بقلم: د. محمد قدري سعيد
يطلق تعبير' المناخ' علي المجال المحيط بالأشياء, ويتم وصفه بما يجري فيه من متغيرات صعودا وهبوطا, وما يستجد عليه من عوامل لم تكن فيه من قبل. وأقرب مثال له ما يحيط بالإنسان.
من مناخ حيوي درجنا علي تعريفه بدرجة الحرارة والرطوبة وسرعة الرياح..الخ وغير ذلك من العوامل المتغيرة في الزمان والمكان. ومن أجل ذلك عادة ما نستخدم أدوات قياس رقمية, وصورا للأقمار الصناعية, لكن ذلك لا يكفي للتنبؤ بمستقبل الأحوال الجوية بدون فهم للنموذج العام وكيفية تغيره من حالة إلي حالة أخري. وتستخدم كلمة' المناخ' أيضا في مجال الدراسات الإستراتيجية, فيقال' المناخ الاستراتيجي' ويقصد به ما يحيط بالإنسان والمجتمع والدول من متغيرات تمس حالة الأمن والطمأنينة فيها, وطبيعة التحديات والتهديدات التي تواجهها, وطبيعة تغيرها مع الزمان والمكان أيضا.
وفي حالة' المناخ الاستراتيجي' لا نملك وسيلة قياس رقمية بالمعني الحرفي للكلمة, ولكن مراقبة الأحداث وتسجيل تفاصيلها, وقياس معدلات التغيير واتجاهاتها, والتمعن في قياسات الرأي العام, وغير ذلك من الوسائل المساعدة تساعد في وصف المناخ الاستراتيجي وطبيعه تحولاته المستقبلية. وتعريف' المناخ الاستراتيجي' ووصفه وقياس حالته تقع في إطار مسئولية العسكريين والسياسيين والخبراء في المجالات المختلفة وكل من لهم اهتمام بالشأن العام. وكثيرا ما تخفق الدول والمجتمعات في رصدها للمناخ الاستراتيجي, فيغم عليها طبيعة التحديات المستقبلية, ونوعيات التهديد ومصادره واتجاهاته, وقد تدفع نتيجة عدم استعدادها لمواجهة ذلك تكلفة باهظة من الأموال والبشر. وعادة ما يكون العقد( عشر سنوات) الفترة الزمنية المناسبة للتنبؤ بطبيعة' المناخ الاستراتيجي' في المستقبل, حيث الصورة المحيطة واضحة, والعوامل المؤثرة ملموسة حيث يمكن الاعتماد عليها في التخطيط الفوري, ولا يمنع ذلك من القفز إلي أبعد من عقد واحد, بصرف النظر عن هامش الخطأ المتوقع الذي يمكن معالجته في المستقبل. وفي نهاية الأمر ينتج من كل ذلك' أجندة للمستقبل' لمواجهة التهديد والخطر في صورة خطط زمنية مبنية علي أهداف وأوليات واضحة.
ولو نظرنا إلي بداية العقد المنقضي لوجدنا أنه أعلن عن نفسه بقوة من خلال ظاهرة العولمة علي كل المستويات بما في ذلك المستوي الأمني. وظاهرة العولمة كان متفقا عليها من قبل في صورتها الاقتصادية والبشرية من خلال حركة البضائع والخدمات والأموال والأفكار والجرائم التقليدية لكنها فاجأت العالم مع بداية العقد المنصرم بأحداث11 سبتمبر في صورة هجوم عسكري ضد الولايات المتحدة وفي عقر دارها بمشاركة أفراد من دول مختلفة. ومنذ تلك اللحظة وحتي الآن, مازالت المعركة مشتعلة بين دول الأسرة الدولية من جهة والجماعات غير الحكومية العسكرية من جهة أخري التي تبنت الإرهاب كوسيلة لتحقيق أهدافها. وإذا كان العقد المنصرم قد بدأ بأحداث11 سبتمبر واختراق الإرهاب الدولي لحدود كثير من الدول, نجد العقد الجديد يبدأ باختراق واسع النطاق لمسرح المعلومات بواسطة جماعات غير حكومية ليس لها علاقة بالإسلام وتريد أن تثبت من وراء ذلك أن حواجز السرية قابلة للاختراق والانهيار, وتصر علي أن العالم سوف يدخل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بدون حواجز رقمية, وبدون كلمات سر للدخول إلي ساحة الحقيقة والمعلومات.
ولاشك في أن التليفون المحمول بدون منازع قد نجح في تشكيل أسلوب حياة الناس علي مستوي العالم كله في السنوات العشر الماضية, ولم تستطع دولة واحدة حتي الآن مهما كانت درجة انعزالها أن تتجاهل وجوده وأثره علي العلاقات المجتمعية. كما أن أثر الكومبيوتر ودوره في نقل الرسائل والمعلومات وتطوره لتحقيق الاتصال المباشر( صوت وصورة) بين سكان المعمورة لا يمكن تجاهله. ومصر وبرغم ما تقابله من تحديات في مجالات أخري أصبحت من الدول المتقدمة في هذا المجال. وعلي المستوي الأمني والعسكري تلعب التكنولوجيا دورا خطيرا في تطوير قدرات التسليح, حيث أصبح المكون المعلوماتي عنصرا أساسيا في مكونات السلاح. والاتجاه الآن في مجال الأسلحة التطور إلي الأصغر وليس الأكبر, كما أن دور الإنسان المباشر في استعمال السلاح في طريقه للانسحاب وترك ذلك إلي برامج ذكية قادرة علي توجيه التأثير بدقة وسرعة. وسوف نشهد في العقد الجديد حضورا أوسع للعلوم البيولوجية في مجال السلاح, كذلك استخدام الروبوت في أداء مهام بدلا من الجنود.
ولاشك في أن نبوءة البعض عن عالم مسطح وليس كروي, تعيش فيه البشرية في لحظة واحدة, وفي مجال معلوماتي واحد, وفي إطار منظومة عليا للقيم, في سبيله أن يتحقق في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. كما أن الدعوة لعالم بدون عوائق.
في الحركة والانتقال والسفر سوف تتغلب علي كل الأسوار الانعزالية. وعلي المستوي المصري والإقليمي من المتوقع أن يعكس المناخ الاستراتيجي المحيط بمصر هذه النوعية من المتغيرات العميقة. فلا مجال في المستقبل أن تتبني مصر وغيرها من دول المنطقة بدعوي السيادة مبادئ تتناقض مع قيم العولمة المتفق عليها من خلال الأمم المتحدة والمنظمات الدولية, ويجب أن نتذكر أن مصر كانت من المؤسسين للأمم المتحدة والمدافعين دوما عن قيمها العليا.
لن تفقد الولايات المتحدة أهميتها علي مستوي العالم والشرق الأوسط خلال العقد القادم, لكنها لن تكون الوحيدة في تشكيل السياسات الدولية والإقليمية. سوف يطغي مبدأ المشاركة علي أسلوب السياسات الأحادية مع صعود الصين والهند والبرازيل واليابان والاتحاد الأوروبي. ومصر من الدول المرشحة لتبني دور مهم في هذه المشاركة إذا أخذت في الاعتبار أهمية دورها في محيطها الحيوي داخل المنظومة العربية والشرق أوسطية. وفي هذا المجال يبرز علي السطح مجموعة من التحديات سوف تشكل المناخ الاستراتيجي المحيط بمصر مثل تصاعد نفوذ تركيا وإيران ودورهما في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط, ولامناص الآن من أخذ ذلك في الاعتبار عند وضع سياسات إقليمية لحل مشاكل المنطقة. وبالإضافة إلي ما سبق, وفي الجنوب من مصر, سوف تمثل مشكلة السودان واحتمالات انقسامه إلي دولتين تحديا أمام صانع القرار المصري, وكيفية معالجة ما قد ينشأ من جراء ذلك من صدام بين شمال السودان وجنوبه ودور مصر في معالجة هذا التحدي المباشر لمصالحها الحيوية. وهذه المشكلة ليست بعيدة عن أزمة مياه النيل وعلاقة مصر بدول منابعه, وكيفية تبني سياسات إقليمية رشيدة في هذا المجال.
وهناك عدد من التحديات الأخري سوف تفرض نفسها علي منطقة الشرق الأوسط خلال العقد القادم أولها التحدي النووي الإيراني والإسرائيلي. وقد تبين بالفعل خلال العقد الماضي خطورة هذا التحدي علي سلام المنطقة, وأن تركه بدون معالجة قد يؤدي إلي صدام مسلح, وانتشار نووي, وسباق تسلح علي المستوي التقليدي. ومن المتوقع العودة مرة أخري إلي مبادرات وسياسات التسعينيات من خلال المشاركة في حوارات إقليمية يكون تركيزها علي مستقبل المنطقة البشري والاقتصادي, وخفض مستوي التسلح, وإخلاء المنطقة من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخري. ولاشك في أن الشرق الأوسط يواجه تحديات أخري تمس حياة الناس مباشرة, مثل ندرة المياه والطاقة في كثير من الأماكن, وفي وجود انفجار سكاني ومخاطر من تغيرات في المناخ, وكلها قد تؤدي إلي نزاعات عسكرية واسعة. وإذا كنا في مجال التنبؤ للعقد القادم, يجب أن نعترف بأن احتمالات الحرب في الشرق الأوسط عالية بدرجة كبيرة إذا لم تحل المشكلة الفلسطينية واللبنانية, وإذا لم يبتعد الخطر النووي الإيراني والإسرائيلي.
المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش