضهم إلى رعاية الأكثر ما دام أحدهما أغلى من الآخر .
فالذي يظهر رجحانه أن الأمر في ذلك يعود إلى المقومين أو القاضي مع ملاحظة الظروف والملابسات التي تحيط بالقضية .
المسألة الثانية : مدى اشتراط العدد ؟
اختلف الفقهاء في مدى اشتراط العدد في المقومين ، فهل يشترط كونهم أكثر من واحد ، أم يكتفى بواحد عدل ؟
ذهب جماعة منهم الشافعية إلى اشتراط العدد ، في حين ذهب آخرون منهم الحنفية في قول ، والمالكية إلى عدم اشتراطه ، وأنه يكتفى فيه بشخص واحد .
وسبب الخلاف أن الفريق الأول اعتبروا التقويم بمثابة الشهادة ، ولذلك ألحقوه بها في حين نظر الفريق الثاني إلى حقيقة التقويم واعتبروه بالحَكَم ، فكما لا يشترط التعدد في القضاء والحكم فكذلك لا يشترط في التقويم .
والراجح هو اشتراط التعدد ( في غير الحاكم والمحكم ) بأن لا يكون عدد المقومين أقل من اثنين ، وذلك لأن القرآن الكريم حكم في جزاء قتل الصيد في حالة الاحرام أن يحكم بمثل ما قتل رجلان عدلان فقال تعالى : (...ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ...) وقد فهم من هذا النص وجوب وجود الحكمين الخبيرين العدلين في هذه المسألة ،وهو أصل صالح لمسألتنا في التقويم ، وذلك لأن التقويم مما تختلف فيه وجهات النظر فلاد بدّ من وجود عدلين لترجيح رأي على آخر ، كما أن القيم تختلف على حسب الأحوال والأزمان والأماكن فلا بدّ من وجود اثنين .
وهذا إذا لم يتراض أصحاب الشأن بتحكيم شخص لتقويمه ، أما إذا تراضوا وتنازلوا على حكمه فلا أرى مانعاً لذلك ، وكذلك إذا تراضوا بينهم بالمعروف على عوض المثل فلا يوجد مانع من جواز ذلك أيضاً .
ومن الجدير بالتنبيه عليه هو أنه يشترط في المقوم أن يكون عدلاً خبيراً بقيمة الشيء المقوم .
المسألة الثالثة : اختلاف المقومين والمقدرين في عوض المثل :
فقال بعضهم : يقدر بكذا ، وقال الآخر : يقدر بكذا .
في هذه الحالة اختلف الفقهاء أيضاً ، فذهب بعضهم إلى ترجيح ما هو الأكثر ، وبعضهم إلى ترجيح الأقل ، لأن المتيقن ، والزائد مشكوك فيه فلا يلزم بالشك ، في حين ذهب فريق ثالث إلى التفصيل فقالوا : يؤخذ في الغرم بالأقل ، وفي غيره مثل الغصب بالأكثر .
والذي يظهر لي رجحانه أن المقومين الخبراء إذا اختلفوا في التقويم فيرجح جانب الأكثرية لأن رأي الاثنين ـ في الغالب ـ أفضل من رأي واحد ، وإذا كانوا متساويين من حيث العدد فيضاف إليهم خبير آخر ، أو تشكل لجنة أخرى لتبت في الموضوع .
ثم إنه لا يشترط الوصول في التقدير إلى القطع والتحديد ، بل يكفي الظن والتقريب ، قال الزركشي : ( إن ما توقف على التقويم ، وعرض على أهل الخبرة وحكموا بالتقويم تقريباً ، فهو المتبع في سائر الأبواب ، وان تطرق إليه تقدير النقصان ظناً إلاّ في باب السرقة فإنه لا يعتمد عند المحققين لسقوط القطع بالشبهة ، فلا يجب الحد ما لم يقطع المقومون ببلوغها نصاباً) .
المسألة الرابعة : ثبوت التقويم والتقدير غير العادل :
وقد أثار الفقهاء ما إذا قام المقومون بتقدير معين وقُضي به ، ثم قامت بينّة على أن التقدير غير عادل فهل ينقض التقدير الأول وما ترتب عليه ؟ ذكر السيوطي أن العلامة ابن الصلاح الشهرزوري سئل عن ملك اليتيم ، احتيج إلى بيعه ، فقامت بينة بأن قيمته مائة وخمسون ، فباعه القيّم بذلك ، وحكم الحاكم بصحة البيع ، ثم قامت بينة أخرى بأن قيمته حينئذ مائتان ، فهل ينقض الحكم ويحكم بفساد البيع ؟
فأجاب ـ بعد التمهل أياماً والاستخارة ، انه ينقض الحكم ، لأنه إنما حكم بناء على البينة السالمة عن المعارضة بالبينة التي مثلها ، وأرجح ، وقد بان خلاف ذلك ، وتبين استناد ما يمنع الحكم إلى حالة الحكم .
ونازعه في ذلك السبكي في فتاويه ، ومنع النقض ، قال : لأن التقويم حدس وتخمين ، ولا يتحقق فيه التعارض إلاّ إذا كان في وقت واحد ، وان سلمنا المعارضة فهي معارضة للبينة المتقدمة وليست راجحة عليها .... وكيف ينقض الحكم بغير مستند راجح .... وكما لا يقدم على الحكم إلاّ بمرجح فكذلك لا نقدم على نقضه إلاّ بمرجح ، ولم يوجد .
ثم إن قول ابن الصلاح : ( وقد بان خلاف ذلك ) ممنوع لأنه لم يبن خلافه بل أكثر ما فيه أنه أشكل الأمر علينا ، ولا يلزم من إشكال الأمر علينا أن نوجب النقض .
فعلى ضوء هذا أن الراجح هو أن التقويم الثاني إذا لم يكن معه ما يرجحه فلا يرجح على التقويم الأول الذي تعضد بحكم القاضي أما إذا وجدنا ما يرجحه ، ودلت القرائن على وجود الفرق بين التقديرين من حيث الواقع فإن التقويم الأول ينقض ، وينقض معه كل ما ترتب عليه .
هذا إذا كان التقويم الأول قد تعضد بحكم الحاكم ، أما إذا كان الأمر قبل الحكم فإن القاضي يأخذ بأي من التقويمين يحقق العدالة ، حيث يعمل فيه نظره واجتهاده ، وإذا ثبت له أن التقويم غير عادل فإنه لا يحكم به ، وإذا كان قد حكم به فإنه ينقضه ، كما سبق .
المسألة الخامسة : مدى تأثير الزيادة على ثمن المثل :
إذا كانت الزيادة كثيرة على ثمن المثل ، والبون شاسعاً بين قيمته وما قدر له ، أو على ضوء تعبير الفقهاء : كانت الزيادة فاحشة فإنها تؤثر على تفصيل فيه ، غير ان الخلاف قد ثار في الزيادة اليسيرة قال السيوطي : ( الزيادة اليسيرة على ثمن المثل لا أثر لها في كل الأبواب إلاّ في التيمم إذا وجد الماء يباع بزيادة يسيرة على ثمن مثله لم يلزمه مطلقاً في الأصح ، قال في الخادم : ومثله شراء الزاد ونحوه في الحج ، وأما الزياة الكثيرة ، وهي التي لا يتغابن الناس بمثلها ، ففيها فروع :
الأول : المسلم فيه تحصيله ولو باع بأكثر من ثمن المثل إذا لم يوجد إلاّ به ولا ينزل منزلة الانقطاع ، جزم به الشيخان ـ أي الرافعي والنووي ـ قال السبكي في فتاويه : وعلى قياسه إذا لم يوجد من يشتري مال المديون إلاّ بدون قيمته يجب بيعه والوفاء منه.
الثاني : إذا تلف المغصوب المثلي ولم يوجد مثله إلاّ بأكثر من ثمن المثل ، ففي وجوب تحصيله وجهان ، رجح كلا منهما مرجحون ، وصحح النووي عدم الوجوب ، لأن الموجود بأكثر من ثمنه مثله كالمعدوم ، قال السبكي : وفي تصحيحه نظر ...
الثالث : الرقبة في الكفارة لا يلزم شراؤها بأكثر من ثمن المثل عى المذهب واختار البغوي خلافه .
الرابع : إبل الدية إذا لم توجد إلاّ بأكثر من ثمن المثل لا يجب تحصيلها ، بل يعدل إلى قيمتها ، كذا جزم به الشيخان ، وبحث بعضهم : أن يجري فيها خلاف الغاصب ، قال البلقيني ... فلو كانت الزيادة يسيرة فيحتمل الوجوب كالتيمم ... والأول أقرب .
وذكر ابن نجيم الحنفي مسائل قريبة مما ذكره السيوطي .
المبحث الثاني : تغير القيمة الشرائية للنقود وأثره على المهور المسماة :
تمهيد
إن من مستجدات عصرنا اعتماد العالم كله على النقود الورقية في تعاملاتها والتزامها ، وفي رد الحقوق والالتزامات ، تاركاً النقود المعدنية ( الدنانير الذهبية ، والدراهم الفضية ) منذ أكثر من قرن ، بل قد ترك حتى الغطاء الذهبي منذ عام 1971، حينما تبرأت أمريكا عن هذا الغطاء ، وإنما تستمد هذه النقود قوتها من القانون والعرف .
ولا مانع شرعاً من اعتبار النقود الورقية نقوداً لأن مبنى ذلك أعراف الناس ، فمتى اتفق الناس على جعل شيء مقياساً للقيم ، ومخزوناً للثروة ، ومعياراً للمدفوعات الآجلة فقد أصبح نقداً معتبراً ، لأن العلة في النقدية هي الثمينة ، وأن التعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية ..... والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب ، لأن المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال ، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال ..... ) .
وقبل الإمام ابن تيمية رحمه الله ، قال الإمام مالك رحمه الله كلاماً رائداً ورائعاً حول الموضوع وهو : ( لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة ) بل إن الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه فطن لذلك ، حيث همّ أن يتخذ النقود من جلود الإبل ، فقيل له : إذا لا بعير ، فأمسك .
وهذا الرأي قد اعتمده قديماً جماعة من الفقهاء ـ بالإضافة إلى مالك وابن تيمية ـ منهم محمد بن الحسن الشيباني ، والشافعية في قولهم الثاني ، والحنابلة في المعتمد . قالوا ذلك في وقت كانت النقود الشائعة تنحصر في الدنانير الذهبية والدراهم الفضية .
وهذا ما أقرته المجامع الفقهية بدءاً من مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف ، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ، حيث جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي : قرار رقم 21(9/3) ما نصه : ( أولاً ـ بخصوص أحكام العملات الورقية : أنها نقود اعتبارية ، فيها صفة الثمنية كاملة ، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا ، والزكاة ، والسلم ، وسائر أحكام ) .
ولذلك لا عبرة بما يقوله بعض : من أن نقودنا الورقية ليست نقوداً يريد بذلك إباحة النظام البنكي القائم على الربا ، وإلا فيسأل هو نفسه : بأي شيء يتعامل في السوق ؟ يشتري ويبيع ؟ وبأي شيء تحدد مهور الزوجات والبنات والأخوات ؟ وبأي شيء تقوّم عروض التجارة في العالم كله ؟ وبأي شيء تتم ميزانيات الدول ، والشركات والمؤسسات ؟ بل إن قوله يؤدي إلى القول بأن العالم اليوم بدون نقود ولا أثمان ؟ فهذا القول يجافي الحق والحقيقية والواقع ، ويصطدم بالتطبيق في كل البلاد والعباد ؟!!!! كما أنه لا يجوز قياس نقودنا الورقية على الفلوس وما جزى فيها من خلاف ، لأنها لم تكن نقوداً مستقلة أبداً ، وإنما كانت مساعدة لشراء بعض الأشياء البسيطة التافهة .
والحق أن عملاتنا الورقية نقود اعتبارية ـ كما قال المجمع ـ لها صفة الثمنية كاملة ، وتطبق عليها أحكام الربا ، ونحوها من الأحكام الخاصة بالتعامل بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية .
هذا هو الأصل العام ، والمبدأ العام المعتبر ، والقاعدة الكلية المقررة ، فلا يجوز الاستثناء منها إلاّ بأدلة معتبرة ، وموجبات مؤيدة بمبدأ العدل ومقاصد الشريعة الغراء ، مثل حالات الانقطاع ، والكساد ، والتضخم ، والانكماش .
ومن هنا فنحن نبحث ـ بإيجاز شديد ـ ثلاثة حالات للمهور المسماة ونحوها عند الكساد ـ والانقطاع ، والتضخم أو الانكماش .
الحالة الأولى : حالة الكساد ، وهو أن تقوم الدولة بإلغاء النقود المتداولة ، وإحلال نقد آخر مكانها .
وذلك بأن حدد المهر بالروبية ، كما في الخليج أيام الاستعمار البريطاني ، ثم لما انتهى الاستعمار تبنت كل دولة عملتها الخاصة مثل الريال ، والدينار ، والدرهم ، أو كان المهر بالفرنك الفرنسي ، أو العملة الإيطالية أو الهولندية أو الأسبانية ، أو بالجنيه الذهبي ، أو الجنيه العادي كما هو الحال بالنسبة لمعظم بلادنا الإسلامية المستعمرة من قبل هذه الدول ، أو قامت الدولة نفسها بتغيير عملتها من حيث النوع ( من الفضة إلى الذهب أو بالعكس ) ، أو حتى الوزن والجودة ، كما كان في السابق .
وقد تطرق الفقهاء إلى آثار الكساد على العقود والحقوق والالتزامات بالنسبة لنقودهم السائدة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : بطلان عقد البيع الذي تم مؤجلاً بهذا النقد الذي أبطل ، وأما غيره مما ترتبت على الذمة من قرض ومهر مؤجل فيجب رد المثل ، وهذا قول أبي حنيفة .
القول الثاني : الرد بالمثل من الكاسد لا الجديد مطلقاً ، وهذا رأي الأكثرية من الفقهاء ولا يترتب على هذين القولين السابقين ظلم للدائن ، لأنهما في النقود المعدنية التي لها قيمة ذاتية سواء كانت دنانير ، أو دراهم ، ولذلك لا يمكن في نظري تنزيلها على نقودنا الورقية التي إذا ألغيت ذهبت كل قيمتها ، لأن قيمتها بقوة القانون والعرف ، وبالتالي فالقول برد النقد الملغي يترتب عليه ظلم كبير لا أعتقد أن أحداً من الفقهاء يقول به .
القول الثالث : الرد بالقيمة يوم الكساد ، وقال ابن عابدين : ( وهو المختار ) وهو رأي الحنابلة .
الحالة الثانية : حالة الانقطاع وهو كما يقول ابن عابدين : ( أن لا يوجد النقد في السوق ، وإن كان يوجد في أيدي الصيارفة وفي البيوت ) .
وأيا ما كان فإن حكم الانقطاع والكساد واحد كما في كثير في من كتب الحنفية :
قال ابن عابدين : ( والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب ، لكن قال في المضمرات : فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع ، وهو المختار ) .
ثم قال : ( وبه علم أن في الانقطاع قولين : الأول : فساد البيع كما هو في صورة الكساد ، والثاني : أنه تجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع وهو المختار ) وهذا على قول أبي حنيفة ، وسيأتي تفصيل لرأي أبي يوسف ومحمد .
والخلاصة : أن النقد الذي جعل ثمناً لبيع إذا كسد فسد العقد عند أبي حنيفة وإذا انقطع ففيه قولان : فساد العقد أو القيمة ـ كما سبق ـ وهناك تفصيل في حالتي الكساد قبل قبض الثمن وبعده ، حيث جاء في جواهر الفتاوى : أنه إذا باع شيئاً بنقد معلوم ، ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع ، ثم ينتظر إن كان المبيع قائماً في يد المشتري يجب رده عليه وإلاّ فيجب رد مثله إن كان مثلياً ، وقيمته يوم القبض إن كان قيمياً .
وإن كان العقد السابق إجارة ـ مكان البيع ـ فإنه تبطل الإجارة ، ويجب على المستأجر أجر المثل ، وإن كان قرضاً ، أو مهراً يجب ردّ مثله ، هذا كله على قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل ، وقال محمد : يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس ، قال القاضي : الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف ، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة .
ومذهب الحنابلة واضح بخصوص حالة الإلغاء والانقطاع ، قال ابن قدامة : ( وإن كان القرض فلوساً ، أو مكسرة فحرمها السلطان ، وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ، ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها ، لأنها تعينت في ملكه ، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة ، وقال : يقومها كم تساوي يوم أخذها ، ثم يعطيه ، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً ، قال القاضي : هذا إذا اتفق الناس على تركها ، فأما ان تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها .... ) ثم استدل لمذهب أحمد بأن تحريم السلطان لها منع إنفاقها ، وأبطل ماليتها ، فأشبه كسرها ، وأو تلف أجزائها ) .
وأما الشافعي فمذهبه على أنه ليس له إلاّ مثل فلسوه ، أو دراهمه التي سلف ، أو باع بها وإن أبطلها السلطان .
أي وقت يعتبر للقيمة ؟
ثم إن القائلين برعاية القيمة اختلفوا في الزمن المعتبر للقيمة على أربعة آراء :
1- ذهب بعضهم إلى أن العبرة بالقيمة في يوم العقد سواء كان بيعاً أو قرضاً أو غيرهما ، باعتبار أن ذلك هو اليوم الذي انشغلت فيه الذمة .
2- وذهب فريق ثان إلى أن العبرة هو يوم حلول الدين ، لأنه قبل حلول الأجل ليس للدائن الحق في مطالبة المدين ، وإذا لم يكن له هذا الحق فلا يتصور تقويم ما لاحق له في المطالبة به .
3- وذهب فريق ثالث إلى أن العبرة بيوم انقطاع السكة أو إلغائها وظهور نقد جديد .
4- وذهب بعض آخر إلى أن المعتبر هو يوم التحاكم فيها .
الحالة الثالثة : تغير قيمة النقود بالغلاء والرخص ، وهو ما يسمى في عصرنا الحاضر بالتضخم في حالة انتقاص قيمة العملة ، وبالانكماش في حالة زيادة قيمتها .
فقد اختلف الفقهاء في أثر تغير قيمة النقود بالغلاء والرخص على العقود والالتزامات الآجلة :
ـ فذهب جمهورهم إلى : أن الرد يكون بالمثل ، وأن لا عبرة بالرخص والغلاء في ردّ المثليات ( ومنها الدراهم والدنانير ، والفلوس ) .
ـ وذهب جماعة منهم أبو يوسف ، ومحمد في بعض الأحوال ، وبعض فقهاء المالكية ، ووجه للشافعية ، وبعض الحنابلة ، إلى : اعتبار القيمة وقيدها البعض بحالة تغير القيمة تغيراً يؤدي إلى الظلم ـ سيأتي لذلك تفصيل ـ .
هل تنزل هذه النقول السابقة على النقود الورقية ؟
أعتقد أن معظم هذه النقول والنصوص الفقهية على الرغم من أهميتها لا يمكن تنزيلها بصورة كاملة على نقودنا الورقية ، إذ إن النقود السابقة كانت من معادن ذهبية ، وفضية ، ونحاسية ، فتبقى حتى بعد إلغائها قيمتها المعدنية ، في حين أن النقود الورقية لا تبقى بعد إلغائها أية قيمة ، بل ولا يستفاد منها كورق ، فقيمتها في قيمتها المعتبرة في السوق ، ولكنه مع ذلك فإن أقرب شيء إليها هو الفلوس لذلك يمكن الاستئناس بما قاله الفقهاء حول الفلوس ، وأحكامها ، وأرى أن الفلوس أحسن حالاً من نقودنا الورقية ، فإذا كان بعض كبار فقهائنا السابقين قد قالوا برعاية القيمة في الفلوس ، فإن هذا الحكم لا بدّ أن يسحب على نقودنا الورقية بطريقة أولى في حالة الانهيار والتغير الفاحش.
تأصيل القضية ، وبيان المعايير والحالات الاستثنانية :
إذا سرنا على اعتبار أن الوفاء بالمثل هو الأصل والمبدأ ، والقاعدة العامة ، بحيث لا نخرج عنها إلاّ عند حالات استثنائية ، فحينئذ ينبغي البحث عن هذه الحالات وبيان نوع من المعيارية لهذه الحالات .
ثم إن هذا الخروج عن الأًصل إنما يتحقق في الديون والالتزامات الآجلة والعقود التي تؤجل آثارها عنها ، وذلك مثل القرض والحساب الجاري في البنوك ، والبيع الآجل ، والإجارات المؤجلة والمهور ، والرواتب والأجور ، وعقود المقاولات والاستصناع التي تؤجل أثمانها أو بعضها إلى مدد آجلة.
فالأصل والمبدأ العام والقاعدة العامة في كل ذلك هي : الرد بالمثل ، وأن العبرة في الرد إنما هي بالنقد الذي تم الاتفاق عليه جنساً وكماً وكيفاً إلاّ إذا حدث تغير بين قيمة النقد وقت نشوء الالتزام والعقد ، وقيمته وقت الدفع والأداء .
معيار التغير المؤثر :
إن معياره في نظري هو تحقق انهيار للنقد ، أو غبن كبير فيه ، يسميه الفقهاء بالغبن الفاحش ، وبعبارة أخرى فإن الشخص المدين إذا ردّ له مثل نقده فقد ظلم ظلماً بيناً ، إذن فالتغير في قمية النقود ( التضخم ) يؤثر في نظري في حالتين فقط :
الحالة الأولى : حالة الانهيار كما حدثت للمارك الألماني بعد الحرب العالمية الثانية ، والدينار العراقي الذي كانت قيمته قبل غزو العراق للكويت تساوي حوالي ثلاثة دولارات ، ثم بعد هزيمة العراق والحصار الاقتصادي وصلت قيمة الدولار الواحد إلى أربعة آلاف دينار عراقي .
ففي هذه الحالة يجب مراعاة التغير ( التضخم ) ويكون الرد بالقيمة ، أو بالتصالح والتراضي ـ كما سيأتي تفصيله ـ .
الحالة الثانية : حالة التغير الشديد ( التضخم الكبير ) بأن تصل نسبة الفرق بين قيمة النقد يوم القبض أو الالتزام ، وبين قيمته يوم وجوب الدفع الثلث أو أكثر .
ففي الحالتين نطرح الحلول الآتية :
الحل الأول :
رعاية قيمة النقد يوم عقد النطاح بالنسبة للمهر ، ويوم قبض القرض ، أو ثبوت الالتزام بالأجل في العقود الآجلة ، كالبيع الآجل ، والإجارة الآجلة ، ونحوهما .
الحل الثاني :
وجوب توزيع الضرر على المتعاقدين ( بالصلح الواجب ) :
ذهب ابن عابدين ( الفقيه الحنفي المعروف ) وشيخه العلامة سعيد الحلبي إلى أن الضرر الناتج من تغير قيمة النقود ( في غير الذهب والفضة ) لا بدّ أن يتحمله الطرفان ( البائع والمشتري والدائن والمدين ) ، فقال : ( وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر على شخص واحد ) .
ويمكن الإفادة من هذه الفتوى من عدة اعتبارات لها وجاهتها ، وهي :
1ـ أن ابن عابدين قال معللا ترجيح قوله هذا بأن : ( المسألة غير منصوص عليها بخصوصها ، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش ) .
وعلى ضوء ذلك نقول في موضوعنا هذا الخاص بالنقود الورقية : إنها غير منصوص عليها بعينها ، بل هي جديدة ومستحدثة فيجب النظر إليها والاجتهاد فيها على ضوء مقاصد الشريعة ومبادئها العامة من تحقيق العدالة والمساواة بين طرفي العقد ، وعدم الإضرار والضرار .
2ـ إن نقودنا الورقية هي مثل القروش التي ذكرها ابن عابدين ، حيث يتعين بالتعيين ، حيث قال : ( وإنما الشبه فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة ، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص ) .
ومن هنا يمكن الاستئناس بالفتوى الشائعة في عصر ابن عابدين عام 1230هـ التي استقرت على : ( دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعاً والخيار فيه للدافع .... ) ، فالذي اعترض عليه ابن عابدين هو أن يكون الخيار فيه للدافع ، وأن يختص الضرر بالبائع ، ولكن يستفاد منه دفع القيمة يوم العقد من حيث الجملة في النقود الورقية وهذا ينفعنا في القول بأن النقود الورقية ليست مثلية دائماً .
3 ـ يستفاد من مجموع ما ذكره ابن عابدين نظرية الأخذ بسلة العملات عند التقويم ، والأخذ بالأوسط منها ـ كما سنوضحها ـ .
4ـ كما يستفاد منه أيضاً نظرية الربط بمؤشر معين للقروش ، أي النقود غير الفضية والذهبية ـ كما سيأتي .
5 ـ إن العقود لا بدّ من رعاية الرضا الحقيقي ـ كما قال بعض المفتين ـ وكذلك التساوي بين العاقدين في الحقوق ، وفي توزيع الإضرار عليهما إن تحققت دون تخصيص أحدها بالآثار السلبية بدون الآخر .
الحل الثالث :
ربط النقود بأوسط القيم للنقود السائدة عند التعاقد :
ذكر ابن عابدين في موضوع ورود الأمر السلطاني بتغير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص أن الفتوى استقرت على ما ذكرناه في الفقرة السابقة ، ثم قال : ( فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ، ويدفع من أوسطها نقصاً ، لا الأقل ، ولا الأكثر كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري ) ، ثم رد على بعض المفتين في زمانه الذي أفتوا بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع ، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً فقال : ( ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري ) ، وكلام ابن عابدين هنا منصب على ما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ، ودفع غيرها بالقيمة فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص) .
ففكرة الأوسط من قيم النقود السائدة فكرة جديرة بالبحث والدراسة والقبول ، وعلى ضوء هذا يمكن أن نقول أنه في حالة تغير قيمة النق�
ساحة النقاش