[ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتي][ طه:69]
بقلم: د. زغلول النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في منتصف سورة( طه), وهي سورة مكية, وآياتها مائة وخمس وثلاثون(135) بعد البسملة,
وقد سميت بهذا الاسم تكريما لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) لأن( طه) اسم من أسمائه الشريفة بدليل توجيه الخطاب إليه مباشرة بعد هذا النداء, وإن اعتبر عدد من المفسرين هذين الحرفين( طه) من المقطعات الهجائية التي استهل بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم, ويؤكد ذلك أن سورة( طه) من أولها إلي آخرها تعتبر خطابا من الله ـ تعالي ـ إلي خاتم أنبيائه ورسله ـ يؤكد صدق نبوته, وخاتمية رسالته, ويثبته علي الحق الذي بعث به, ويسري عنه مما كان يلقاه من كفار ومشركي قريش من مقاومة لدعوته, واضطهاد للمؤمنين به, وتجريح لشخصه الكريم, وهو الذي اشتهر بينهم بوصف الصادق الأمين, ويهون عليه الأمر بتكليفه بمجرد البلاغ عن الله ـ تعالي ـ والتبشير بالجنة ونعيمها, والتحذير من النار وأهوالها, والإنذار من خطر الوقوع في أي من مواردها, وترك الخيار للإنسان( ذلك المخلوق المكرم, العاقل, المختار, المكلف) أن يسلك ما يشاء من الطريقين, وأمره متروك إلي الله ـ تعالي ـ وحده الذي يحكم بين الناس بعلمه المحيط بكل شيء, وعدله المطلق الذي لا يظلم أحدا.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة( طه), وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والاشارات الكونية والتاريخية والعلمية, ونركز هنا علي أوجه الإعجاز التاريخي والتشريعي في النص الكريم الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال.
أولا: من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في النص الكريم:
يشير هذا النص القرآني الكريم إلي واقعة تاريخية مهمة في سيرة عبد الله ورسوله موسي بن عمران( علي نبينا وعليه من الله السلام), وقد وقعت في يوم عاشوراء المعروف بيوم الزينة, وهو اليوم الذي أظهر الله ـ تعالي ـ فيه عبده ورسوله موسي علي فرعون وسحرته. وكان ذلك بعد أن أوفي موسي بالأجل الذي قطعه علي نفسه لصهره بأرض مدين( في أقصي الشمال الغربي من جزيرة العرب) وسار بأهله تجاه أرض مصر فتاهوا في شبه جزيرة سيناء. وفي ليلة مظلمة شديدة البرد رأي موسي نارا تتأجج في جانب الطور, فتحرك إليها لعله أن يأتي لأهله بقبس منها أو أن يجد علي النار هدي, فلما وصل إليها في الجانب الغربي من' الوادي المقدس طوي' ناداه الله ـ تعالي ـ وشرفه بالنبوة, وكلفه بهداية فرعون وملئه إلي عبادة الله وحده, فشكا موسي إلي الله ـ تعالي ـ خوفه من انتقامهم, لسابق قتله نفرا منهم, وهروبه إلي أرض مدين, كما شكا من عقدة لسانه, وسأل ربه أن يشد أزره بأخيه هارون, فآتاه الله ـ تعالي ـ طلبه, وأعطاه تسع آيات بينات تشهد له بالنبوة. وأوحي الله ـ سبحانه وتعالي ـ إلي هارون أن يلقي أخاه موسي وأن يكون بجانبه في هدايته إلي فرعون وملئه, وفي ذلك تقول الآيات:[ اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري(42) اذهبا إلي فرعون إنه طغي(43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشي(44) قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغي(45) قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأري(46) فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام علي من اتبع الهدي(47) إنا قد أوحي إلينا أن العذاب علي من كذب وتولي(48) قال فمن ربكما يا موسي(49) قال ربنا الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدي(50) قال فما بال القرون الأولي(51) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسي(52) الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتي(53) كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي(54) منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري(55) ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبي(56) قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسي(57) فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوي(58) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحي(59) فتولي فرعون فجمع كيده ثم أتي(60) قال لهم موسي ويلكم لا تفتروا علي الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افتري(61) فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوي(62) قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلي(63) فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلي(64) قالوا يا موسي إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقي(65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعي(66) فأوجس في نفسه خيفة موسي(67) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلي(68) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتي(69) فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسي(70) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقي(71) قالوا لن نؤثرك علي ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا(72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقي(73)[ طه:42-73].
وجاء تفصيل واقعة يوم الزينة في أربعة مواقع أخري من القرآن الكريم في كل من سورة' الأعراف'(102-136), وسورة' يونس'(62ـ75), وسورة'101 و102, وسورة' الشعراء'(10 ـ51)
ويتضح وجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في تسجيل القرآن الكريم لواقعة لقاء كل من موسي وهارون ـ عليهما السلام ـ مع فرعون وسحرته بهذا التفصيل الدقيق. وهو أروع ما في الواقعة مما يجعل رواية القرآن الكريم لها وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في كتاب الله.
ثانيا: من أوجه الإعجاز التشريعي في تحريم السحر:
يعرف السحر بمجموع الأقوال والأفعال المنافية لأصول الدين الإسلامي, والمتعارضة مع الأخلاق الشرعية, ولذلك عرفه الفقهاء بأنه الكلام الموضوع الذي يعظم به غير الله ـ تعالي ـ, وهذا المخلوق المعظم زورا ينسب إليه زورا كذلك القدرة علي التحكم في مقدرات الكائنات, وبذلك يصبح السحر كبيرة من أقبح الكبائر, ويمثل ردة ظاهرة عن الدين, بصرف النظر عما يترتب علي ذلك من الآثار, وذلك لأن الذي يعظم غير الله بما هو مختص بالذات الإلهية فقط أو يصف الإله بما لا يليق به هو كافر بين الكفر إلي أن يتوب.
ومن السحر ما هو من باب التوهم والخيال, ومنه ما هو حقيقة, وقد تترتب عليه آثار حقيقية, سواء كانت ضعيفة محدودة, أو كانت بالغة الضرر والأثر. ويخبرنا القرآن الكريم بأن فرعون موسي قد جمع من قومه كل سحار عليم, وجاء بهم مجتمعين, فلم يأتوا إلا بخيال لا حقيقة له, كما وصفه القرآن الكريم بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ[ قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعي][ طه:66].
والنص صريح بأن سحرة فرعون ـ وقد كانوا من أمهر السحرة ـ لم يأتوا إلا بخيال لا حقيقة له, وكان ذلك قصاري جهدهم.
أما السحر الحقيقي فقد جاءت الإشارة إليه في القرآن الكريم عن قصة( هاروت وماروت) ومنه قول ربنا ـ تبارك وتعالي:[ واتبعوا ما تتلو الشياطين علي ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل علي الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتي يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون][ البقرة:102].
والقرآن الكريم ينفي عن عبدالله ونبيه سليمان أنه كان ساحرا, ويقرر أن السحر كفر ينفيه عن سليمان, ويثبته للشياطين, ويعتبر تعلمه واستخدامه كفرا كذلك, كما ينفي أن السحر منزل من عند الله علي الملكين ببابل( هاروت وماروت), ويبين أن هذين الملكين كانا في بابل( من أرض الكوفة) ابتلاء للناس لحكمة يعلمها الله ـ تعالي ـ وقد كان بعض الناس يصبر علي تعلم السحر منهما علي الرغم من تحذيرهما من ذلك, ومن تأكيد الله ـ تعالي ـ أن السحر يضر القائم به ولا ينفعه وأن من يشتريه لا نصيب له من خيري الدنيا والآخرة, فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون. وفي ختام الآية الكريمة تقرير لكلية التصور الإسلامي الصحيح بأنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله, لأنه هو رب هذا الكون ومليكه, حاكمه ومدبر كل أمره.
ولذلك أوصانا ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بالتعوذ به والاعتصام بجلاله بقوله العزيز:[ ومن شر النفاثات في العقد][ الفلق:4]. والنفاثات هن النساء الساحرات اللائي كن ينفثن( أي ينفخن) في عقد الخيوط حين يسحرن بها ليصبن عباد الله بسحرهن. والسحر يدفع شره بكثرة التعوذ بالله ـ تعالي ـ والتحصن به, واللجوء إليه, وبتقوي الله- تعالي- في السر والعلن, وأداء حقوقه, ومراقبة أوامره ونواهيه, فمن اتقي الله- تعالي- تولي حفظه, ولم يكله إلي غيره.
ومباشرة السحر كفر وارتداد عن الإسلام, سواء كانت المباشرة عملا به أو تعليما أو تعلما له. والمجاهر بالسحر حكمه القتل لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: حد الساحر, ضربه بالسيف'.
وقد تدخل الكهانة في السحر, وإن كان الكاهن هو العراف الذي يحدث ويتخرص, والذي له من الجن من يأتيه بالأخبار. والكاهن حكمه حكم الساحر, فيقتل إن جاهر بكهانته لقول سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه:' اقتلوا كل ساحر وكاهن'.
وفي قوله ـ تعالي:[ ولا يفلح الساحر حيث أتي][ طه:69]. تأكيد علي ذم السحر وأهله, وقد اعتبره رسول الله صلي الله عليه وسلم من الكبائر, ومن السبع الموبقات المهلكات.
ومن ذلك كله يتضح وجه الإعجاز التشريعي في تحريم السحر تحريما قاطعا بمختلف أشكاله وأساليبه وصوره, ومساواته بالكفر, واعتباره من الكبائر, لأنه قائم علي الاتصال الخفي بشياطين الجن وتوظيفهم في الإضرار بالأبرياء الغافلين من خلق الله, من أجل منازعة الله في سلطانه, وهو_ تعالي ـ رب هذا الكون ومليكه, وحاكمه ومدبر أمره. والسحر ضرب من أخذ زمام معاقبة الأبرياء دون محاكمة, ونوع من الظلم المتجاوز لكل الحدود في حق الله ـ تعالي ـ وفي حق عباده.
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش