بقلم: د. وحيد عبدالمجيد
لم تنتج ظاهرة الإحياء الإسلامي معرفة جديدة تميزهاوتتميز بها, بالرغم من محاولات شتي تكررت في هذا المجال تحت عنوان أسلمة المعرفة ويبدو هذا العنوان دقيقا من حيث تعبيره عن نظرة سطحية في مجاله.
فالمعني المتضمن في هذا العنوان هو إضفاء شكل إسلامي علي معارف تراكمت من خلال التقدم العلمي في الغرب بالأساس, وليس السعي الي إنتاج معرفة جديدة عبر عمل جاد يقوم به علماء ومثقفون مسلمون.
ولذلك لم تثمر الجهود التي بذلت في مجال أسلمة المعرفة شيئا يذكر. وما كان لها أن تفعل, وهي التي لم تكن أكثر من انعكاس لظاهرة تدخل في نطاق ردود الأفعال وتخرج عن دائرة الأفعال. وبالرغم من أن طابعها إحيائي إذ استهدف بعث ما يعتبره أنصارها أنماطا إسلامية في الحياة والمجتمع والسياسة, فقد ظل هذا الإحياء محصورا في استعادة القديم وإعادة إنتاجه, وبعيدا عن التجديد والإبداع.
ولذلك, لم يدرك أنصار الإحياء الإسلامي في مجال المعرفة أنه لا توجد معرفة إسلامية وأخري مسيحية وثالثة هندوسية, ولا معرفة شرقية وأخري غربية, بل هناك معارف ينتجها العقل الإنساني حين يزداد علما ويتحرر من القيود. وعندما يكون الإنسان منتج المعرفة أمريكيا أو أوروبيا, تزداد قوة بلاده ومكانتها. ولو أن الإنسان المسلم ينتج المعرفة لارتفع شأن العالم الإسلامي دون حاجة الي التحايل عبر رفع شعارات خالية من المحتوي. ولو أن المعرفة تنتج في العالم الإسلامي, لما تدهورت أوضاعه وتراكمت مشاكله وتصور بعض أبنائه أن إنقاذه يتطلب إحياء دينيا بطريقة أهل الكهف وليس عبر التجديد المستند علي أفضل ما في تراثنا.
والحال أن الطريقة التي اعتمدت منهجا للإحياء الإسلامي معرفيا وثقافيا اتسمت بسطحية غالبة مع استثناءات قليلة غير مؤثرة, فلم تنتج ما يميز هذا الإحياء أو يجعل له قيمة مضافة. ومع ذلك, تتواصل هذه السطحية دالة علي أن الإحيائيين الإسلاميين يقنعون بالشكل أو لا يقدرون علي غيره.
وكان آخر تجليات هذه السطحية حتي الآن في مجال الموضة وعروض الأزياء. فقد بدأت عروض الأزياء ومهرجانات الموضة الإسلامية في الانتشار أخيرا. وكان أكبرها عرضا ضخما في كوالالمبور قبل أسابيع قليلة. كما شهد بعض فنادق القاهرة عروض أزياء إسلامية محدودة النطاق خلال الفترة الأخيرة, اشتهر أحدها بسبب مشاركة فنانة محجبة فيه باعتبارها عارضة وليست ضيفة!
ويعني ذلك أن مصممي هذه العروض لم يكتفوا بإعادة إنتاج النمط الغربي السائد بأساليبه وطقوسه نفسها دون تغيير إلا في نوع الملابس المعروضة, بل ضربوا عرض الحائط بالقواعد المهنية التي لا يعرفونها معتقدين أن عرض الأزياء لا يعدو أن يكون حفلة تكتمل أركانها بوجود عدد من الناس فيها بلا معايير أو مقومات.
وتجلت سطحية أنصار الأسلمة في مجال عروض الأزياء في عدم إدراك أن لهذه العروض ثقافة أنتجت طريقة تنظيمها وطقوسها وأن أسلمتها تتطلب بالتالي أسلوبا آخر وطقوسا مختلفة تعبر عن ثقافة مغايرة. فلا يكفي, والحال هكذا, أن تكون الأزياء إسلامية محجبة. المهم هو أن تكون طريقة عرض هذه الأزياء والطقوس التي تحيط تقديمها مختلفة. فاختلاف طريقة العرض وطقوسه هو المعيار الجوهري, وليست الأزياء التي يختلف المسلمون عليها بين من يرون أن الأساس هو الاحتشام ومن يصرون علي الحجاب ومن يحاولون الدفاع عن النقاب.
ولذلك, يخطيء من يصفون عروضا تقدم فيها أزياء للمحجبات بأنها إسلامية, وإلا جاز وصف أي مكان توجد فيه بضع نساء محجبات بأنه إسلامي.
غير أن هذا ليس هو الدليل الوحيد علي سطحية محاولات أسلمة عروض الأزياء. فقد تجلت هذه السطحية فيما هو أبعد من ذلك, حين تبين أن منظمي عروض الأزياء الإسلامية يجهلون أنهم يتعاملون مع مهنة لها فلسفاتها ومدارسها المختلفة, مثلهم في ذلك مثل من يظنون أن هذه العروض لا تحتاج سوي الي مكان وأزياء جديدة وفتيات ممشوقات رشيقات.
ولأن هذه مهنة تراكمت فيها الخبرات والمعارف والمهارات, يصبح اختزالها علي هذا النحو ابتذالا يؤدي الي عمل من أعمال الهواة في أفضل تقدير.
ويعرف المعنيون بهذه المهنة, ومن يتابعونها, أن ثمة مدارس فيها من أهمها مدرسة تري أن مفتاح الأناقة لا يكمن فقط في الثوب, بل في الحياة التي يضفيها مرتدو هذا الثوب عليه.
ولو أن منظمي عروض الأزياء الإسلامية محترفون لعرفوا أنه ليس صعبا التجديد فيها تعبيرا عن ثقافة مختلفة. فالمدارس الحديثة في هذا المجال تؤمن بعدم تقييد العارضة بطريقة معينة في العرض يفرضها عليها مصمم الثوب, بل تركها تتصرف بالطريقة التي تراها أفضل لكي يصل روح الثوب الي العقول والقلوب. وهي تري أن المصممين يخطئون عندما يفرضون علي العارضة نمطا معينا يجعلها أقرب الي الآلة, أو يطلبون منها مشية الروبوت الجافة.
والحق أن كفاءة عرض الثوب ترتبط ومدي قدرة عارضته علي إبراز روحه. وهذا هو ما يساعد علي التجديد في طريقة عروض الأزياء وطقوسها لو كان الراغبون في أسلمتها يدركون. ولكنهم لا يعون ذلك حتي الآن ولا يعرفون أن لعرض الأزياء محتوي أو مضمونا يمكن أن يساعد في تغيير طريقته وفقا لخلفية من ينظمونه. فالعرض الأكثر نجاحا, وفقا للمدارس الجديدة في هذا المجال, هو الذي يلفت الانتباه الي العلاقة بين الثوب ومن يرتديه ويظهر روحه وليس فقط جماله.
وعندئذ لا تكون عارضة الأزياء موديلا أو شماعة يعرض عليها الثوب, لأن طريقتها في العرض هي التي تضفي علي هذا الثوب ما يميزه. وفي هذه الحالة, يمكن أن تتغير تقاليد ظلت راسخة لفترة طويلة, مثل نحافة العارضة. فهذا التقليد يواجه تحديا قويا الآن من مداس جديدة تري أن النحافة البالغة ليست شرطا لعرض الثوب بشكل أفضل.
ويعني ذلك أن فرص التجديد والابتكار في طريقة عرض الأزياء أصبحت أكبر الآن من ذي قبل حين كان هذا العرض نمطيا أو منمطا. ويمكن أن يكون الاختلاف الثقافي مساعدا علي إبداع جديد يتعلق به. فالمدارس الجديدة في هذا المجال تفتح الباب أمام التعدد والتنوع, في الوقت الذي تتوافر معطيات تدعم امكانات تنوع عروض الأزياء علي أساس الاختلاف الثقافي, وتتيح فرصا غير مسبوقة للراغبين في ذلك لو أنهم يدركون.
المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد
ساحة النقاش