بقلم: د. زغلول النجار
"الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" هذا النص القرآني الكريم جاء في بداية الثلث الأخير من سورة' البقرة', وهي سورة مدنية, وآياتها مائتان وست وثمانون(286) بعد البسملة, وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق.
وتأتي بعد فاتحة الكتاب مباشرة. وقد سميت السورة الكريمة بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي معجزة حسية أجراها الله- تعالي- علي يدي عبده ونبيه موسي- علي نبينا وعليه من الله السلام- حين تعرض شخص من قومه للقتل, ولم يعرف قاتله, فأوحي الله- سبحانه وتعالي- إلي عبده موسي أن يأمر قومه بذبح بقرة, وأن يضربوا جثة الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله, ويخبر عن قاتله ثم يموت, وذلك إحقاقا للحق, وشهادة لله- تعالي- بالقدرة علي إحياء الموتي.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة' البقرة', وما جاء فيها من تشريع, ومن ركائز العقيدة, ومن دعوة إلي الالتزام بمكارم الأخلاق, وقصص, وإشارات كونية, ونركز هنا علي أوجه الإعجاز التشريعي في تحديد مواعيد الحج وآدابه.
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم:
أولا: الإعجاز التشريعي في تحديد زمن الحج:
حدد ربنا- تبارك وتعالي- لأداء فريضة الحج وقتا معلوما هو شهور شوال, وذو القعدة والعشر الأوائل من شهر ذي الحجة.
ولله- تعالي- أن يفضل بعلمه المحيط ما يشاء من خلقه علي بعض وذلك من الأزمنة, والأماكن, والرسل والأنبياء, والأفراد الآخرين من بني آدم, ففي تفضيل الرسل قال- تعالي-:[ تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض]( البقرة:253).
ومن تفضيل الأنبياء قال- تعالي-:[ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين علي بعض]( الإسراء:55). ومن تفضيل بعض أفراد بني آدم علي بعض قال- سبحانه وتعالي-: أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون( الزخرف:32).
ومن تفضيل بعض الأماكن علي بعض قال- تعالي- في فضل مكة المكرمة:
(1)[ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي وعهدنا إلي إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود]( البقرة:125).
(2)[ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين(96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين(97)]( آل عمران:97,96).
(3)[ أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون]( القصص:57).
(4)[ وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القري ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم علي صلاتهم يحافظون]( الأنعام:92).
(5)[ وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القري ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير]( الشوري:7).
(6)[ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم]( الحج:25).
(7)[ قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون]( البقرة:144).
ومن تفضيل بعض الأزمنة علي بعض قال- تعالي-:
(1)[ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم]( التوبة:36).
(2)[ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم]( المائدة:97).
(3)[ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان]( البقرة:185).
(4)[ والفجر(1) وليال عشر(2)]( الفجر:2-1).
(5)[ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله]( الجمعة:9).
(6)[ ليلة القدر خير من ألف شهر(3) تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر(4) سلام هي حتي مطلع الفجر(5)]( القدر:5-3).
وواضح من هذه الآيات الكريمة أن الله- تعالي- قد جعل يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع, وأنزل في فضله سورة من سور القرآن الكريم( هي سورة الجمعة), وجعل شهر رمضان أفضل شهور السنة, واختصه بإنزال هدايته للبشرية فيه, وجعل الليالي العشر الأخيرة منه أفضل عشرة ليال بالسنة وجعل أفضلها علي الإطلاق ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. ومن بعد رمضان يأتي فضل أشهر الحج وفضل بقية الأشهر الحرم. فجعل ربنا- تبارك وتعالي- الأيام العشر الأولي من شهر ذي الحجة أفضل عشرة أيام في السنة( بمعني النهار) وجعل أشرفها علي الإطلاق يوم عرفة( أي نهار عرفة), وفي ذلك يقول رسول الله- صلي الله عليه وسلم-:' ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة' فقال رجل: هن أفضل, أم عدتهن جهادا في سبيل الله؟ قال- صلي الله عليه وسلم-:' هن أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله, وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة, ينزل الله- سبحانه وتعالي- إلي السماء الدنيا, فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلي عبادي, جاءوني شعثا غبرا ضاحين, جاؤوا من كل فج عميق, يرجون رحمتي ولم يروا عذابي, فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة'( أبو يعلي, البزار, ابن خزيمة وابن حبان).
لذلك كان الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم. وحرم ربنا- تبارك وتعالي- الأشهر الحرم منذ الأزل( وهي ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, ورجب) وجعل القتال فيها محرما.
من هنا كان في قول ربنا- تبارك وتعالي-:[ الحج أشهر معلومات...] تأكيد حرمة الوقت الذي حدده- سبحانه- منذ الأزل للإحرام بالحج في أشهر معلومات( هي شوال, وذو القعدة, والعشر الأوائل من ذي الحجة). وعلي ذلك فلا يصح الإحرام بالحج إلا في هذه الأشهر التي حددها ربنا- تبارك وتعالي- والتزم بها خاتم أنبيائه ورسله- صلي الله عليه وسلم-.
ففي سنة8 للهجرة تم فتح مكة المكرمة, وتم تطهير الحرم المكي مما كان المشركون قد وضعوا فيه من الأصنام والأوثان والنصب. وفي السنة التاسعة من الهجرة نزلت سورة' التوبة' بتحريم الطواف بالبيت علي المشركين. وفي السنة العاشرة من الهجرة أخبر ربنا- تبارك وتعالي- خاتم أنبيائه ورسله- صلي الله عليه وسلم- بأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض, بعد أن كان عرب الجاهلية قد عبثوا بالأشهر القمرية عندما استخدموا فكرة النسيء وهي فكرة شيطانية, فأربكوا معلومات الناس عن شهور السنة, ومن ثم أمره- سبحانه وتعالي- بأداء فريضة الحج بعد أن طهر هذه الشعيرة من أدران الجاهلية بالكامل, وبين للمسلمين مواقيت, ومناسك, وآداب هذه العبادة العظيمة التي يكرم الله- تعالي- من يختاره من عباده لأدائها. فخرج رسول الله- صلي الله عليه وسلم- للحج في أواخر شهر ذي القعدة سنة عشر هجرية, وكانت الحجة الوحيدة التي أداها ورافقه فيها جمع غفير من المسلمين, ولذلك عرفت باسم' حجة الوداع', أو' حجة البلاغ' أو' حجة الإسلام'.
ثانيا: من الإعجاز التشريعي في تحديد آداب أداء فريضة الحج:
في قول ربنا- تبارك وتعالي-:[ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج...]( البقرة:197).
نجد أن من معاني هذا النص الكريم ما يفهم منه أنه من أوجب علي نفسه أداء فريضة الحج وأحرم بها من المسلمين, البالغين, العقلاء, الأحرار, المستطيعين, فعليه مراعاة آداب هذه العبادة الجليلة. ومن ذلك التنزه عن مباشرة العلاقات الزوجية أو التفكير فيها, والاستعلاء علي كل قبيح من الكلام أو الأفعال; لأن الحاج مقبل علي الله- تعالي- والمقبل علي ربه يجب أن يتجرد لله دون سواه, وأن ينشغل بذكره وبالطاعات له, والقربات إليه, وأن يسمو بنفسه ولسانه فوق كل الشهوات والرغبات الدونية وهو ما يجمع تحت مدلول( الرفث) الذي نهي القرآن الكريم عنه لأن من معاني(الرفث) الفحش في الكلام أو الأفعال.
أما( الفسوق) فهو الخروج عن حدود الشرع, أو علي الآداب المرعية وعن الأخلاق السوية وذلك بإتيان المعاصي( كبرت أم صغرت) ومنها المظالم في حق الفرد نفسه أو في حق من يصحبه من الحجاج, وأما( الجدال) فهو المماراة والمشادة في الكلام حتي يغضب الإنسان صاحبه ويؤدي إلي الشحناء والخصام بينهما. خاصة أن المطلوب في الحج هو الاجتهاد في فعل الخيرات, والأعمال الصالحات طلبا للأجر من الله- تعالي- ورجاء التعلق برحماته, والتزام الواجب بالتأدب في هذه الأماكن المباركة التي حرمها الله- تعالي- يوم خلق السموات والأرض, ولذلك قال- تعالي- عن الحرم المكي:[... ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم]( الحج:25).
( والإلحاد) هو الميل عن الحق, ويقصد به ارتكاب المعاصي في مكة المكرمة وحرمها الشريف. أو من ارتكب جرما خارج الحرم ثم لجأ إليه.
ومن معاني ذلك: أن كل من يقصد في الحرم المكي تصرفا سيئا أو ينوي الإتيان بمعصية أو إساءة فيه, فإن الله- تعالي- قد أخذ علي ذاته العلية العهد أن يذيقه أشد أنواع العذاب إيلاما, لأن الحرم المكي تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات, فكل من يحيد عن الحق فيه أو يرتكب ظلما علي أهله أو ساكنيه فإن الله- تعالي- قد تعهد بعذابه عذابا شديدا.
والحيود عن الحق في الحرم المكي يشمل سائر الآثام, ومن ذلك الصد عنه, واحتكار الطعام والشراب فيه بغير حق, والإسراف في كل شيء وأمر, وظلم الآخرين, والتدافع في الزحام, وعدم مراعاة الضعفاء من النساء والأطفال وكبار السن والعجزة. وهذا التعبير القرآني الكريم يهدد ويتوعد كل من يقوم بمجرد التفكير في الميل عن الحق في الحرم المكي وذلك زيادة في التحذير, ومبالغة في التوكيد علي نزول عذاب الله الشديد بكل من تسول له نفسه ذلك.
ومن هنا تتضح ومضة الإعجاز التشريعي في قول ربنا- تبارك وتعالي-[ الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج....] ومن معاني ذلك أن لفريضة الحج وقت معلوم, وأن من آداب أداء هذه الفريضة الالتزام بمكارم الأخلاق حرصا علي الأجر من الله, وتهذيبا لنفس الحاج حتي يخرج من هذه الطاعة بطهارة القلب والبدن, وبتهذيب النفس والسلوك, وبالحرص الدائم علي الإحسان إلي الآخرين, وبحب مساعدة الضعفاء والمحتاجين, وبالسعي الجاد من أجل تحقيق سعادة الدارين, وبالحصول علي مرضاة رب العالمين, فيعود من حجه كيوم ولدته أمه بذنب مغفور وعمل صالح مقبول, والله يعلم صدق عباده ويجازيهم عليه بأفضل الجزاء. ويكون ذلك إحدي الثمار العديدة لأداء تلك الفريضة( الحج), والله- تعالي- يعتبر تقصير العبد المستطيع آداءها, والممتنع عن ذلك دون عذر شرعي مقبول ضربا من ضروب الكفر بالله ولذلك قال_ وقوله الحق_:[ ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين]( آل عمران:97).
والنص الكريم يشير إلي دقة الشهور القمرية المحددة بدورة القمر حول الأرض دورة كاملة, لأن القمر هو أقرب أجرام السماء إلي الأرض, لذلك كانت دورته هذه هي أدق وسائل أهل الأرض لقياس الزمن النسبي. من هنا كانت سنة المسلمين قمرية/ شمسية, يحدد طول الشهر فيها دورة كاملة للقمر حول الأرض, ويحدد السنة فيها دورة كاملة لكل من الأرض والقمر حول الشمس. ويبقي الفارق الزمني بين الإثني عشر شهرا قمريا, والسنة الشمسية للأرض هو في حدود أحد عشر يوما, وهذا الفارق البسيط يجعل الشهور القمرية تنتقل عبر فصول السنة حتي لا ترتبط عبادات المسلمين بمناخ واحد محدد رحمة بالناس, وبذلك يتمكنون من إدراك حركة مرور الزمن. والله هو الموفق والمستعان, والهادي إلي سواء السبيل, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل الله وسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش