عقل الطبقة الوسطي‏-3‏
بقلم: جابر عصفور


عندما تسلم أنور السادات مقاليد الرئاسة‏,‏ خلفا لعبد الناصر‏,‏ في سبتمبر‏1970‏ كان عقل الطبقة الوسطي منقسما بين ثلاثة تيارات‏,‏ أكثرها انتشارا وقوة التيار الناصري الذي لايزال رافعا شعاراته القومية الحرية والوحدة والاشتراكية‏.‏

 

وهي الشعارات التي جعلته يتحالف‏,‏ في تطبيقها‏,‏ مع التيار الاشتراكي الماركسي الذي بارك التحالف مع القوي الاشتراكية في العالم‏,‏ وعلي رأسها الاتحاد السوفيتي الصديق الذي وقف مع مصر في أحلك ظروفها أما التيار الثالث فكان تيار الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي وهو التيار الذي قمعته الناصرية‏,‏ في عدائهما المتبادل‏,‏ فلم يكن أمامه سوي المعتقلات الناصرية‏,‏ أو الهجرة إلي بلاد النفط التي احتضنته بوصفه عدو عدوها الذي لم يخف ممثلو هذا التيار شماتتهم في هزيمة عبد الناصر سنة‏1967,‏ ورد هذه الهزيمة إلي أنها جزاء وفاقا علي تخلي الحكم الناصري عن الدين‏,‏ وتحالفه مع أعداء الله من الملاحدة الشيوعيين وأعلن السادات في البداية أنه سيمضي علي طريق عبد الناصر الذي انحني أمام تمثاله في أول لقاء له بأعضاء مجلس الشعب الذي خاطبه بالجملة الشهيرة لقد جئتكم علي طريق عبد الناصر ولكن كان علي السادات أن يتخلص من رفاق عبد الناصر الذين شعر بأنهم يقيدون خطوه‏,‏ ونجح فيما أسماه ثورة مايو‏(1971)‏ التي أطاح فيها بنفوذ من أطلق عليهم مراكز القوة وكان عليه‏,‏ في إكمال هذه الإطاحة‏,‏ القضاء علي امتداداتها الفكرية بين فئات الشعب‏,‏ فكان لابد من الصدام مع الطلاب الناصريين الذين شعروا بتباطئه في استكمال مهمة تحرير الأرض التي كان عبد الناصر قد أكمل لها عدتها واضطره هذا الصدام إلي الإفراج عن الإخوان المسلمين من المعتقلات الناصرية‏,‏ ورد الاعتبار إليهم‏,‏ والتحالف معهم لمواجهة الأعداء من التيارات الناصرية والقومية واليسارية‏,‏ وذلك في سياق أخذ يشهد‏,‏ تدريجيا‏,‏ التقارب مع الولايات المتحدة‏,‏ مقابل إزاحة الصديق القديم الاتحاد السوفيتي وإلغاء التحالف معه‏,‏ مقابل إعادة الوصل مع نقيضه الرأسمالي والتقارب البديل معه‏.‏
ولكي يكتمل التوجه السياسي الجديد كان لابد من تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية وإيديولوجية‏,‏ فجاء الإعلان عن الانفتاح الاقتصادي مرادفا للاشتراكية الديموقراطية المصاحبة لإعلان المنابر‏,‏ تمهيدا لإعلان التعددية السياسية‏,‏ خصوصا بعد نصر أكتوبر‏1973‏ الذي صنعته عبقرية العسكرية المصرية وكفاءتها العالية في التخطيط والتنفيذ‏,‏ ولحق بإعلان التعددية السياسية‏,‏ العمل الحاسم من الأجهزة الإيديولوجية للدولة لإعادة تغيير وعي الأمة‏,‏ وتحويل توجهات عقل الطبقة الوسطي‏,‏ كي يتحول التوجه الجمعي من الناصرية إلي الساداتية‏,‏ ومن رأسمالية الدولة التي توهمت الناصرية أنها اشتراكية إلي الاقتصاد الحر الذي يتفق مع التقارب المتزايد مع العالم الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة‏,‏ والتلويح بتطبيق الديموقراطية الغربية بديلا من سيطرة الطبقة العاملة‏,‏ توسيعا لنفوذ الرأسمالية الوطنية لتعمل بلا حسيب ولا رقيب‏,‏ تحت شعارات الاقتصاد الحر التي سرعان ما أعلنت رسميا‏,‏ بعد تحطيم المعتقلات الناصرية ونتيجة لذلك‏,‏ واتساقا معه‏,‏ أسلم السادات مفاتيح الجامعات المصرية لجماعات الإسلام السياسي‏,‏ كي تستئصل وجود الناصريين والقوميين واليساريين‏,‏ كما أباح لهم من وسائل الإعلام ما أعاد صوتهم الذي يبشر بالدولة الدينية‏,‏ بعد أن ترسخت الدولة المدنية‏,‏ وبدأت وعود أسلمة الدستور والقوانين لكي يكون الدين الإسلامي هو المرجع في كل صغيرة وكبيرة‏,‏ نسيانا لقاعدة أنتم أدري بشئون دنياكم وسمح للجماعات الإسلامية بالنفاذ إلي التعليم في سبيل تغيير وعي الناشئة من أبناء الطبقة المتوسطة‏,‏ وذلك في موازاة اختراق المؤسسات التضامنية للمجتمع‏,‏ أعني النقابات وما يوازيها‏,‏ جنبا إلي جنب مطاردة الناصريين والقوميين واليساريين في منابر الإعلام المختلفة‏,‏ الأمر الذي أدي إلي أكبر هجرة للمثقفين المصريين إلي المنافي الاختيارية‏,‏ أو الأقطار العربية التي تقبلتهم ولم يتردد النظام الساداتي في دخول التحالف الأمريكي السعودي لإرسال المتطوعين من جماعات الإسلام السياسي لمحاربة النفوذ السوفيتي في أفغانستان‏,‏ دعما للأهداف الأمريكية وتحقيقا لمصالحها وهكذا‏,‏ انقلبت الساداتية علي الناصرية في كل مجال‏,‏ دون حتي اعتراض علي كل المحاولات الفاشلة لتشويه صورة عبد الناصر الذي عاش كما مات فقيرا‏,‏ زاهدا في متاع الدنيا الزائل وظل علي إصراره في تحقيق حلمه القومي إلي أن مات بعد أن نجح في إيقاف نزيف الدم العربي في الصدام الأردني الفلسطيني‏.‏
وبدأت أكبر عملية أيديولوجية لتحويل توجهات العقل الجمعي للطبقة الوسطي بكل طاقة الأجهزة الأيديولوجية للدولة الساداتية‏,‏ في المدرسة والجامعة‏,‏ والبيت والعمل‏,‏ وفي التشريع والقانون والدستور‏,‏ وفي وسائل الإعلام المختلفة ومارست الجماعات الإسلامية حريتها الكاملة في العمل السياسي والدعوي الدينية في الوقت نفسه‏,‏ وغرست بذرة التمييز الطائفي وجرثومته الضارة التي كان علي مصر أن تدفع الثمن المر لنموها الذي تحول إلي فيروسات معدية‏,‏ تنشر التفرقة بين الإخوة الذين آمنو بأن الدين لله والوطن للجميع فأصبحوا يؤمنون بدعاوي تمييز ديني لا نتيجة لها سوي تدمير الوحدة الوطنية‏,‏ والقضاء علي أمن الوطن بتحويل الأشقاء المتحابين إلي إخوة أعداء وهكذا‏,‏ أخذت الجامعات المصرية تعرف من يقول لأبنائها المصريين إن المسلم الهندي أقرب إليكم من المسيحي المصري‏,‏ وإن انتماءكم الحقيقي للدين لا الدولة‏,‏ وإن القرآن هو دستوركم لا الدستور الوضعي الذي هو علامة علي أنكم تعيشون زمن الجاهلية وشهدت هذه الجامعات‏,‏ في الوقت نفسه‏,‏ من يطارد الطلاب والطالبات الناصريين بالجنازير‏,‏ ويزرع الفرقة بين المسلم والمسيحي‏,‏ ويدعو إلي نوع سلفي متشدد من إسلام معاد للدولة المدنية التي أصبحت دولة الكفر والإلحاد في زمان الجاهلية‏.‏
وعندما انتبه السادات إلي أن خطر جماعات الإسلام السياسي أصبح أكبر من قدرته علي السيطرة عليه‏,‏ أو مواجهته‏,‏ كان الوقت قد فات علي إمكان الحل‏,‏ وانفلت المارد الكبير من قمقمه الصغير‏,‏ ولم يتردد في اغتيال من أخرجه‏,‏ في نوع حزين من الدراما المأساوية التي ختمتها الطلقات التي استقرت في جسد السادات‏,‏ في ذكري احتفاله بنصره وكان ذلك في أكتوبر‏1981,‏ بعد أن تغير عقل الطبقة الوسطي‏,‏ وتحولت توجهاتها‏,‏ عبر إحدي عشرة سنة من العمل الدءوب الذي نقلها من حال إلي حال أعني من الإيمان بحتمية الحل الاشتراكي إلي الإيمان بحتمية الحل الرأسمالي‏,‏ ومن مجانية التعليم إلي ضياعها الفعلي مع فساد التعليم‏,‏ ومن التمسك بالدولة المدنية إلي الوقوع في شباك التبشير بالدولة الدينية‏,‏ ومن حلم التحرر الوطني الكامل إلي الوقوع في شراك نوع جديد من التبعية‏,‏ ومن مصر القوية إلي مصر الضعيفة التي يتطاول عليها حتي الصغار‏,‏ ومن حلم العدل الاجتماعي إلي واقع الاستغلال‏,‏ تحت شعار الانفتاح الاقتصادي الذي انقلب إلي اقتصاد منفلت يزيد الفقراء فقرا والأغنياء غني‏,‏ ومن معرفة النماذج الوطنية الرائعة إلي معرفة نماذج تستبدل المال بالوطن‏,‏ ولا تتردد في شراء السلطة بالثروة ودخل عقل الطبقة الوسطي مرحلة من التحول الصعب في زمن لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتي قتله‏,‏ زمن وصفه عبد الرحمن الأبنودي بقوله في المشروع والممنوع‏:‏
هذا زمان الأونطة
والفهلوة والشنطة
تعرف تقول جود نايت
وتفتح السمسونايت
وتبتسم بالدولار
تقفل بيبان الوطن وتقول بتفتحها
وترمي مفتاحها
وتبيع في أمك وأبوك؟‏!‏
المضحك المبكي‏,‏ في هذا السياق الذي تحول فيه عقل الطبقة الوسطي وتغيرت توجهاته‏,‏ أنه ظل بلا إرادة فاعلة‏,‏ جماهيريا‏,‏ في الزمانين المتضادين الناصري والساداتي‏,‏ فلم يستشره أحد في أن يكون الحل الاشتراكي هو الحل في الزمن الناصري‏,‏ ولم يأخذ أحد رأيه في أن يكون الانفتاح الرأسمالي هو الحل في الزمن الساداتي‏,‏ ومع ذلك كان كلا الزمانين يتحدث باسم الشعب بأعلي صوته‏,‏ ولا يكف عن الإعلان بأن كل تحول إنما هو لصالح الجماهير العريضة أو من أجل تقدمها‏,‏ رغم أن واقع الحال كان يؤكد أن هذه الجماهير العريضة لم تستشر‏,‏ وظلت علي ما هي عليه في الزمانين لا تملك إرادة تحديد مصيرها‏,‏ فقد ظل عقل الطبقة الوسطي‏,‏ مثل وعي الجماهير‏,‏ سلبيا‏,‏ لا يصوغ مستقبل وطنه علي هواه‏,‏ وبناء علي إرادة حرة في انتخابات نزيهة‏,‏ تحدد المصير المطلوب حسب إرادة أغلبية حقيقية‏,‏ وإنما بحسب إرادة عليا مستبدة‏,‏ حتي لو كانت عادلة ولذلك ترسخ في عقل الطبقة الوسطي الإذعان للسلطة‏,‏ وترديد ما يطلب منه أن يقول‏,‏ والسير أينما يراد له أن يسير‏,‏ فقد كان هذا قدره‏,‏ ما ظل يعيش في ظل نظام سياسي لا يعرف معني الديموقراطية أو حتي لوازم الدولة المدنية الحديثة‏.‏
 

 

المزيد من مقالات جابر عصفور
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
7 تصويتات / 161 مشاهدة
نشرت فى 10 يناير 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,624,403