استراتيجية جديدة لمواجهة العنف في المدارس
تحقيق: عصام هاشم
عندما وجد الخليفة هارون الرشيد ابنه يصب الماء علي معلمه, غضب الخليفة وقال للمعلم: لماذا لم تجعله ( الولد) يصب عليك الماء بيد ويغسل قدمك باليد الأخري؟!
إنها درجة من الهيبة والتقدير تصل الي مرتبة التقديس توجت العملية التعليمية منذ عرفتها البشرية, الي أن بدأت رياح التغريب والحداثة تهب علينا قبل نصف قرن, لتطيح في طريقها بالأخضر واليابس كي تفرغ التعليم من مضمونه, فسقطت هيبة المعلم في بئر الفقر والعوز الاجتماعي, وتاهت الأسر في سراديب التخلف والخواء الفكري العقيم والتربوي!
فصار العنف لغة يجيدها أطراف العملية التعليمية: المدرس ـ التلميذ ـ ولي الأمر! فها هو طفل الإسكندرية يدفع حياته ثمنا لركلة بقدم معلمه.. وتلك تلميذة أخري يتوقف قلبها عن النبض فتفارق الحياة رهبة من معلمها.. وها هم المعلمون القدوة يتشاجرون فيما بينهم بالأحذية والسب بأبشع الألفاظ و...إلخ. ولأن التلميذ قد يتفوق علي أستاذه, لم يخطئ الطلاب تقليد معلميهم في اعتداءات متبادلة بالسنج والجنازير حتي طالت هذه الاعتداءات المدرس نفسه إذا حاول تقويم طالب أو منعه من الغش في الامتحان.. ولا عزاء لوزارة التربية والتعليم! كثيرة هي الأسباب التي أوقعت بتعليمنا في هذا النفق المظلم.. ولكن ما هو تحليل علماء الدين وخبراء التربية لشيوع ظاهرة العنف في مدارسنا.. وهل من سبيل للاصلاح وبعث العملية التعليمية من جديد.. أم نقف معا متراصين ونصلي علي التربية والتعليم صلاة الغائب؟!
سؤال نطرحه للمناقشة!
منظومة سببية
في البداية يضع الدكتور حسام الدين محمود عزب ـ أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس ـ ملامح الأزمة التعليمية التي نمر بها, مبينا أن العنف في المدارس ليس منعزلا عن المجتمع, فهناك منظومة سببية للعنف في المجتمع ككل, وليس في المدرسة وحدها.. العنف بين الوالدين, العنف ضد الأبناء..الخ.. فالعنف ظاهرة نعايشها الآن ونعاني ظواهرها.. لكننا ـ بكل أسف ـ لا نأخذ بالأسباب العلمية والأبحاث في محاربته وعلاجه, حيث تسيطر علينا ثقافة الاستهتار والاهمال والحلول الجاهزة غير الفاعلة من غير المتخصصين, بعيدا عن الحلول الجذرية العلمية.
ويضيف أن المدرسة جزء من المجتمع, وما يسري علي المجتمع ينسحب علي المدرسة وجميع المؤسسات.. مع الوضع في الاعتبار الضغوط النفسية والاقتصادية المتلاحقة علي كاهل الأسرة, خاصة اذا لم تكن هناك مساواة وتكافؤ للفرص, مما يولد نوعا من الاحباط والشعور الدائم بعدم الرضا, والاحباط بدوره يولد العنف!
وقال د. عزب إن المعلمين يتعرضون لهجوم شرس منذ نصف قرن علي المستويين المادي والأدبي, فكثير ما يسهم الإعلام في تشويه صورتهم, كما أن مرتباتهم لاتزال هزيلة اذا ما قورنت بارتفاع الأسعار الجنوني, مما اضطر المعلم الي البحث عن تحسين دخله بطريقته( الدروس الخصوصية) وأخذ يتودد الي الطالب الذي أصبح مصدر رزقه, فسقطت هيبته في أعين تلاميذه, وشعر الطالب وولي الأمر بأن المعلم سلعة تباع وتشتري!
ووصف د. حسام عزب محاولات النهوض بمستوي المعلم بالكادر الخاص أو نحو ذلك بأنها عمليات تجميل زائفة وأسلوب استعراض.. يؤكد ذلك ما يمارس علي المعلمين من ضغوط للالتحاق بهذا الكادر, وهو يعد نوعا من السحل لهم, لا يحقق كيانهم الاجتماعي ولا احتياجاتهم الضرورية.
كما أن انتشار المدارس الخاصة والتعليم الخاص أثر سلبا علي العملية التعليمية وحولها الي بيزنس, الغلبة فيه للطالب وولي الأمر علي حساب المعلم!
في ظل هذا المناخ ووجود تلك الأسباب مجتمعة لم يكن غريبا أن ينهار التعليم ويطفو العنف علي السطح كأثر من آثار هذا الانهيار, خاصة أننا نعاني أيضا انهيار الأخلاق والقيم وتهميش الدين في حياتنا وتسفيه المتدينين, علاوة علي تخلي مؤسسات التربية والتعليم عن دورها التربوي فكانت النتيجة أن لا تربية ولا تعليم حقيقة, ولكنها مؤهلات ودرجات علي الورق تمنح لمستحقيها ولغير مستحقيها.
وللخروج من هذه الأزمة التعليمية والقضاء علي العنف, يطالب د. حسام عزب بالآتي:
< محاربة ظاهرة العنف في المجتمع ككل, وليس التعليم وحده, فالحلول أحادية الجانب لا تجدي في مثل هذه الأمور.
< أن تكون هناك رغبة حقيقية وجادة في العلاج والاصلاح, وليس العرض والمناقشة المؤقتة فقط, مع الاعتداد بالأبحاث والدراسات العلمية وتطبيق توصياتها بشكل منهجي دقيق.
< إعادة الاعتبار للمعلم حقيقة وليس شكلا فقط, وذلك لن يتحقق إلا بتقديره ماديا وأدبيا واعلاميا بما يسمح له بحياة كريمة تتواءم مع رسالته, ولن تعود هيبة المعلم أمام التلميذ إلا اذا قدره المجتمع أولا, أفرادا ومؤسسات.
< عودة التكليف للمدرسين والاقتصار علي اختيار التربويين( خريجي كليات التربية أو ما يعادلها) للعمل بحقل التعليم وابعاد غير المتخصصين, مع التوسع في اختبارات الالتحاق بكليات التربية والتي تثبت صلاحية الطالب نفسيا وتربويا للتعامل مع تلاميذ واعداد جيل, فلا يجب الاكتفاء بالمجموع وحده للالتحاق بكليات التربية.
< تغيير سياسة التعليم وتبني سياسة التعليم الموجه, حتي تكون هناك علاقة بين ما يدرسه الطالب وما يعمل به بعد التخرج, ولا يشعر بأن ما يدرسه شئ وما يعمل به شئ آخر, فيدفعه الي الاحباط واللامبالاة.
أساليب مستوردة
الدكتور محمد فؤاد شاكر ـ أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس ـ يؤكد أن القضاء علي العنف في مدارسنا لا يتحقق إلا بالاهتمام بالتعليم نفسه, وتعميق رسالته العلمية والتربوية, فالاهتمام بالعلم والتربية من أفضل ما تتحلي به المجتمعات لتحقيق رسالة الاصلاح في الأرض.
ويري د. شاكر أن ما آل إليه مصير التعليم في بلدنا ليس أمرا عشوائيا, ولكنه مخطط للقضاء التام علي العلم والتربية, بل علي الهوية نفسها, لافتا الي عدة نقاط, أهمها:
أولا: ان ما يصلح عند غيرنا ليس بالضرورة يصلح في مجتمعنا, ودعاة التغريب الذين يتسلقون دائما علي أفكار الغير المستوردة نقول لهم: إننا لا نقدح في تجارب الغير, لكننا لنا ثقافتنا وقيمنا المختلفة, لذا فمن الخطأ أن نستورد أساليب التربية منذ الخارج لنطبقها في بلدنا, فمثلا قضية الثواب والعقاب لنا فيها تجارب سابقة من ظهور فكرة التعليم, وهي أن يعلم الطالب أنه اذا أثاب يكافأ, واذا أخطأ يعاقب.. ولكننا بكل أسف نجد الآن من يطالب بنزع الحاجز بين التلميذ والمعلم, والقضاء علي عناصر التقويم بدعوي التطوير والحداثة, وأن تصبح العلاقة بين طرفي العملية التعليمية( الطالب والمدرس) علاقة صاحب سلعة ومشتريها, وهنا ننتزع الهيبة والوقار التي ينبغي أن تظل بين الطالب والمعلم.
ثانيا: مناهج التعليم السابقة, بداية من الكتاتيب, وانتهاء بالجامعات, أصبحت عرضة للتبديل والتحريف دون غاية أو هدف, باسم اننا نطور! فهناك من يري أن التطوير هو ألا يحظي طالب العلم إلا ببعض الأمور السطحية وألا نحشو عقليته بكثير من المعلومات في الصغر, فتحول الطالب الي متلق فقط.. وفي ذلك نتهم كل تاريخنا العلمي الذي خرج الأفذاذ بأنه غير صالح للقيام علي رسالة العلم.. برغم أن تلك المناهج القديمة التي نقدح فيها الآن هي التي جعلت تلك العقليات تبدع وتنضج, لأنها تعلمت وشحنت عقليتها بالعلم والفكر منذ الصغر, أما الآن فأصبح التعليم شكليا ومن ثم أصبحت العلاقة بين المعلم والتلميذ كما نري الآن!
ثالثا: النظرة الدونية للمعلمين وما غرسه الإعلام في الفترة الأخيرة من نظرة احتقار للمعلم, بداية من ظهور الأستاذ حمام ونهاية بمدرسة المشاغبين.. وللعلم هذه المسرحية وما تبعتها العيال كبرت غرست من القيم السيئة والمفاهيم الضالة ما يعجز التعليم في اصلاحه في سنوات طوال, حيث أفسدت العلاقة التقديرية بين الطلاب وأساتذتهم.
رابعا: النظرة الاقتصادية المتدنية للتعليم والبحث العلمي, فلو عقدنا مقارنة بين أصغر دولة في المنطقة( إسرائيل) وما تقدمه للتعليم والبحث العلمي وبين ما نقدمه نحن, لوجدنا الفرق شاسعا بين دولة تقدر العلم, وبين من أصبح التعليم في نظرهم مرحلة تمر لتخرج الآلاف من العاطلين الذين لا يحسنون حتي في تخصصهم!
خامسا: في ظل النظرة التي تراقب العلاقة بين الطلاب والمعلمين الآن, لو أن طالبا أصابه شيء قامت الدنيا ولم تقعد, لاسيما أننا بصدد نشر مفهوم أن يطلب الولد الشرطة في حالة تشدد الأب أو الأم في تقويمه, فلا يستطيع الوالد أن يزجر ابنه اذا قصر في أداء الواجب فنحن نكبل أيدي الأسرة والأمر نفسه ينسحب علي المدرس في المدرسة فلمن يكون التقويم إذن؟!
وفي النهاية, يطالب د. فؤاد شاكر بالعودة الي خبراء التعليم وابعاد غير التربويين عن العملية التعليمية, لتأصيل قضايا التعليم, وابتكار الوسائل والطرق التي تتناسب معنا ومع قيمنا وثقافاتنا, وأن يفسح المجال للمتخصصين وتنفيذ توجيهاتهم, مع إعادة النظر في المناهج وصقل الطالب في المرحلتين الابتدائية والاعدادية قبل أن يصل للمراهقة التي قد تعيقه عن تحصيل بعض العلوم, وكما نعلم فإن التعليم في الصغر كالنقش علي الحجر.
رسالة وليست وظيفة!
أما الدكتور طلعت محمد عفيفي ـ عميد كلية الدعوة سابقا ـ فيري أن المشكلة التي نعانيها الآن ترجع الي أن التعليم فقد هيبته, وتحول من رسالة الي وظيفة ومهنة لا هم للقائمين عليها سوي تحصيل المال, ولا يشغل الطالب إلا التخرج أو الحصول علي شهادة بأي وسيلة, حتي لو لم يحصل شيئا من العلم في تخصصه!
ويوضح د. عفيفي أن التعليم في الإسلام رسالة وعبادة يتقرب بها الي الله تعالي, لذلك جعله سبحانه فريضة علي كل مسلم ومسلمة, ونادي صلي الله عليه وسلم بطلب العلم لو في أقصي بقاع الدنيا, فقال عليه الصلاة والسلام اطلبوا العلم ولو في الصين, وكما ورد فإن من خرج لطلب العلم فهو في سبيل الله حتي يرجع, أي أن طلب العلم يعدل الجهاد في سبيل الله, ولعل ما يؤكد مكانة العلم أن أول ما نزل في كتاب الله تعالي قوله سبحانه اقرأ...
فالعلم ليس رفاهية ولا هو أمر روتيني عادي.. كما أنه ليس مقصودا لذاته, بل شرع لتزكية النفس وتربيتها تربية إسلامية صحيحة, ذلك أن العلم النافع يعين علي الطاعة والتقرب الي الله, والتعبد بغير علم قد يؤدي بصاحبه الي الضلال, فليس المقصود بالتعليم الحصول علي شهادة أو مؤهل للعمل وفقط, بل يجب ترجمة هذا العلم الي عمل, وأن يتحلي صاحب العلم بالخلق الحميد والسلوك القويم, فلا قيمة لعلم لا ينتفع به أصحابه ولا تنعكس ثماره علي سلوك حامليه.
ويلفت د. طلعت عفيفي الي أنه يجب أن يدرك المعلمون أن الاشتغال بالتدريس ليس كغيره من المهن, حيث انه يتساوي مع الدعوة الي الله, لذا فالتدريس هو المهنة الأخطر والأهم في حياة الشعوب, حيث ان المعلم هو الذي يخرج جميع فئات وتخصصات المجتمع, فإذا ضعف أو سقط دوره, سقط كل من يخرج من تحت يده, لذلك تعي الدول المتقدمة أهمية التعليم جيدا وتوليه قمة اهتماماتها, حيث نجد أمريكا ـ مثلا ـ تنفق علي قطاع التعليم وحده ما يزيد علي ما تنفقه علي قطاعي الدفاع والصحة مجتمعين, لأنها تدرك أن التعليم هو حياة الناس ومستقبلهم.
ويضيف د. طلعت عفيفي أن تقدير الإسلام للمعلمين سبق كل تقدير ووصف من يعلم الناس العلم ـ دينيا كان أو دنيويا ـ بالعلماء, بل وفوق ذلك جعلهم ورثة الأنبياء, فقال صلي الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء, كما ورد في الأثر أن من يعلم الناس الخير يستغفر له كل من في السموات والأرض.
وقد فقه ذلك المعني الصحابة الكرام والمسلمون الأوائل, فها هو عبدالله بن عباس يأخذ بركاب ناقة زيد بن ثابت, فقال له زيد: خل عنها يا ابن عم رسول الله, فقال ابن عباس: هكذا علمنا رسول الله أن نفعل بالعلماء.
وللخروج من هذه الأزمة, يطالب د. طلعت عفيفي بسياسة تتبني الاهتمام بالتعليم كأهم شيء في هذا المجتمع, يقوم عليها الخبراء والمتخصصون, كل في مجاله.
ثقافة التأديب
من جانبه, يري الدكتور أحمد محمود كريمة ـ أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر ـ أننا نعاني من سوء استخدام السلطة في المجتمع بشكل عام, كل في مجاله, وليس في التعليم فقط.. علاوة علي غياب ثقافة التأديب, وما أدي بدوره الي شيوع الفوضي وانتشار العنف بشتي صوره وأنواعه, بين المعلم والطالب, وعنف الطالب علي المعلم, وأحيانا يمارس ولي الأمر العنف ضد المعلم اذا استلزم الأمر.
ويوضح د. كريمة أن العنف ليس مقتصرا علي التعليم فحسب, بل صار ثقافة مجتمع, لم تعد تحكمه الضوابط والطرق الشرعية والقانونية, لذلك نجد أن العنف طال جميع المجالات.. فكم من أسر غاب عنها الحوار وحل محله الشجار والصياح والعنف اللفظي والجسدي.. وكم من خدم يعانون في بيوت مخدوميهم, وكم من برئ يتعرض للايذاء والاهانة في أولي مراحل الاستجواب, وكم من موظفين يتطاولون علي طالبي الخدمات ويطردونهم من مكاتبهم, دونما الالتزام بالوسائل القانونية والشرعية, حتي من نطلق عليهم ملائكة الرحمة( التمريض) يمارسون العنف اللفظي علي مرضاهم فضلا عن التقصير والاهمال!!
.. وذلك كله مرده أننا افتقدنا ثقافة التأديب وحدود السلطة المخولة للكل منا, فالتأديب عقاب علي اساءة أو تقويم سلوك معوج.. وتكون ولاية التأديب للحاكم مع رعيته أو من ينيبه, وتكون أيضا للأب علي أبنائه, والزوج علي زوجته فيما يتصل بالحقوق الزوجية, وكذلك تأديب المعلم لتلاميذه.. وهكذا.
ويضيف د. أحمد كريمة أن للتأديب طرقا وضعها الفقهاء, منها: الوعظ ـ الوعد ـ الوعيد ـ الضرب الخفيف.. حيث منع الفقهاء الاتلاف بقصد التأديب, فلا يجوز ازهاق روح أو اتلاف عضو من الأعضاء أو حاسة من الحواس بدعوي التأديب, وإلا تحول التأديب الي جناية, لأن الحفاظ علي النفس من الكليات الخمس, ومن ثم فإن التأديب أحاطته الشريعة الإسلامية بضوابط لخصها قوله صلي الله عليه وسلم ما جعل الرفق في شيء إلا زانه, وما نزع من شيء إلا شانه, وفي تأديب الزوج لزوجته عند النشوز يقول سبحانه واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن.
فعلي المؤدب استخدام سلم التأديب والتقويم كما أرشد الشرع بدءا بالوعظ ثم الانذار والتخويف ثم الوعد والوعيد, وكذلك الجمع بين الترغيب والترهيب.. واذا اضطر المؤدب الي التأديب البدني فليكن ضربه رمزيا غير مبرح لا يؤدي الي هلاك أو اتلاف.
ويطالب د. أحمد كريمة بمحاربة العنف في المجتمع ككل وليس في التعليم وحده, مع نشر ثقافة التأديب وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب علي الجميع, سواء بسواء دون استثناء أو محاباة لأحد, وأن يعرف كل إنسان حدود سلطته وطرق التقويم المناسبة والمشروعة في الوقت نفسه.
كما يناشد القائمين علي عملية التعليم تدريس مادة للثقافة الدينية تتناول مثل هذه الأمور وترسخ القيم الأصيلة لدي الطلاب, فالتعليم مفرخة لكل التخصصات والمراكز القيادية في المجتمع, واذا ما تم مراعاة ذلك في مراحل التعليم وتم تأكيده في الأسرة, فساعتها لن نجد العنف في مدرسة ولا قسم شرطة ولا في أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع.
فنحن في أمس الحاجة الي تقويم شامل لثقافة المجتمع التي اختلطت فيه الأمور بين الحق المشروع والانتهاك غير المشروع.. والا تحولنا الي مجتمع الغاب!
القدوة.. أساس التربية
.. ولكن كيف نربي أبناءنا وتلاميذنا, وهل يردعهم العنف ويصلح سلوكهم المعوج؟
الدكتور محمد داود ـ الأستاذ بجامعة قناة السويس, عميد معهد معلمي القرآن الكريم بالجيزة ـ يوضح أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة ولا الأثيرة للتربية, بما يخلفه من أذي جسدي ومعنوي, يحدث شرخا بين المعلم والمتعلم, ويحفر أخاديد عميقة في النفوس فتنشأ الشخصية مشوهة نافرة منفرة.
ولقد كانت المدرسة ولاتزال ركنا أصيلا في تربية الشخصية السوية النافعة وتقديم العلم والمعرفة عبر معلمين يجب أن يكونوا مؤهلين لحمل هذه الرسالة الإنسانية السامية, ولاشك أن المربي الواعي يحرص دائما علي الافادة من شتي الوسائل المجدية في إعداد النشء علميا ونفسيا واجتماعيا بغية الوصول الي أفضل مستويات العقل والاتزان والتعلم.
ويضيف د. داود أن علماء التربية والأخلاق حصروا هذه الوسائل في خمس هي: التربية( بالقدوة ـ بالعادة ـ بالموعظة ـ بالملاحظة ـ بالعقوبة).
وتأتي التربية بالقدوة في مقدمة الوسائل المؤثرة تربويا, لأنها هي الأنجح, فالمربي هو المثل الأعلي في نظر الناشئة يقلدونه من حيث يشعرون أو لا يشعرون, فإن كان المربي صالحا أمينا عفيفا كريما, كان تلاميذه كذلك غالبا, والعكس صحيح, لذا أوجبت تعاليم الاسلام أن نكون قدوة عملية لمن نرعاهم, واستنكر القرآن الكريم أن نأمر بالصلاح ونحن علي فساد, فقال سبحانه أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم...
فمن السهل علي المربي أن يلقن المتعلمين منهجا معينا, ومن السهل علي هؤلاء استظهاره, لكن كيف يؤثر في سلوكهم العملي إن لم يطبق هو ذلك؟!
ويوضح د. محمد داود أنه برغم أن العقوبة وسيلة من وسائل التربية الخمس, لكن يلاحظ أنها جاءت متأخرة, إذ أن الأصل في معاملة النشء اللين والرفق والمودة والرحمة, فقد روي مسلم عن أبي موسي الأشعري أن النبي صلي الله عليه وسلم بعثه ومعاذا الي اليمن وقال لهما يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا.
ولا شك أنه من الحصافة عند استعمال وسيلة العقاب, مراعاة طبيعة المتعلم وعوامل البيئة والنشأة والتربية, فمن الأطفال من تزجره النظرة العابسة, ومنهم من يصلحه التأنيب والتوبيخ, ومنهم من يعوزنا الي ما هو أشد.
لذا فيجب التدرج في العقوبة من الأخف الي الأشد, إن لزمت العقوبة من الأصل, إذ يجمع علماء التربية قدامي ومحدثين, علي تلافي استعمالها الا عند الضرورة القصوي, فالمربي كالطبيب, لا يقف عند علاج واحد ولا يبتدر مرضاه بالبديل الأقسي.
ويختتم د. داود مؤكدا أن الأسوة هي سبيل التربية الأنجح, إذ إن الإكراه لا يثبت عقيدة ولا يربي فضيلة, بل يأتي بمردود عكسي في أغلب الأحوال.
ساحة النقاش