في مشكلات النقد العربي‏:‏ النظرية والتطبيق‏(2)‏
بقلم: د. علاء عبدالهادى


ربما كانت الممارسة النقدية هي السبيل الوحيد الي نقض اليقين الجمالي‏,‏ وزعزعة الركود الثقافي الذي يتستر تحت مايسمي المحافظة علي التراث‏,‏ وحماية التقاليد الأدبية والأصول الفنية العتيقة‏,‏ وكأنها مقدسات لايجوز الاقتراب منها‏,

 


‏ أو مخالفتها‏,‏ الأمر الذي جعلها عبئا علي سياقنا الثقافي بدلا من أن تكون من أسباب تطوره‏,‏ هذا علي الرغم من أن تراثنا العظيم الممتد يحمل في طياته الثمين الذي يجب المحافظة عليه ومساءلته وتمثله‏,‏ كما يحمل في أثنائه الغث الذي يمكننا غض الطرف عنه‏,‏ وإهماله وتجاهله‏.‏
لاتكون أية ممارسة نقدية فاعلة إلا إذا تمسكت بحقها في البحث عن ممكنات جمالية جديدة‏,‏ وبحقها الآخر في مساءلة مايعتقده نقاد وشعراء تقليديون في أهمية بقاء القوانين الإبداعية الموروثة سائدة‏,‏ لا يصح الاقتراب منها‏,‏ أو تغييرها‏,‏ علي الرغم من كونها مجرد تقاليد إبداعية تاريخية يمكن مجاوزتها‏,‏ ومن المحال ان تظل صالحة علي ماهي عليه‏,‏ لكل مكان وزمان‏.‏ وقد دعم من رسوخ هذه المعتقدات الفنية‏,‏ والتقاليد الأدبية التاريخية‏,‏ التي قيدت الإبداع طويلا‏,‏ طبيعة التلقي الأدبي الذي اعتاده جمهور القراء‏,‏ بسبب ما خلقته الألفة فيهم‏,‏ بالمكرور والمعروف‏,‏ من اطمئنان وثقة‏,‏ ويظل علي أية حال الوعي النقدي‏,‏ مشكلة اجتماعية في الاساس‏,‏ وهو وعي لايمكن دعمه علي أي مستوي‏,‏ دون فتح الانساق المعرفية كافة‏,‏ للبحث والمساءلة‏.‏
وكان من تجليات هذا السلوك النقدي السلفي وقوف فريق اكاديمي‏,‏ ومعه فريق ابداعي تقليدي‏,‏ لكنه مؤثر ليس بما يطرحه من ابداع‏,‏ ولكن بما يحمله من مساحات صحفية‏,‏ ونفوذ ادبي‏,‏ موقف العداء من الاجتهادات الأدبية والنقدية الجديدة التي خاصمت آليات الاحتذاء‏,‏ وطريق الكتابة المعتادة‏,‏ الأمر الذي ساعد علي إقصاء كل مالا ينتمي الي شكول الأدب الابداعي التقليدي‏,‏ شكلا وموضوعا‏,‏ عن حياتنا الأكاديمية‏,‏ لصالح أدب واهن متهافت علي المستوي الجمالي‏,‏ قامت عليه‏(‏ للأسف الشديد‏)‏ دراسات أكاديمية كثيرة‏,‏ حجبت الإبداعات الأدبية الجديدة‏,‏ او الاجتهادات النقدية الجادة‏,‏ في محيطنا الثقافي‏,‏ فظل الإبداع الشعري والقصصي والدرامي الجديد في مصر بخاصة‏,‏ والعالم العربي بعامة محلقا بعيدا عن خطابيه الاكاديمي والإعلامي اللازمين لإنعاشه‏.‏
وتجدر الإشارة هنا إلي أن كتلة كبيرة من النقود المنشورة في صحافتنا الأدبية‏,‏ لا تزيد علي كونها متابعات متهافتة‏,‏ ونقود مدرسية ركيكة‏,‏ شارحة في أفضل أحوالها‏,‏ لاتخلو من أحكام قيمة تأتي من خارج مايمليه النص‏,‏ وقد تعتمد في أحيان كثيرة علي العلاقات الشخصية بين الناقد‏,‏ والمبدع‏,‏ بل تجاوز ذلك الي المدح المتبادل بين مبدعين مثلا‏,‏ فنادرا ما تقع العين الآن علي نقود لا علاقة فيها بين الناقد والمؤلف سوي النص‏,‏ كما كان سائدا في الماضي القريب‏.‏ ويصعب علي الجانب المقابل أن نغض الطرف عن أن هناك الكثير من الدراسات النقدية التطبيقية الأكاديمية التي قامت علي اهمية المبدع الاعلامية‏,‏ او الصحفية‏,‏ بصرف النظر عن اهمية العمل الإبداعي ذاته‏,‏ وهذا ما وسم مثل هذه الاعمال النقدية بسلوك انتهازي مشين‏,‏ حمل فيه النجم ناقده‏,‏ وقدمه الي جمهوره‏!‏ هكذا اصبح جزءا من النقد الأكاديمي في جامعاتنا مهتما بالمبدع ومكانه‏,‏ اكثر من اهتمامه بالإبداع ومكانته‏.‏أما علي مستوي الأداء النقدي في علاقته بالمنقول من النظرية النقدية المعاصرة‏,‏ يلاحظ المتأمل لمشهدنا النقدي غفلة عدد كبير ممن يطلق عليهم نقاد الحداثة عن أطوار التخلق والتحول التي خضع إليها عدد من هذه المناهج‏,‏ والنظريات‏,‏ هذا فضلا عن جهل عدد منهم‏,‏ وذلك من واقع كتاباتهم النقدية‏,‏ وأمثلة هذه الكتابات أشهر من أن تعرف‏,‏ بالتسلسل التاريخي للنظرية الواحدة‏,‏ بالإضافة الي غفلة أكثرهم عن الأسس المعرفية‏,‏ والفلسفة والسياقات الإبداعية التي صدرت عنها هذه النظريات المعاصرة‏,‏ باستثناء قلة ممن تعلموا في الخارج‏,‏ وهذا ماكان سببا في قطع الصلة بين النظرية النقدية في إطارها التجريدي والإجرائي‏,‏ وجذورها الفكرية‏,‏ في واقعنا الأكاديمي بخاصة‏,‏ فإذا أضفنا الي ذلك وجود تشابكات داخلية عميقة علي مستوي المدرسة الواحدة‏,‏ او علي مستوي المدارس النقدية المختلفة‏,‏ في علاقات النظريات النقدية ـ تأثيرا وتأثرا ـ بعضها ببعض‏,‏ والي ارتباطها بالخطاب الفلسفي الغربي الحديث‏,‏ الذي أصبح مطلبا لا غني عنه لدارس النظرية النقدية المعاصرة امكننا ان نضع ايدينا علي سبب رئيس من أسباب هذا التخبط المعرفي في واقعنا النقدي‏,‏ الذي أنتج سياقا ثقافيا أضعف الحوار العلمي الجاد بين نقاد القديم ونقاد الحديث من جهة وبين الخطابين‏.‏ النقدي المعاصر والإبداعي المحلي من جهة اخري‏.‏
كما تجدر الإشارة الي أن جزءا من مشكلات واقعنا العربي النقدي‏,‏ كان سببه كثافة المنقول عبر الترجمة‏,‏ وسرعة تداوله في محيطنا النقدي دون تمثل أو درس‏,‏ فقد زاد هذا الخطاب النقدي النظري الذي يدرسه في جامعاتنا عدد ممن يطلق عليهم نقاد الحداثة لطلابهم‏,‏ دون ان يختبروه علي واقعنا الإبداعي من حدة مشكلاتنا الثقافية بدلا من ان يسهم في علاجها‏.‏ وقد تعلمنا من أساتذة عظماء مصريين وغربيين أن الناقد الأكاديمي الحق يجب ان يحتك طويلا بمنهج يتمثله‏,‏ تنظيرا ووعيا بأسسه الفلسفية والنقدية‏,‏ وتطبيقا بعد ذلك‏,‏ كي يتسني له الانتقال الي نظرية او منهج آخر‏,‏ وهكذا‏,‏ ذلك لأن الناقد لايزيد علي كونه طالب علم لايتوقف‏,‏ ولا يكتمل أبدا‏,‏ لأنه يراكم علي نحو مستمر‏,‏ وعلمي‏,‏ ودقيق‏,‏ نظرية بعد أخري‏,‏ واتجاها فكريا بعد آخر‏,‏ تنظيرا وتطبيقا‏,‏ بناء ونقضا‏,‏ وهو سلوك قلما نجده الآن‏,‏ في مشهدنا النقدي المصري المعاصر‏.‏
وفي هذا السياق‏,‏ يطل علينا وجه آخر للمشكلة وهو الوجه المرتبط ببحوث النقاد الأكاديميين حديثي العهد بالعلم والتخصص‏,‏ الذين قلدوا أساتذتهم في التعامل مع نظريات نقدية ومناهج لم يتمثلوها علي نحو صحيح‏,‏ إما بسبب ضعف قراءاتهم الفلسفية‏,‏ ووهن درايتهم بالأسس المعرفية والفكرية التي قام عليها عدد من هذه المناهج والنظريات‏,‏ أو بسبب اعتمادهم مراجع ثانوية مترجمة في الحقل الذي يدرسون فيه‏,‏ في ظل غياب لغة ثانية يطالعون بها هذه الاصول‏,‏ فشهدنا عددا كبيرا من الدراسات الأكاديمية‏,‏ في جامعاتنا المصرية‏,‏ تدعي الطابع العلمي دون إجراءاته‏,‏ وذلك من خلال رسائل علمية لاتجاوز في حقيقتها النقد الشارح القديم مكتوبا بلغة جديدة لاتخلو من خلل علي مستوي المصطلح‏,‏ وخلط علي مستوي الاجراء والمنهج‏,‏ وهذا ما أسفر عن عدد كبير من الدراسات المضحكةالتي أسهمت في ذيوع نقد متهافت لا قيمة له‏,‏ وحجبت في الآن ذاته نقدا منهجيا وعلميا جادا‏,‏ لم يحتل مكانه في الوسط الثقافي علي نحو قوي‏,‏ بسبب ذيوع الأول وانتشاره‏,‏ ربما كان القانون الاقتصادي الذي يقول ان العملة السيئة تطرد العملة الجيدة صحيح هنا ايضا‏,‏ ولا يمكن حقا ان نغض الطرف عن التأثير السلبي للأمية الثقافية التي يعاني منها مجتمعنا‏,‏ علي مكانة النقد وأهميته في مشهدنا الثقافي الراهن‏,‏ وهذا مايفرض علي الدولة ان تضع علي سلم الأولويات سياسات ثقافية جديدة علي نحو استراتيجي تكاملي‏,‏ بوصفها قضية مجتمع برمته‏,‏ لا مهمة وزير أو وزارة‏..‏ وللكتابة بقية‏.‏
 

 

المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 141 مشاهدة
نشرت فى 2 يناير 2011 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,686,206