إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدني ألا تعولوا
بقلم: د. زغلول النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل سورة النساء, وقد سميت السورة بهذا الاسم لكثرة ما ورد فيها من الأحكام الشرعية المتعلقة بالنساء.
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضايا التشريع لكل من المرأة, والأسرة, والبيت, والمجتمع, والدولة, وقضايا العبادات والجهاد في سبيل الله.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة' النساء', وما جاء فيها من التشريعات الإسلامية, وركائز العقيدة, والإشارات الكونية, ونركز هنا علي وجه الإعجاز التشريعي في رخصة تعدد الزوجات إذا كان هناك من الظروف الشخصية أو العامة, والقدرات الخاصة ما يبرر ذلك, وإلا فواحدة أو ما ملكت اليمين, خشية الوقوع في المظالم.
الإعجاز التشريعي في رخصة تعدد الزوجات
الزواج من سنن الفطرة التي شرعها الله- تعالي إعفافا للإنسان وسكنا للزوجين تسوده المودة والرحمة,وحفاظا علي استمرار النسل وعمران الأرض, ووسيلة للتواصل بين العائلات في المجتمع.
وقد بلغ من حرص الإسلام علي تطبيق سنة الزواج أن جعله كثير من فقهاء المسلمين واجبا يأثم المتثاقل عنه ما دام قادراعلي القيام بتكاليفه المادية والبدنية وذلك انطلاقا من قول رسول الله- صلي الله عليه وسلم-' النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم'( سنن ابن ماجه), ومن قوله- صلوات ربي وسلامه عليه-:' من كان منكم ذا طول فليتزوج فإنه أغض للطرف وأحصن للفرج ومن لا فالصوم له وجاء'( أخرجه الترمذي).
وقد أحاط الإسلام الزواج بكل ما يحفظ عليه استقراره واستمراره, ويحقق القصد منه في مودة وتراحم كاملين, تحقيقا لقوله- تعالي-:[ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون]( الروم:21)
والأصل في الزواج هو الإفراد, وذلك بدليل أن الله- تعالي- خلق لأبينا آدم- عليه السلام- زوجة واحدة, وأن نسبة الذكور إلي الإناث في المجتمعات العادية متقاربة جدا, ولكن الإسلام العظيم أباح رخصة التعدد إلي أربع زوجات كحد أقصي في الزمن الواحد إذا اقتضته الضرورة. واشترط علي الزوج المعدد العدل بين زوجاته والتسوية بينهن في المبيت والسكن والرزق. وقد استغلت هذه الرخصة وسيلة للتهجم علي شرع الله, علما بأن جميع المجتمعات البشرية من قبل كانت قد أباحت التعدد بلا حدود, مما تسبب في كثير من الفوضي والمظالم الاجتماعية, وجاء الإسلام ليضبط ذلك الأمر بمبرراته أولا, وبالعدل ثانيا, وبحد أقصي لا يتجاوز الأربع زوجات في الوقت الواحد, والدليل علي ذلك ما يلي:
1) قول ربنا- تبارك وتعالي-:[ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدني ألا تعولوا]( النساء:3).
2) علي إثر نزول هذه الآية قام رسول الله- صلي الله عليه وسلم- بأمر كل من كان معه أكثر من أربع نساء أن يمسك منهن أربع ويسرح الباقي وفي ذلك روي البخاري- بإسناده- أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم- وتحته عشر نسوة- فقال له النبي- صلي الله عليه وسلم-' اختر منهن أربعا'.
3) كذلك روي أبو داود- بإسناده- أن عميرة الأسدي قال: أسلمت وعندي ثمانية نسوة, فذكرت ذلك للنبي فقال:' اختر منهن أربعا'.
وعلي ذلك فإن الإسلام جاء ليحدد التعدد بأربع لا ليبيحه بغير حدود كما كان, ووضع قيودا منها القدرة علي القيام بأعباء الزوجية والعدل, وإلا فواحدة أو ما ملكت اليمين, وحينئذ تمتنع الرخصة المعطاة.
وأخرج البخاري عن عروة بن الزبير- رضي الله عنه- أنه سأل خالته أم المؤمنين السيدة عائشة- رضي الله عنها وأرضاها- عن قوله- تعالي-:[ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي...] فقالت:' يا ابن أختي! هذه اليتيمة تكون في حجر وليها, تشركه في ماله, ويعجبه مالها وجمالها, فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها, فيعطيها مثل ما يعطيها غيره, فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن, ويبلغوا بهن أعلي سنتهن في الصداق, وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن' قال عروة: قالت خالتي أم المؤمنين السيدة عائشة:' وإن الناس استفتوا رسول الله- صلي الله عليه وسلم- بعد نزول هذه الآية, فأنزل الله- تعالي-:[ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلي عليكم في الكتاب في يتامي النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن...] قالت أم المؤمنين السيدة عائشة:' وقول الله في هذه الآية الأخري:... وترغبون أن تنكحوهن... رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال'.
وفي التعليق علي هذا الحديث لأم المؤمنين السيدة عائشة- رضي الله عنها- ذكر صاحب الظلال- رحمه الله رحمة واسعة- ما نصه: وحديث عائشة- رضي الله عنها- يصور جانبا من التصورات والتقاليد التي كانت سائدة في الجاهلية, ثم بقيت في المجتمع المسلم, حتي جاء القرآن ينهي عنها ويمحوها, بهذه التوجيهات الرفيعة ويكل الأمر إلي الضمائر, وهو يقول:[ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامي...] فهي مسألة تحرج وتقوي وخوف من الله إذا توقع الولي ألا يعدل مع اليتيمة في حجره, ونص الآية مطلق لا يحدد موضع العدل, فالمطلوب هو العدل في كل صوره وبكل معانيه في هذه الحالة.
وتعدد الزوجات بجميع التحفظات التي قررهاالإسلام هو رخصة يقدمها شرع الله في عدد من الحالات الخاصة أو العامة دون أدني غلو أو تفريط, ومن هذه الحالات ما يلي:
(1) إذا ثبت أن الزوجة عاقر, لا يمكن لها أن تحمل وتلد, وللزوج رغبة فطرية في النسل, فله أن يتزوج مع المحافظة علي زوجته الأولي إذا قبلت بزواجه الثاني.
(2) إذا مرضت الزوجة مرضا مزمنا يطول برؤه أو يستعصي علي العلاج فيصبح الزواج الثاني أفضل من الطلاق.
(3) إذا كان هناك أسباب صحية أونفسية تحول دون التوافق بين الزوجين مع رغبتهما في الإبقاء علي رباط الزوجية.
(4) إذا كان الزوجان متقاربين في السن, أو كانت الزوجة أكبر سنا من الزوج, فإن هذا الوضع يحدث فارقا في رغبات كل منهما الفطرية, وذلك لأن فترة الإخصاب عند المرأة تتوقف في أواخر العقد الخامس بينما مستمر في الرجل إلي أواخر العقد السابع أو تتجاوزه.
(5) في حالات الحروب يزيد عدد الإناث البالغات زيادة ملحوظة علي عدد الذكور البالغين, والحل الوحيد الذي يحافظ علي سلامة المجتمع وطهارته من انتشار العلاقات غير المشروعة,وتوابعها النفسية والأخلاقية والاجتماعية المخيفة, هو التعدد, والبديل هو فساد المجتمع, أو إجبار الإناث البالغات علي مخالفة الفطرة, وما يتبعها من متاعب نفسية وصحية مدمرة.
وفي جميع هذه الحالات يوكل فقهاء الإسلام الأمر بقبول التعدد إلي المرأة, فإن قبلته- علي أنه أقل الأضرار- دون أدني إكراه فبها ونعمت, وإن رفضته( فتسريح بإحسان), وذلك لأن الأمر في موضوع الزواج ـ ابتداء وتعددا ـ موكول إلي المرأة, تقبل منه ما تري فيه راحتها النفسية, وترفض منه ما لا تري فيه رضاها وقدرتها علي التحمل.
ومن معجزات القرآن الكريم أن أعلي حد لاختلال نسبة الإناث البالغات إلي الذكور البالغين لم تتعد أبدا نسبة(1 ـ4) وذلك نتيجة للحروب الواسعة النطاق كالحربين العالميتين الأولي والثانية, وقد استمرت الأولي لأكثر من أربع سنوات متواصلة, وكان ضحاياها من القتلي أكثر من عشرين مليون نفس, ويقدر المشوهون بضعف هذا الرقم واستمرت الثانية لست سنوات متتالية وكان قتلاها أكثر من خمسة وخمسين مليونا من الأنفس, كان أغلبهم من الشباب المقاتلين والمدنيين, ويقدر المشوهون بأضعاف هذا الرقم). وحين يأتي القرآن الكريم ليحدد أعلي نسبة لتعدد الزوجات بأربعة, يعتبر شهادة صدق علي أن هذا تحديد من رب العالمين الذي لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء, وذلك لأن اختلال نسبة الإناث إلي الذكور لم تتجاوز تاريخيا نسبة(1 ـ4), بل دارت في حدودها.
ولعل انتشار فوضي العلاقات الجنسية في مختلف المجتمعات غير المسلمة, وما يسودها من مختلف أمور استباحة الأعراض, وزنا المحارم, والشذوذ الجنسي, والعزوف عن الزواج, أو المساكنة بين الجنسين دون أدني رباط, والخيانات الزوجية المتبادلة بين الطرفين, والمخادنات السرية والعلنية, وما يرافق ذلك من الأبناء غير الشرعيين, وارتفاع معدلات الطلاق, وكثرة العوانس, وما يرافق هؤلاء من المآسي الإنسانية والمشاكل النفسية والاجتماعية, وضياع الأخلاق, وانحطاط المعايير, وانقلاب الموازين, وانتشار الجرائم, ولعل في ذلك- وفي ما هو أبشع منه من سلوكيات بشرية تعافها الحيوانات العجماء- ما يكفي دليلا قاطعا علي وجه الإعجاز التشريعي في الآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال والتي تحض علي الزواج من اليتامي دون استغلال ضعفهن في ساحة اليتم, فيطمع في أموالهن أو في جمالهن دون الوفاء بحقوقهن كاملة غير منقوصة. فإن تعرض أحد المسلمين لهذه الفتنة فالأولي به أن يتزوج من غير اليتامي بواحدة أو بأكثر من واحدة, إلي الحد الأعلي بأربع- هذا إذا دعت ظروفه الخاصة أو الظروف العامة لمجتمعه إلي ذلك- علي أن يكون قادرا علي تحقيقه وحمل تبعاته, وأن يحقق العدل في النفقة, والمعاشرة, والمباشرة, والمعاملة بين أزواجه. فهناك حد لا يتجاوزه المسلم هو أربع زوجات, وهناك قيد هو إمكان تحقيق العدل, وإلا[... فواحدة أو ما ملكت أيمانكم] من الإماء.
والتشريع الإسلامي هو صياغة ربانية خالصة, ولذلك فهو يتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة ولا يعارضها, ويلبي كل ضرورياتها واحتياجاتها بكفاءة وعدل وموضوعية, مع المحافظة علي كرامة الإنسان وحقوقه( ذكرا كان أو أنثي) في كل أمر من الأمور وفي كل بيئة من البيئات, وفي كل زمان ومكان.
والزواج من الأمة المملوكة فيه رد لاعتبارها, ومحافظة علي كرامتها الإنسانية, لأن الزواج هو من مؤهلات التحرير من الرق لها ولنسلها من بعدها- حتي ولو لم يعتقها لحظة الزواج- فهي منذ اليوم الذي تلد فيه لسيدها تصبح أما لولده, وبالتالي يمتنع عليه بيعها, وصارت حرة وصار ولده منها كذلك حرا منذ لحظة مولده.
كذلك عند التسري بها, فإنها إذا ولدت أصبحت أم ولده, وامتنع بيعها, وصارت حرة, وصار ولده منه كذلك حرا, وهذا ما كان يحدث عادة. فالزواج والتسري كلاهما من طرق التحرير العديدة التي شرعها الإسلام للتخلص من نظام العبيد الذي كان منتشرا في مختلف أجزاء الأرض قبل بعثة المصطفي- صلي الله عليه وسلم- وجاء الإسلام بتشريعاته الإنسانية لتحرير العبيد من ربقة الرق.
والضرورة التي أباحت الاسترقاق في الحرب, هي ذاتها التي أباحت التسري بالإماء أولا للمعاملة بالمثل, لأن مصير الحرائر العفيفات من المسلمات اللائي كن يقعن في أسر الكفار والمشركين كان شرا من هذا المصير! وثانيا للإيمان بأن هؤلاء الأسيرات المسترقات من الكافرات والمشركات لهن مطالب فطرية لابد وأن تلبي ما دام نظام الرق قائما إما بالزواج أو بالتسري لأن هذه المطالب لا يمكن إغفالها في أي نظام إنساني واقعي يراعي فطرة الإنسان, وإلا شاعت الفاحشة في المجتمع, وهذا ما يأباه الإسلام ويحرمه تحريما قاطعا.
ونظام الرق كان شائعا في مختلف المجتمعات الإنسانية قبل البعثة المحمدية الشريفة, وكان الرقيق من النساء هن السبب الأول في إشاعة حالة من الانحلال الأخلاقي, والفوضي الجنسية التي لا ضابط لها ولا رابط حين لم يكن أمامهن سبيل لإشباع حوائجهن الفطرية في دائرة التسري مع السيد أو الزواج منه ألا التفحش والابتذال الذي أفسد كثيرا من المجتمعات الإنسانية التي كان منها مجتمع الجزيرة العربية في زمن الجاهلية, وجاء الإسلام لتطهير تلك المجتمعات من أدران الزنا, والخنا, والفحش, والتسيب في السلوك, وفي تحريم مختلف العلاقات غير المشروعة بين الجنسين.
أما الاستكثار من الإماء عن طريق الشراء من النخاسين فليس من الإسلام في شيء, وإن وقع فيه بعض المسلمين في القديم, وذلك لأن دين الله الذي يعتبر الناس جميعا إخوة وأخوات ينتهي نسبهم إلي أب واحد هو آدم- عليه السلام- وإلي أم واحدة هي حواء- عليها من الله الرضوان- لا يمكن أن يسمح باستعباد الأخ لأخيه ولا أخته, ولذلك جاء بالحلول المنطقية لتصفية جريمة الاسترقاق التي كانت سائدة في مختلف بقاع الأرض. وبهذا الاستعراض يتضح وجه الإعجاز التشريعي في الآية القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال, والله يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش