مجمع اللغة العربية والتعريب
بقلم : د.حافظ شمس الدين
لا أستطيع أن أنكر أن اهتمامنا باللغة العربية ينبع من عقيدة تدعو الي العلم وتحض عليه, ثم من عاطفة, وطنية قومية وقيم حضارية راقية وموروثات اجتماعية تضرب بجذورها الي أعماق التاريخ,
حين كان العرب يضيئون جنبات العالم بنور علمهم وانجازاتهم وإصداراتهم, وكما يقولون في كتب التاريخ: حين كان العلم يتحدث لغة عربية, حيث إن العلم واللغة عنصران متلازمان من عناصر تقدم الأمم ورقيها.
ولا أدل علي ذلك من أن اللغة العربية ازدهرت إبان عصور
الإسلام الأولي بازدهار العلم في هذه العصور, وأن اللغات الأجنبية الحية قد ازدهرت اليوم بازدهار العلم في أقطارها, فاللغة هي وعاء الفكر ووسيلة الاتصال والتواصل والتفاهم, والأهم فهي رابطة قومية ترسخ جذور الانتماء للوطن, كذلك فإن اللغة هي المخزون الذي لا ينضب من خبرات أهلها وتجاربهم ومعارفهم وفنونهم.
ويجب ألا ننسي أنه كما أخذ العرب العلم عن الفرس والهنود واليونان وترجموا الكثير من الكتب السريانية واليونانية, فقد أعطوا الكثير أيضا من علومهم في الفلك والرياضيات والكيمياء والطب وعلوم الأرض والفيزياء لايزال حيا ـ حتي اليوم ـ في جذور العلم الحديث وأصوله.
ولقد قيل إن لغة لا تدخلها ألفاظ أجنبية لا تعد لغة حية متطورة آخذة طريقها نحو العالمية ومواكبة التقدم والحضارة, فالعربية نفسها إبان النهضة الإسلامية الكبري في العصور الوسطي رفدت اللغات الأوروبية بألفاظ كثيرة وبخاصة في عهد الترجمة من العربية الي اللاتينية قبل عصر النهضة الأوروبية, وإذا أنعمنا النظر الي المعاجم الفرنسية مثلا, يتضح لنا أنها تضم آلافا من الكلمات الدخيلة, منها700( سبعمائة كلمة علي الأقل أصلها عربي), والمعاجم الانجليزية أيضا بها ألف كلمة علي الأقل أصلها عربي منها360( ثلاثمائة وستون) كلمة شاعت في الحياة العامة للناطقين بالانجليزية, وليست العربية أقل شأنا من هذا المضمار منذ القدم, ورحم الله الشهاب الخفاجي صاحب شرح درة الغواص الذي قال في القرن الحادي عشر الهجري: لو اقتصر السابقون في كلامهم علي الألفاظ التي استعملها العرب العاربة والمستعربة فقط, لعسر التكلم بالعربية علي من يأتي بعدهم.
وإنني أري أنه من الظلم أن يرمي المجتهدون والمخلصون من نقلة العلوم الطبيعية والتكنولوجية الي العربية بالإسراف في ممارسة التعريب والاقتراض اللغوي, والحقيقة أن هؤلاء العلماء, وغالبيتهم العظمي من أعضاء المجامع اللغوية وخبرائها في مصر والعالم العربي, من هذه التهمة براء. فهم لا يصنعون إلا ما سلكه أسلافهم من العرب الأوائل وما صنعه عرب عصور النهضة الإسلامية في تعريب ما لا تقدم اللغة فيه مايستوفي شروط الاصطلاح المتعارف عليه دوليا, وهم بالاضافة الي ذلك ملتزمون فيما يصنعون بقرارات مجمع اللغة العربية القاهري في1934 أنه يجيز أن تستعمل بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة علي طريقة العرب في تعريبهم.
ولقد فسر إبراهيم مدكور رئيس مجمع الخالدين الأسبق عبارة عند الضرورة التي وردت بالقرار بقوله: للعالم كامل الحرية في اختيار اللفظ الذي يرتضيه لأداء الحقيقة العلمية, فيستمد من الفصحي أو العامية السليمة, ويستعين عليه باللغات الحية أو الميتة وقد يشكو في قصور اللغة وعجزها عن أداء مايريد فيلجأ الي وسائل أخري منها التعريب.
وقد رسم مجمع اللغة العربية للتعريب قواعد تنظمه, فيعرب خاصة مايدل علي أسماء الأعيان وأعلام الجنس( كالأكسجين والإنزيم والأيون) وما يدل علي علم من أسماء الأجناس والأنواع في النبات والحيوان والمواد الكيميائية وماينسب الي علم أو شخص أو اسم مكان.
وفي بحث آخر أكد ابراهيم مدكور حق العلماء في التصرف باللغة لوضع المصطلح العلمي بقوله: وليس بلازم أن يكون التعريب علي أبنية العرب, فالعلم هو تراث الإنسانية جمعاء ويجب أن يفسح المجال فيه لتبادل الألفاظ كما تتبادل الأفكار والمعاني.
وقد عقب علي هذا البحث عالم النحو الراحل عباس حسن بقوله: إني لأري ألا نقف أمام المخترعات الحديثة ونكلف المجمع وضع ألفاظ عربية لها, فإنا حينئذ نكلف أعضاءه عسرا, فأنا لا أري داعيا لهذا التزمت من ضرورة اختيار ألفاظ عربية, لأن بعض المخترعات قد يتجاوزها الزمن وتتغير قبل أن نصطلح علي أسماء عربية لها.
ولسنا نحن وحدنا الذين نضطر للاقتراض اللغوي للضرورة, فإن هذا يصنعه أهل الغرب وغيرهم وقد سبقت الإشارة الي ما في معاجمهم من نسبة لا بأس بها من ألفاظ أصلها عربي, ويكفيني في هذا الصدد كلمة انتفاضةintifadah وكلمة حجابhejab اللتين دخلتا لغة الصحافة والشعر الإنجليزي وما كان أيسر من ترجمة هاتين الكلمتين الي الإنجليزية, ولكن هل تعبر اللفظة الإنجليزية المترجمة عن كل مقومات كلمة الانتفاضة وكلمة الحجاب؟.
وإذا كان مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد انتهج أسلوبا علميا مستقرا في اختيار المصطلح العلمي, فوضع قواعد محددة يلتزم بها كل من يطرق ميدان التعريب ووضع المصطلحات العلمية, فيبدأ بعرض المصطلح ومناقشته في اللجنة المتخصصة حيث يهذب وينقح, ثم يعرض في جلسة المجمع لإعادة عرضه ومناقشته وتنقيحه, ثم بعد ذلك يعرض في إحدي جلسات مؤتمر المجمع الذي يعقد مرة في كل عام ويحضره أعضاء المجمع من كل الأقطار, وبذلك تكتمل مقومات المصطلح. وهذا النهج الذي يسلكه المجمع في إقرار مصطلحاته يرتكز علي مباديء مهمة هي:
1ـ الحفاظ علي التراث العربي وإيثار ترجمة المصطلح مع إجازة التعريب.
2ـ الوفاء بأغراض التعليم العالي والثانوي والتعليم بصفة عامة وكذا متطلبات التأليف والترجمة والثقافة العلمية.
3ـ مسايرة النهج العلمي العالمي في أسلوب اختيار المصطلح والتقريب بينه وبين العربية وبين نظيره في اللغات العالمية الحية لتسهيل المقابلة بينهما للمشتغلين بالعلوم الأساسية وتطبيقاتها.
4ـ تعريف كل مصطلح تعريفا علميا.
وأخيرا فليطمئن كل غيور علي لغته العربية, فأهل العلوم الطبيعية والتكنولوجية لا يعربون إلا في حدود الضرورة, ولا خشية علي اللغة أصولا ونحوا وبلاغة من معرباتهم, فهي بالتعريب قد دخلت اللغة ويجب أن تخضع لقواعدها إعرابا واشتقاقا وما الي ذلك. هذا فضلا عن أنها لن تدخل لغة الأدب إلا بمقدار يسير وستظل متنا خاصا تقريبا للمشتغلين بالعلم وتطبيقاته التكنولوجية.
ساحة النقاش