علاقة الإبداع والفنون.. بالأمراض النفسية والجنون

  بقلم   د. عبدالهادى مصباح    ٢١/ ١١/ ٢٠١٠

هناك اعتقاد شائع بين الكثيرين، بأن العباقرة والمبدعين لديهم مسحة من التطرف وعدم التوازن النفسى والعقلى، وربما فى بعض الأحيان نوع من الجنون، ومن هنا جاءت المقولة الشهيرة «الفنون جنون»، وهناك أمثلة لبعض المبدعين الذين أصابتهم لوثة عقلية أودت بحياتهم مثل العبقرى «فينسنت فان جوخ» أو «سيلفيا بلاث» وغيرهما،

 وهناك من كانت إصابتهم أقل حدة، فأصيبوا بدرجات متفاوتة من الفصام «الشيزوفرينيا» أو الاكتئاب الموسمى أو غيرها من الأمراض النفسية والعقلية التى تجعلهم يأتون بتصرفات وسلوكيات وأقوال غير مناسبة، فى أوقات ومناسبات غير مناسبة، ولما كان هذا الاعتقاد سائداً عبر السنين المتتالية، فقد اهتم علماء الطب النفسى بمحاولة إيجاد العلاقة بين الإبداع والمرض النفسى، وكانت آخر هذه المحاولات تلك الدراسة التى خرجت من معهد «كارولينسكا» فى ستوكهولم بالسويد،

ونشرت فى مجلة «ساينتيفيك أمريكان مايند» فى عدد نوفمبر الحالى، فالأبحاث العلمية والاستقصاءات السابقة تشير إلى أن الأشخاص العباقرة والمبدعين من الموهوبين لديهم بين أفراد العائلة تاريخ عائلى قوى من الأمراض النفسية والعقلية، ومن هنا جاء هذا البحث ليوضح ميكانيزم هذه العلاقة بيولوجياً، وقد أظهرت الدراسة من خلال الفحص المقطعى بالبوزيترون أن الأجزاء المسؤولة عن تصنيف وتجهيز المعلومات فى منطقتى المهاد والمخطط، لدى كل من المبدعين الذين «يفكرون خارج الصندوق» بطريقة مبتكرة،

وكذلك المرضى المصابون بالفصام أو الشيزوفرينيا، تحتوى فى كل منهما على مستقبلات ذات نشاط أقل من مستقبلات مادة الدوبامين التى يطلقون عليها «هرمون السعادة»، وهو ما يجعل كلاً من المبدع والمصاب بالفصام «يفكر خارج الصندوق»، ولكن أحدهما يفكر بطريقة مثمرة، والآخر يفكر بطريقة مدمرة، وهذا ما يحتاج إلى أبحاث أخرى للوقوف على أسبابه.

وهناك بعض التفسيرات الأخرى التى وضعها العلماء قبل هذا البحث، والتى بنيت على أساس فسيولوجى، فالمخ من الناحية التشريحية ينقسم إلى نصفين كرويين أحدهما يسار، والآخر يمين، وهذان النصفان يتصلان ببعضهما من خلال شبكة أو كوبرى من الألياف العصبية تسمى corpus callosum تقوم بمهمة التوفيق والانسجام بين عمل الفصين الأيمن والأيسر من المخ، حيث إن لكل منهما مهمة ووظيفة وكفاءة، تختلف تماماً عن نظيره الذى يقبع فى الجهة الأخرى من الرأس، فالجانب الأيمن من جسمنا يتحكم فيه النصف الأيسر من المخ والعكس صحيح، وفى الأشخاص الذين يكتبون بيدهم اليمنى تكون وظائف النصف الأيسر، أو الفص الأيسر من النصفين الكرويين من المخ هى الفهم، والمنطق، والتعامل مع التفاصيل، والحقائق، وقواعد اللغة، ومعرفة الأسماء،

واستيعاب الزمن الحاضر والماضى، وفهم قواعد الرياضيات والعلوم، والأشياء المبنية على حقائق ملموسة، واستراتيجية عملية، أما النصف الأيمن أو الفص الأيمن من النصفين الكرويين فهو مسؤول عن الإحساس، والخيال الجامح، والفن، والإبداع، والتصور، ورؤية الصورة بشكل عام دون إدراك التفاصيل، وتفسير الرموز، وفهم الأمور الفلسفية والدينية، ومعرفة وظائف الأشياء المختلفة، وهو أيضاً مسؤول عن التصرفات الطائشة غير المحسوبة والمتهورة، واستيعاب الزمن الحاضر والمستقبل.

وهكذا نستطيع أن نتبين أننا فى حاجة ماسة وملحة إلى تناغم هذين النصفين: اليسار واليمين، لكى يصبح الإنسان شخصية سوية وفى إحدى التجارب التى أجراها د. «روجر سبيرى»، الحاصل على جائزة نوبل فى الطب عام ١٩٨١، على أحد مرضاه الذين كانوا يعانون من نوبات متكررة وشديدة من الصرع، حاول هذا العالم أن يفصل النصف الأيمن من المخ عن النصف الأيسر، من خلال إتلاف شبكة الألياف الموصلة بينهما والتى تسمى Corpus Callosum، وكانت نتيجة هذه التجربة أن خفت حدة النوبات التى كانت تصيب هذا المريض،

لكنه أصبح عبارة عن شخص يحمل مخين، أحدهما يسار والآخر يمين، وكل منهما يعمل منفرداً، دون أدنى ارتباط بعمل الآخر، فالمنبهات البصرية والسمعية، أو حتى التى يلمسها بالجانب الأيمن من جسمه، لا يشعر بوجودها الجانب الأيسر ولا يعرفها، وعلى الرغم من ذلك فقد كان يمشى ويتكلم ويأكل، ويبدو لمن لا يفحصه وكأنه شخص طبيعى، إلا أن الفحص الطبى أثبت أن هناك خللاً وعدم توافق بين النصفين الأيمن والأيسر من مخه.

وهكذا نرى أن كل واحد من النصفين الكرويين للمخ: الأيسر والأيمن، يرى العالم من حوله بمنظور مختلف وبطريقة مختلفة، وأحياناً يتجبر أحدهما على الآخر، مما ينعكس على شخصية الإنسان واتجاهاته وميوله ومواهبه، وكلما كان عمل الشبكة العصبية التى تصل هذين النصفين Corpus Callosum متميزاً ونشيطاً،

كان هناك توازن فى الشخصية، وتعدد فى المواهب والملكات من خلال استخدام كل من النصفين الكرويين فى حالة من الانسجام والتكامل والتناغم، وعند معظم الناس يكون النصف الأيسر هو النصف المسيطر على تفكير الإنسان وسلوكياته، من خلال المنطق والعقل، والتحكم، على حساب الفن والخيال والجموح، ولعلنا نجد فى تراثنا الشعبى بعض الجمل التى تقول: «مخه متركب شمال» دلالة على العند وعدم الفهم، والذى ينبغى أن تفهمه أن كلنا لدينا المخ اليمين والشمال.

وأخيراً ورد فى ذهنى بعض العبارات الجدلية التى كانت تثار عندما تم الإعلان عن الانتهاء من مشروع الجينوم البشرى عام ٢٠٠٣ بأن العلماء سوف يستطيعون أن يتدخلوا من خلال الجينات لجعل الإنسان أكثر ذكاء أو عبقرية، ولم نكن ندرى آنذاك أن جينات الفصام والعبقرية تسير فى نفس الاتجاه، وأن محاولات زيادة الإبداع جينياً ربما تؤدى إلى الانتحار أو الجنون، فالخالق أعطانا الرزق Package وينبغى أن نرضى به، إلا ما يكون بخصوص التداوى ودفع الضرر.

[email protected]

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 232 مشاهدة
نشرت فى 21 نوفمبر 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,795,422