بقلم: د. علاء عبدالهادى
أظن أنني لا أعدو الحق لو قلت إن المشكلة الأساس في خطابنا النقدي العربي بعامة, وخطابنا النقدي الشعري بخاصة, تكمن في هيمنة فائض نقدي يقدمه نوع مشهور من نقاد ملأوا فضاءنا النقدي, وقاعات ندواتنا, وعددا من مؤتمراتنا.
بخطابات تقليدية مكرورة وفائضة, لاتجاوز الشرح والتفسير, لا لزوم لها, ولا أهمية أيضا, خطابات نقدية متهافتة لاتكمن المشكلة في غيابها, بل تكمن في حضورها اللافت الذي شغل مكان نقود أخر, كان المجتمع الأدبي العربي في أشد الحاجة إليها.
يمكنني القول إن الحركة النقدية العربية علي نحو عام تتحرك جيئة وذهابا بين قطبين: الأول يبحث عن أصل لكل تطور شهدته النظرية النقدية الغربية الحديثة في تراثنا النقدي القديم, وهو سلوك وضع الخطاب النقدي العربي المعاصر تحت وطأة محاولات الإنعاش المستمرة للأسئلة النقدية القديمة ومن خلال ربط الاجتهادات النقدية العربية التراثية علي نحو تعسفي بنظريات حديثة, لها اسئلتها المختلفة, وسياقاتها الكلية الفلسفية والاجتماعية المتباينة, الأمر الذي أسفر عن نوع من الاجتهادات التلفيقية بين المناهج النظرية الحديثة وبين الخطاب التراثي النقدي العربي. ونحن لا نستطيع في هذا السياق أن نغض الطرف عن هذا الحضور, أو عن تأثيره السلبي بخطاب النقد العربي المعاصر, بما يمثله من سلفية نقدية ظلت مهيمنة علي المستوي الأكاديمي, في مصر بخاصة, والعالم العربي بعامة, عقودا طويلة, وهي سلفية تعلن عن نفسها بوضوح عبر عدائها لمناهج البحث المعاصرة, إما صدا وجهلا من البداية, أو رفضا للأصول المعرفية الغربية, وللأسس الفلسفية التي قامت عليها النظريات المعاصرة.
أما القطب الثاني, من نطلق عليهم الآن نقاد الحداثة, فآثر الوقوف علي الضفة الأخري من النهر أمام هذه السلفية النقدية المسيطرة علي الوسطين النقديين الأكاديمي والإعلامي آنذاك, كانت جهود نقل الخطاب الغربي وترجمته من كتب مدرسية متوسطة المستوي والقيمة, في السبعينيات والثمانينات بخاصة, هي أساس مشروع عدد كبير منهم, ادعوا به ريادة لايستحقونها, كما كان من البين أن مشروعاتهم النقدية آنذاك لم تأخذ نفسها بالجدية اللازمة, بعد أن غضوا الطرف عن الجهد الذي كان له اقتضاؤه حينها في مساءلة المنقول, أو في اختبار تطبيق ما نقلوه من نظريات علي إبداعنا المحلي, هذا الإبداع الذي كان قادرا علي الإضافة إلي هذه المنهجيات والنظريات, أقول ذلك استنادا إلي تأمل أثر هذا الركام النظري المنقول بواقعنا النقدي والإبداعي, آنذاك فقد جاء كثير من هذا المنقول مبتسرا ومشوها, إما بسبب ضعف لغة الناقل, أو بسبب غياب المعرفة بالأسس التي قامت عليها هذه النظريات في بيئاتها النظرية الغربية المختلفة حقا عن بيئتنا العربية. ولن نعدم استثناءات عديدة بالطبع للرؤية التي أعممها الآن, ولكنها صحيحة إلي حد بعيد. هكذا لم يستطع النقل أن يقدم ما يحتاجه واقعنا العربي النقدي من تنوير, وتجديد, ومراجعة, سواء علي مستوي تنقيح خطابنا النقدي التاريخي وإسهاماته من جهة, أو علي مستوي تمثل الخطاب النقدي الحديث, وما ينقل إلينا عبره من نظريات ومناهج وفلسفات من جهة أخري.
لقد أدي الابتعاد عن تطبيق النظريات والمناهج النقدية المعاصرة علي واقعنا الإبداعي بخاصة إلي اتكاء عدد من نقادنا الحداثيين علي خطاب نظري جاهز, اختزل النظرية, وذلك في أفضل تجلياتها المنقولة, إلي مجموعة عمياء من الإجراءات, دون قدرة علي تطويرها, أو الإسهام فيها, هذا الإسهام الذي لم يكن ممكنا دون احتكاك النظرية بتطبيقاتها الإبداعية التي تتحداها علي مستوي المنهج. ذلك بما يفرضه التطبيق من تطور علي النظريات والمناهج أنفسها, وهي مهمة كانت كفيلة بدعم التواصل بين النظرية والأسئلة الفاعلة والضرورية في ثقافتنا المعيشة.
لقد خلق هذا القصور التطبيقي فجوة بين خطاب نقدي مطمئن وسائد, وحركة إبداعية محلقة ومجاوزة. الوضع الذي فصل النظرية عن سياقها الثقافي, وقد كان في مكنة الخطاب النقدي العربي المعاصر أن يكون جزءا من المشهد النقدي العالمي, لو التفت إلي تطبيق النظريات النقدية المعاصرة علي واقع إبداعي مختلف عن البيئة التي أنتجتها. ذلك لأن ضغط المشكلة الإبداعية هو العامل الفاعل الذي يدفع الناقد إلي التنظير, لأن أي تنظير يقوم بالضرورة بناء علي معاينة واقع موضوعي مرتبط بما يبدعه المشهد الأدبي في مجتمع ما, تراكمت عليه مشكلات ثقافية واجتماعية, وجمالية..
ويمكن الرد علي منطقي في هذا التناول بأن هذا النقل قد أتاح للباحثين بعد ذلك, وطلاب الدراسات في الأدب العربي بخاصة فرصة معرفتها, وتطبيقها علي نصوص إبداعية, تراثية كانت أو حديثة, ولكن نظرة مخلصة إلي عشرات الرسائل التي تناقش في تخصص الأدب العربي أو الأدب المقارن, في العقدين الأخيرين بخاصة, تكشف, دون جهد, فداحة الضعف المنهجي الذي تعاني منه هذه الرسائل, التي تدعي الطابع العلمي دون إجراءاته! ذلك لأنه من الصعب أن يطبق الطالب منهجا لم يسبق لأستاذه المشرف تطبيقه, ومعرفة خباياه, أو لم يسبقه إليه, فبتنا نري رسائل دكتوراه( مطبوخة) لايفهم الأستاذ في منهجها أكثر من الطالب! وذلك في ظل ضعف طلاب الدراسات العليا في إتقان لغة ثانية أو أكثر, تخولهم قدرة الخوض الواثق في مشهد النقد المعاصر, قراءة وكتابة! فأنتجت جامعاتنا ومعاهدنا وأكاديمياتنا حاملي شهادات عاجزين عن التواصل مع واقعهم النقدي علي المستويين المحلي والعالمي, وعن استيعاب النصوص الإبداعية الحديثة المتوافرة في بيئتنا الثقافية المعاصرة, تلك النصوص التي لاتخضع ممارستها إلي تقاليد الأنواع الأدبية التقليدية بخاصة. وفي هذا ما قد يفسر عجز دراساتنا الجامعية عن تناول النصوص الإبداعية المعاصرة, التي تبتدع في أفقها وأسلوبها, ولاتتبع..
فصلت هذه الحال طلاب الأدب, ودراسي الدراسات العليا, عما يمور به الواقع الإبداعي من تيارات جمالية وإبداعية جديدة, في ظل حضور مسيطر لأجيال أخذت فرصتها في التعبير عن أنفسها, لكنها لم تتخل, للأجيال الجديدة عن المواقع التي تستحقها لوضع رؤيتها المعاصرة, أو إسهامها الذي يعبر عنها, وقد كان في قدرة الأجيال القديمة, لو ارتضت مواقع الاستشارة, أن تمنح خلاصة تجربتها للأجيال الجديدة, في عقد اجتماعي تكاملي مثمر, بعد أن استمر شغلها لمناصبها الثقافية والأدبية والصحفية والعلمية, ممتدا إلي عقد زمني, أو إلي عقدين, وربما أكثر من ذلك.
تري, هل كان في مكنتنا فتح باب المساءلة للمناهج النقدية الحديثة, والنظريات الغربية المعاصرة, إذا اهتم مدرسو النقد وأساتذته في جامعاتنا بتطبيقها علي واقعنا الإبداعي الحديث بخاصة؟ بعد أن أدي الخلل في الموازنة بين التنظير الذي نقل, دون الالتفات إلي شروط إنتاج ما ينقله, والممارسة النقدية التي عجزت عن تطبيق النظريات النقدية المعاصرة علي واقعنا الإبداعي المختلف, إلي سيطرة ما أسميه الأدب النقدي النظري علي الممارسة النقدية. الأمر الذي رسخ الحفاظ علي هذه النظريات المنقولة في بناها البدائية, وتداولاتها المدرسية في أكثر صيغها يسرا, وأشد شكولها اختزالا, وهذا ما أوهن علي نحو فادح قدرة خطابنا النقدي المعاصر علي الاستفادة منها علي مستوي حقيقي ومؤثر, وللكتابة بقية..
المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش