استراتيجية جديدة لمواجهة العنف في المدارس
تحقيق‏:‏ عصام هاشم


عندما وجد الخليفة هارون الرشيد ابنه يصب الماء علي معلمه‏,‏ غضب الخليفة وقال للمعلم‏:‏ لماذا لم تجعله ‏(‏ الولد‏)‏ يصب عليك الماء بيد ويغسل قدمك باليد الأخري؟‏!‏

 

إنها درجة من الهيبة والتقدير تصل الي مرتبة التقديس توجت العملية التعليمية منذ عرفتها البشرية‏,‏ الي أن بدأت رياح التغريب والحداثة تهب علينا قبل نصف قرن‏,‏ لتطيح في طريقها بالأخضر واليابس كي تفرغ التعليم من مضمونه‏,‏ فسقطت هيبة المعلم في بئر الفقر والعوز الاجتماعي‏,‏ وتاهت الأسر في سراديب التخلف والخواء الفكري العقيم والتربوي‏!‏
فصار العنف لغة يجيدها أطراف العملية التعليمية‏:‏ المدرس ـ التلميذ ـ ولي الأمر‏!‏ فها هو طفل الإسكندرية يدفع حياته ثمنا لركلة بقدم معلمه‏..‏ وتلك تلميذة أخري يتوقف قلبها عن النبض فتفارق الحياة رهبة من معلمها‏..‏ وها هم المعلمون القدوة يتشاجرون فيما بينهم بالأحذية والسب بأبشع الألفاظ و‏...‏إلخ‏.‏ ولأن التلميذ قد يتفوق علي أستاذه‏,‏ لم يخطئ الطلاب تقليد معلميهم في اعتداءات متبادلة بالسنج والجنازير حتي طالت هذه الاعتداءات المدرس نفسه إذا حاول تقويم طالب أو منعه من الغش في الامتحان‏..‏ ولا عزاء لوزارة التربية والتعليم‏!‏ كثيرة هي الأسباب التي أوقعت بتعليمنا في هذا النفق المظلم‏..‏ ولكن ما هو تحليل علماء الدين وخبراء التربية لشيوع ظاهرة العنف في مدارسنا‏..‏ وهل من سبيل للاصلاح وبعث العملية التعليمية من جديد‏..‏ أم نقف معا متراصين ونصلي علي التربية والتعليم صلاة الغائب؟‏!‏
سؤال نطرحه للمناقشة‏!‏
منظومة سببية
في البداية يضع الدكتور حسام الدين محمود عزب ـ أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس ـ ملامح الأزمة التعليمية التي نمر بها‏,‏ مبينا أن العنف في المدارس ليس منعزلا عن المجتمع‏,‏ فهناك منظومة سببية للعنف في المجتمع ككل‏,‏ وليس في المدرسة وحدها‏..‏ العنف بين الوالدين‏,‏ العنف ضد الأبناء‏..‏الخ‏..‏ فالعنف ظاهرة نعايشها الآن ونعاني ظواهرها‏..‏ لكننا ـ بكل أسف ـ لا نأخذ بالأسباب العلمية والأبحاث في محاربته وعلاجه‏,‏ حيث تسيطر علينا ثقافة الاستهتار والاهمال والحلول الجاهزة غير الفاعلة من غير المتخصصين‏,‏ بعيدا عن الحلول الجذرية العلمية‏.‏
ويضيف أن المدرسة جزء من المجتمع‏,‏ وما يسري علي المجتمع ينسحب علي المدرسة وجميع المؤسسات‏..‏ مع الوضع في الاعتبار الضغوط النفسية والاقتصادية المتلاحقة علي كاهل الأسرة‏,‏ خاصة اذا لم تكن هناك مساواة وتكافؤ للفرص‏,‏ مما يولد نوعا من الاحباط والشعور الدائم بعدم الرضا‏,‏ والاحباط بدوره يولد العنف‏!‏
وقال د‏.‏ عزب إن المعلمين يتعرضون لهجوم شرس منذ نصف قرن علي المستويين المادي والأدبي‏,‏ فكثير ما يسهم الإعلام في تشويه صورتهم‏,‏ كما أن مرتباتهم لاتزال هزيلة اذا ما قورنت بارتفاع الأسعار الجنوني‏,‏ مما اضطر المعلم الي البحث عن تحسين دخله بطريقته‏(‏ الدروس الخصوصية‏)‏ وأخذ يتودد الي الطالب الذي أصبح مصدر رزقه‏,‏ فسقطت هيبته في أعين تلاميذه‏,‏ وشعر الطالب وولي الأمر بأن المعلم سلعة تباع وتشتري‏!‏
ووصف د‏.‏ حسام عزب محاولات النهوض بمستوي المعلم بالكادر الخاص أو نحو ذلك بأنها عمليات تجميل زائفة وأسلوب استعراض‏..‏ يؤكد ذلك ما يمارس علي المعلمين من ضغوط للالتحاق بهذا الكادر‏,‏ وهو يعد نوعا من السحل لهم‏,‏ لا يحقق كيانهم الاجتماعي ولا احتياجاتهم الضرورية‏.‏
كما أن انتشار المدارس الخاصة والتعليم الخاص أثر سلبا علي العملية التعليمية وحولها الي بيزنس‏,‏ الغلبة فيه للطالب وولي الأمر علي حساب المعلم‏!‏
في ظل هذا المناخ ووجود تلك الأسباب مجتمعة لم يكن غريبا أن ينهار التعليم ويطفو العنف علي السطح كأثر من آثار هذا الانهيار‏,‏ خاصة أننا نعاني أيضا انهيار الأخلاق والقيم وتهميش الدين في حياتنا وتسفيه المتدينين‏,‏ علاوة علي تخلي مؤسسات التربية والتعليم عن دورها التربوي فكانت النتيجة أن لا تربية ولا تعليم حقيقة‏,‏ ولكنها مؤهلات ودرجات علي الورق تمنح لمستحقيها ولغير مستحقيها‏.‏
وللخروج من هذه الأزمة التعليمية والقضاء علي العنف‏,‏ يطالب د‏.‏ حسام عزب بالآتي‏:‏
‏<‏ محاربة ظاهرة العنف في المجتمع ككل‏,‏ وليس التعليم وحده‏,‏ فالحلول أحادية الجانب لا تجدي في مثل هذه الأمور‏.‏
‏<‏ أن تكون هناك رغبة حقيقية وجادة في العلاج والاصلاح‏,‏ وليس العرض والمناقشة المؤقتة فقط‏,‏ مع الاعتداد بالأبحاث والدراسات العلمية وتطبيق توصياتها بشكل منهجي دقيق‏.‏
‏<‏ إعادة الاعتبار للمعلم حقيقة وليس شكلا فقط‏,‏ وذلك لن يتحقق إلا بتقديره ماديا وأدبيا واعلاميا بما يسمح له بحياة كريمة تتواءم مع رسالته‏,‏ ولن تعود هيبة المعلم أمام التلميذ إلا اذا قدره المجتمع أولا‏,‏ أفرادا ومؤسسات‏.‏
‏<‏ عودة التكليف للمدرسين والاقتصار علي اختيار التربويين‏(‏ خريجي كليات التربية أو ما يعادلها‏)‏ للعمل بحقل التعليم وابعاد غير المتخصصين‏,‏ مع التوسع في اختبارات الالتحاق بكليات التربية والتي تثبت صلاحية الطالب نفسيا وتربويا للتعامل مع تلاميذ واعداد جيل‏,‏ فلا يجب الاكتفاء بالمجموع وحده للالتحاق بكليات التربية‏.‏
‏<‏ تغيير سياسة التعليم وتبني سياسة التعليم الموجه‏,‏ حتي تكون هناك علاقة بين ما يدرسه الطالب وما يعمل به بعد التخرج‏,‏ ولا يشعر بأن ما يدرسه شئ وما يعمل به شئ آخر‏,‏ فيدفعه الي الاحباط واللامبالاة‏.‏
أساليب مستوردة
الدكتور محمد فؤاد شاكر ـ أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس ـ يؤكد أن القضاء علي العنف في مدارسنا لا يتحقق إلا بالاهتمام بالتعليم نفسه‏,‏ وتعميق رسالته العلمية والتربوية‏,‏ فالاهتمام بالعلم والتربية من أفضل ما تتحلي به المجتمعات لتحقيق رسالة الاصلاح في الأرض‏.‏
ويري د‏.‏ شاكر أن ما آل إليه مصير التعليم في بلدنا ليس أمرا عشوائيا‏,‏ ولكنه مخطط للقضاء التام علي العلم والتربية‏,‏ بل علي الهوية نفسها‏,‏ لافتا الي عدة نقاط‏,‏ أهمها‏:‏
أولا‏:‏ ان ما يصلح عند غيرنا ليس بالضرورة يصلح في مجتمعنا‏,‏ ودعاة التغريب الذين يتسلقون دائما علي أفكار الغير المستوردة نقول لهم‏:‏ إننا لا نقدح في تجارب الغير‏,‏ لكننا لنا ثقافتنا وقيمنا المختلفة‏,‏ لذا فمن الخطأ أن نستورد أساليب التربية منذ الخارج لنطبقها في بلدنا‏,‏ فمثلا قضية الثواب والعقاب لنا فيها تجارب سابقة من ظهور فكرة التعليم‏,‏ وهي أن يعلم الطالب أنه اذا أثاب يكافأ‏,‏ واذا أخطأ يعاقب‏..‏ ولكننا بكل أسف نجد الآن من يطالب بنزع الحاجز بين التلميذ والمعلم‏,‏ والقضاء علي عناصر التقويم بدعوي التطوير والحداثة‏,‏ وأن تصبح العلاقة بين طرفي العملية التعليمية‏(‏ الطالب والمدرس‏)‏ علاقة صاحب سلعة ومشتريها‏,‏ وهنا ننتزع الهيبة والوقار التي ينبغي أن تظل بين الطالب والمعلم‏.‏
ثانيا‏:‏ مناهج التعليم السابقة‏,‏ بداية من الكتاتيب‏,‏ وانتهاء بالجامعات‏,‏ أصبحت عرضة للتبديل والتحريف دون غاية أو هدف‏,‏ باسم اننا نطور‏!‏ فهناك من يري أن التطوير هو ألا يحظي طالب العلم إلا ببعض الأمور السطحية وألا نحشو عقليته بكثير من المعلومات في الصغر‏,‏ فتحول الطالب الي متلق فقط‏..‏ وفي ذلك نتهم كل تاريخنا العلمي الذي خرج الأفذاذ بأنه غير صالح للقيام علي رسالة العلم‏..‏ برغم أن تلك المناهج القديمة التي نقدح فيها الآن هي التي جعلت تلك العقليات تبدع وتنضج‏,‏ لأنها تعلمت وشحنت عقليتها بالعلم والفكر منذ الصغر‏,‏ أما الآن فأصبح التعليم شكليا ومن ثم أصبحت العلاقة بين المعلم والتلميذ كما نري الآن‏!‏
ثالثا‏:‏ النظرة الدونية للمعلمين وما غرسه الإعلام في الفترة الأخيرة من نظرة احتقار للمعلم‏,‏ بداية من ظهور الأستاذ حمام ونهاية بمدرسة المشاغبين‏..‏ وللعلم هذه المسرحية وما تبعتها العيال كبرت غرست من القيم السيئة والمفاهيم الضالة ما يعجز التعليم في اصلاحه في سنوات طوال‏,‏ حيث أفسدت العلاقة التقديرية بين الطلاب وأساتذتهم‏.‏
رابعا‏:‏ النظرة الاقتصادية المتدنية للتعليم والبحث العلمي‏,‏ فلو عقدنا مقارنة بين أصغر دولة في المنطقة‏(‏ إسرائيل‏)‏ وما تقدمه للتعليم والبحث العلمي وبين ما نقدمه نحن‏,‏ لوجدنا الفرق شاسعا بين دولة تقدر العلم‏,‏ وبين من أصبح التعليم في نظرهم مرحلة تمر لتخرج الآلاف من العاطلين الذين لا يحسنون حتي في تخصصهم‏!‏
خامسا‏:‏ في ظل النظرة التي تراقب العلاقة بين الطلاب والمعلمين الآن‏,‏ لو أن طالبا أصابه شيء قامت الدنيا ولم تقعد‏,‏ لاسيما أننا بصدد نشر مفهوم أن يطلب الولد الشرطة في حالة تشدد الأب أو الأم في تقويمه‏,‏ فلا يستطيع الوالد أن يزجر ابنه اذا قصر في أداء الواجب فنحن نكبل أيدي الأسرة والأمر نفسه ينسحب علي المدرس في المدرسة فلمن يكون التقويم إذن؟‏!‏
وفي النهاية‏,‏ يطالب د‏.‏ فؤاد شاكر بالعودة الي خبراء التعليم وابعاد غير التربويين عن العملية التعليمية‏,‏ لتأصيل قضايا التعليم‏,‏ وابتكار الوسائل والطرق التي تتناسب معنا ومع قيمنا وثقافاتنا‏,‏ وأن يفسح المجال للمتخصصين وتنفيذ توجيهاتهم‏,‏ مع إعادة النظر في المناهج وصقل الطالب في المرحلتين الابتدائية والاعدادية قبل أن يصل للمراهقة التي قد تعيقه عن تحصيل بعض العلوم‏,‏ وكما نعلم فإن التعليم في الصغر كالنقش علي الحجر‏.‏
رسالة وليست وظيفة‏!‏
أما الدكتور طلعت محمد عفيفي ـ عميد كلية الدعوة سابقا ـ فيري أن المشكلة التي نعانيها الآن ترجع الي أن التعليم فقد هيبته‏,‏ وتحول من رسالة الي وظيفة ومهنة لا هم للقائمين عليها سوي تحصيل المال‏,‏ ولا يشغل الطالب إلا التخرج أو الحصول علي شهادة بأي وسيلة‏,‏ حتي لو لم يحصل شيئا من العلم في تخصصه‏!‏
ويوضح د‏.‏ عفيفي أن التعليم في الإسلام رسالة وعبادة يتقرب بها الي الله تعالي‏,‏ لذلك جعله سبحانه فريضة علي كل مسلم ومسلمة‏,‏ ونادي صلي الله عليه وسلم بطلب العلم لو في أقصي بقاع الدنيا‏,‏ فقال عليه الصلاة والسلام اطلبوا العلم ولو في الصين‏,‏ وكما ورد فإن من خرج لطلب العلم فهو في سبيل الله حتي يرجع‏,‏ أي أن طلب العلم يعدل الجهاد في سبيل الله‏,‏ ولعل ما يؤكد مكانة العلم أن أول ما نزل في كتاب الله تعالي قوله سبحانه اقرأ‏...‏
فالعلم ليس رفاهية ولا هو أمر روتيني عادي‏..‏ كما أنه ليس مقصودا لذاته‏,‏ بل شرع لتزكية النفس وتربيتها تربية إسلامية صحيحة‏,‏ ذلك أن العلم النافع يعين علي الطاعة والتقرب الي الله‏,‏ والتعبد بغير علم قد يؤدي بصاحبه الي الضلال‏,‏ فليس المقصود بالتعليم الحصول علي شهادة أو مؤهل للعمل وفقط‏,‏ بل يجب ترجمة هذا العلم الي عمل‏,‏ وأن يتحلي صاحب العلم بالخلق الحميد والسلوك القويم‏,‏ فلا قيمة لعلم لا ينتفع به أصحابه ولا تنعكس ثماره علي سلوك حامليه‏.‏
ويلفت د‏.‏ طلعت عفيفي الي أنه يجب أن يدرك المعلمون أن الاشتغال بالتدريس ليس كغيره من المهن‏,‏ حيث انه يتساوي مع الدعوة الي الله‏,‏ لذا فالتدريس هو المهنة الأخطر والأهم في حياة الشعوب‏,‏ حيث ان المعلم هو الذي يخرج جميع فئات وتخصصات المجتمع‏,‏ فإذا ضعف أو سقط دوره‏,‏ سقط كل من يخرج من تحت يده‏,‏ لذلك تعي الدول المتقدمة أهمية التعليم جيدا وتوليه قمة اهتماماتها‏,‏ حيث نجد أمريكا ـ مثلا ـ تنفق علي قطاع التعليم وحده ما يزيد علي ما تنفقه علي قطاعي الدفاع والصحة مجتمعين‏,‏ لأنها تدرك أن التعليم هو حياة الناس ومستقبلهم‏.‏
ويضيف د‏.‏ طلعت عفيفي أن تقدير الإسلام للمعلمين سبق كل تقدير ووصف من يعلم الناس العلم ـ دينيا كان أو دنيويا ـ بالعلماء‏,‏ بل وفوق ذلك جعلهم ورثة الأنبياء‏,‏ فقال صلي الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء‏,‏ كما ورد في الأثر أن من يعلم الناس الخير يستغفر له كل من في السموات والأرض‏.‏
وقد فقه ذلك المعني الصحابة الكرام والمسلمون الأوائل‏,‏ فها هو عبدالله بن عباس يأخذ بركاب ناقة زيد بن ثابت‏,‏ فقال له زيد‏:‏ خل عنها يا ابن عم رسول الله‏,‏ فقال ابن عباس‏:‏ هكذا علمنا رسول الله أن نفعل بالعلماء‏.‏
وللخروج من هذه الأزمة‏,‏ يطالب د‏.‏ طلعت عفيفي بسياسة تتبني الاهتمام بالتعليم كأهم شيء في هذا المجتمع‏,‏ يقوم عليها الخبراء والمتخصصون‏,‏ كل في مجاله‏.‏
ثقافة التأديب
من جانبه‏,‏ يري الدكتور أحمد محمود كريمة ـ أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر ـ أننا نعاني من سوء استخدام السلطة في المجتمع بشكل عام‏,‏ كل في مجاله‏,‏ وليس في التعليم فقط‏..‏ علاوة علي غياب ثقافة التأديب‏,‏ وما أدي بدوره الي شيوع الفوضي وانتشار العنف بشتي صوره وأنواعه‏,‏ بين المعلم والطالب‏,‏ وعنف الطالب علي المعلم‏,‏ وأحيانا يمارس ولي الأمر العنف ضد المعلم اذا استلزم الأمر‏.‏
ويوضح د‏.‏ كريمة أن العنف ليس مقتصرا علي التعليم فحسب‏,‏ بل صار ثقافة مجتمع‏,‏ لم تعد تحكمه الضوابط والطرق الشرعية والقانونية‏,‏ لذلك نجد أن العنف طال جميع المجالات‏..‏ فكم من أسر غاب عنها الحوار وحل محله الشجار والصياح والعنف اللفظي والجسدي‏..‏ وكم من خدم يعانون في بيوت مخدوميهم‏,‏ وكم من برئ يتعرض للايذاء والاهانة في أولي مراحل الاستجواب‏,‏ وكم من موظفين يتطاولون علي طالبي الخدمات ويطردونهم من مكاتبهم‏,‏ دونما الالتزام بالوسائل القانونية والشرعية‏,‏ حتي من نطلق عليهم ملائكة الرحمة‏(‏ التمريض‏)‏ يمارسون العنف اللفظي علي مرضاهم فضلا عن التقصير والاهمال‏!!‏
‏..‏ وذلك كله مرده أننا افتقدنا ثقافة التأديب وحدود السلطة المخولة للكل منا‏,‏ فالتأديب عقاب علي اساءة أو تقويم سلوك معوج‏..‏ وتكون ولاية التأديب للحاكم مع رعيته أو من ينيبه‏,‏ وتكون أيضا للأب علي أبنائه‏,‏ والزوج علي زوجته فيما يتصل بالحقوق الزوجية‏,‏ وكذلك تأديب المعلم لتلاميذه‏..‏ وهكذا‏.‏
ويضيف د‏.‏ أحمد كريمة أن للتأديب طرقا وضعها الفقهاء‏,‏ منها‏:‏ الوعظ ـ الوعد ـ الوعيد ـ الضرب الخفيف‏..‏ حيث منع الفقهاء الاتلاف بقصد التأديب‏,‏ فلا يجوز ازهاق روح أو اتلاف عضو من الأعضاء أو حاسة من الحواس بدعوي التأديب‏,‏ وإلا تحول التأديب الي جناية‏,‏ لأن الحفاظ علي النفس من الكليات الخمس‏,‏ ومن ثم فإن التأديب أحاطته الشريعة الإسلامية بضوابط لخصها قوله صلي الله عليه وسلم ما جعل الرفق في شيء إلا زانه‏,‏ وما نزع من شيء إلا شانه‏,‏ وفي تأديب الزوج لزوجته عند النشوز يقول سبحانه واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن‏.‏
فعلي المؤدب استخدام سلم التأديب والتقويم كما أرشد الشرع بدءا بالوعظ ثم الانذار والتخويف ثم الوعد والوعيد‏,‏ وكذلك الجمع بين الترغيب والترهيب‏..‏ واذا اضطر المؤدب الي التأديب البدني فليكن ضربه رمزيا غير مبرح لا يؤدي الي هلاك أو اتلاف‏.‏
ويطالب د‏.‏ أحمد كريمة بمحاربة العنف في المجتمع ككل وليس في التعليم وحده‏,‏ مع نشر ثقافة التأديب وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب علي الجميع‏,‏ سواء بسواء دون استثناء أو محاباة لأحد‏,‏ وأن يعرف كل إنسان حدود سلطته وطرق التقويم المناسبة والمشروعة في الوقت نفسه‏.‏
كما يناشد القائمين علي عملية التعليم تدريس مادة للثقافة الدينية تتناول مثل هذه الأمور وترسخ القيم الأصيلة لدي الطلاب‏,‏ فالتعليم مفرخة لكل التخصصات والمراكز القيادية في المجتمع‏,‏ واذا ما تم مراعاة ذلك في مراحل التعليم وتم تأكيده في الأسرة‏,‏ فساعتها لن نجد العنف في مدرسة ولا قسم شرطة ولا في أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع‏.‏
فنحن في أمس الحاجة الي تقويم شامل لثقافة المجتمع التي اختلطت فيه الأمور بين الحق المشروع والانتهاك غير المشروع‏..‏ والا تحولنا الي مجتمع الغاب‏!‏
القدوة‏..‏ أساس التربية
‏..‏ ولكن كيف نربي أبناءنا وتلاميذنا‏,‏ وهل يردعهم العنف ويصلح سلوكهم المعوج؟
الدكتور محمد داود ـ الأستاذ بجامعة قناة السويس‏,‏ عميد معهد معلمي القرآن الكريم بالجيزة ـ يوضح أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة ولا الأثيرة للتربية‏,‏ بما يخلفه من أذي جسدي ومعنوي‏,‏ يحدث شرخا بين المعلم والمتعلم‏,‏ ويحفر أخاديد عميقة في النفوس فتنشأ الشخصية مشوهة نافرة منفرة‏.‏
ولقد كانت المدرسة ولاتزال ركنا أصيلا في تربية الشخصية السوية النافعة وتقديم العلم والمعرفة عبر معلمين يجب أن يكونوا مؤهلين لحمل هذه الرسالة الإنسانية السامية‏,‏ ولاشك أن المربي الواعي يحرص دائما علي الافادة من شتي الوسائل المجدية في إعداد النشء علميا ونفسيا واجتماعيا بغية الوصول الي أفضل مستويات العقل والاتزان والتعلم‏.‏
ويضيف د‏.‏ داود أن علماء التربية والأخلاق حصروا هذه الوسائل في خمس هي‏:‏ التربية‏(‏ بالقدوة ـ بالعادة ـ بالموعظة ـ بالملاحظة ـ بالعقوبة‏).‏
وتأتي التربية بالقدوة في مقدمة الوسائل المؤثرة تربويا‏,‏ لأنها هي الأنجح‏,‏ فالمربي هو المثل الأعلي في نظر الناشئة يقلدونه من حيث يشعرون أو لا يشعرون‏,‏ فإن كان المربي صالحا أمينا عفيفا كريما‏,‏ كان تلاميذه كذلك غالبا‏,‏ والعكس صحيح‏,‏ لذا أوجبت تعاليم الاسلام أن نكون قدوة عملية لمن نرعاهم‏,‏ واستنكر القرآن الكريم أن نأمر بالصلاح ونحن علي فساد‏,‏ فقال سبحانه أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم‏...‏
فمن السهل علي المربي أن يلقن المتعلمين منهجا معينا‏,‏ ومن السهل علي هؤلاء استظهاره‏,‏ لكن كيف يؤثر في سلوكهم العملي إن لم يطبق هو ذلك؟‏!‏
ويوضح د‏.‏ محمد داود أنه برغم أن العقوبة وسيلة من وسائل التربية الخمس‏,‏ لكن يلاحظ أنها جاءت متأخرة‏,‏ إذ أن الأصل في معاملة النشء اللين والرفق والمودة والرحمة‏,‏ فقد روي مسلم عن أبي موسي الأشعري أن النبي صلي الله عليه وسلم بعثه ومعاذا الي اليمن وقال لهما يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا‏.‏
ولا شك أنه من الحصافة عند استعمال وسيلة العقاب‏,‏ مراعاة طبيعة المتعلم وعوامل البيئة والنشأة والتربية‏,‏ فمن الأطفال من تزجره النظرة العابسة‏,‏ ومنهم من يصلحه التأنيب والتوبيخ‏,‏ ومنهم من يعوزنا الي ما هو أشد‏.‏
لذا فيجب التدرج في العقوبة من الأخف الي الأشد‏,‏ إن لزمت العقوبة من الأصل‏,‏ إذ يجمع علماء التربية قدامي ومحدثين‏,‏ علي تلافي استعمالها الا عند الضرورة القصوي‏,‏ فالمربي كالطبيب‏,‏ لا يقف عند علاج واحد ولا يبتدر مرضاه بالبديل الأقسي‏.‏
ويختتم د‏.‏ داود مؤكدا أن الأسوة هي سبيل التربية الأنجح‏,‏ إذ إن الإكراه لا يثبت عقيدة ولا يربي فضيلة‏,‏ بل يأتي بمردود عكسي في أغلب الأحوال‏.

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 203 مشاهدة
نشرت فى 10 ديسمبر 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,796,155