دور الإحصاء في خفض عجز الموازنة العامة
بقلم: د. سلطان أبوعلي
من المسلم به أن أكبر مصادر ارتفاع معدل التضخم والمستوي العام للأسعار. هو عجز الموازنة العامة للدولة, خاصة عندما يتم تمويله عن طريق الإصدار النقدي, وتعاني مصر من عجز مزمن في موازنتها العامة.
وقد بلغ هذا العجز كنسبة الناتج المحلي الاجمالي مستوي مرتفعا جدا, فاق17% في أواخر ثمانينيات القرن الماضي, وقد انعكس ذلك علي معدل التضخم الذي ساد في ذلك الحين, إذ تخطي22% سنويا.
وقد أخذ هذا المعدل في التناقص بعد اتباع مصر برنامج الاصلاح الاقتصادي والتثبيت الهيكلي منذ عام,1991 وقد وصل هذا العجز الي حوالي1.5% من الناتج المحلي الاجمالي بنهاية العقد الاخير من القرن العشرين, كما انخفض معدل التضخم الي أقل من6% سنويا. إلا أن هذه المؤشرات قد عادت الي الارتفاع من جديد وزاد عجز الموازنة العامة علي8.5% من الناتج المحلي الاجمالي في عام2008, وربما كان هناك بعض التبرير لعدم مواجهة عجز الموازنة في عامي2008 و2009 من أجل مواجهة الركود الاقتصادي الذي نتج عن الازمة التمويلية العالمية وتأثر كل دول العالم بها بدرجات متفاوتة إلا أن استمرار هذا العجز ضار بالاقتصاد المصري, ويلزم العمل علي تخفيضه من أجل تحقيق الاستدامة المالية وتخفيض معدل التضخم الي المعدل المقبول.
ويتطلب تحقيق هذا الهدف رسم السياسات المالية الطويلة الأجل بطريقة سديدة وهذا يستلزم معرفة حقيقة أوضاع القطاعات الاقتصادية المؤثرة في جانبي الموازنة العامة وهما النفقات والايرادات. ويحتاج التنبؤ السليم, والتقدير الدقيق لبنود الموازنة توافر احصاءات دقيقة لأطول فترة زمنية ممكنة وأن تكون معاصرة للوقت الحالي. وهذه الاحصاءات يوفرها جهاز الاحصاء الرسمي, أي الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء, ويسهم ذلك في جعل السياسة المالية مضادة لتقلبات الدورة الاقتصادية أي أن تتخذ الاجراءات التي تقلل من الانكماش المتوقع أثناء الركود, وتعمل علي كبح جماح التضخم في فترات الرواج الزائد.. وبدون هذه الاحصاءات قد تعمق السياسة المالية من آثار الدورة الاقتصادية بغير قصد, نتيجة لعدم توافر البيانات والاحصاءات الملائمة من حيث الجودة والزمن.
ومن هنا يبرز الدور الرئيسي الذي يؤديه جهاز الاحصاء في تحقيق الكفاءة المالية واستدامة المالية العامة, بدون التأثير سلبا علي معدلات النمو الاقتصادي أو علي الأحوال المعيشية للسكان. وفي مصر ـ كما هو معروف ـ يصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء العديد من النشرات والاصدارات الاحصائية علي اساس شهري أو سنوي. كما ينشر التعداد العام للسكان والمنشآت مرة كل عشر سنوات. وتتعلق هذه المطبوعات باحصاءات السكان والقوة العاملة, والانتاج الصناعي والزراعي واحصاءات النقل والتجارة واحصاءات الاسعار, والمؤشرات الاقتصادية والمالية. ويسهم استخدام هذه الاحصاءات في العمل علي خفض عجز الموازنة العامة وذلك علي النحو التالي:
أولا: خفض النفقات
يرتبط مستوي الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية في أي دولة بمقدار النفقات العامة منسوبا الي حجم السكان أي بمتوسط ما يتمتع الفرد به من نفقات عامة, صحة وتعليم وخدمات اجتماعية وغيرها.
ومنذ أربعة عقود تقريبا درج المصريون علي الهجرة إلي خارج مصر بأعداد متزايدة. ومن هنا تكون إحصاءات السكان العاملين في الخارج, وعدد السكان الموجودين بالداخل, حيوية في تحديد هذا المستوي من الرفاهية العامة.
ومن ناحية أخري, فان السياسات الاقتصادية التي تتبعها مصر في الوقت الحالي تقوم علي أسس اقتصاديات السوق, والاعتماد علي القطاع الخاص, ومن ثم فان النفقات العامة يجب أن تركز علي المجالات الاجتماعية التي تلبي الاحتياجات العامة, أما بالنسبة للحاجات الخاصة ـ أي التي يطبق عليها مبدأ الاستبعاد ـ فيمكن أن تلبي عن طريق القطاع الخاص تحت اشراف الدولة وتوجيهها, ومن ثم يخفف العبء عن النفقات العامة بحيث تركز علي التعليم والصحة والدفاع والخدمات الاجتماعية الاخري, ونطاق الحاجات العامة يتغير مع تغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية, ومن ثم نحتاج الي احصاءات دقيقة تبين هذه التغيرات التي تستخدم في رسم السياسات الملائمة.
ومن أحد الاستخدامات المهمة لاحصاءات السكان والقوي العاملة والتعليم, بيان مدي استيعاب المدارس لاعداد التلاميذ الذين هم في سن التعليم, ومنها نستطيع تحديد الاحتياجات من المدارس. ومن هذه البيانات والاحصاءات نتمكن من التعرف علي نسبة العاطلين من القوة العاملة. ومن المسلم به أن هذه النسبة تعتبر هدرا للطاقات البشرية, بالاضافة الي ما يمكن أن يترتب عليها من أضرار اقتصادية واجتماعية وسياسية وانسانية وتظهر احصاءات اليد العاملة بحسب المهن كيفية توزيعها علي المهن المختلفة فاذا اضيفت اليها احصاءات الطلب علي هذه المهن, يستطيع المجتمع التعرف علي الفائض أو العجز في كل منها, ومن ثم يستطيع رسم السياسات التي تحقق التوازن في مختلف المهن, وتصحيح هيكل القوة العاملة بما يتلاءم مع احتياجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية كما يمكن التعرف علي اولويات مجالات التدريب الفني والمهني اللازمة للمجتمع.
ومن اهم النفقات التي تسهم في عجز الموازنة العامة للدولة نفقات الدعم. ويذهب جزء كبير من هذا الدعم إلي من لايستحقه, وبحث ميزانية الاسرة الذي يبين نفقات الاسرة علي البنود المختلفة من طعام وملبس ومسكن وخدمات وغيرها يمكن ان يسهم بطريقة فعالة في تمييز الاسر التي تستحق الدعم عمن لاتستحقه وبذلك يمكن حسم هذه المعضلة التي طال النقاش والجدل فيها في مصر.
ويصح نفس الشيء عن بنود النفقات الجارية الاخري, اما بالنسبة للنفقات الاستثمارية فإن ما توفره الاحصاءات الخاصة بالبنية الاساسية: طرق, وكهرباء, وسكك حديدية, وموانئ, ومطارات, وغيرها, تبين مدي توافرها علي مستوي الدولة وتوزيعها علي الاقاليم المختلفة.
ويمكن من خلالها استنباط الفجوات التي يلزم سدها, وتجنب الاستثمارات في المجالات التي بها وفرة او علي الاقل تأجيلها الي الاجل المناسب, وفي هذا ترشيد للانفاق الاستثماري.
ان الامثلة السابق ذكرها, تبين الدور الحيوي الذي يمكن ان تلعبه الاحصاءات الدقيقة والمنتظمة والمتزامنة مع لحظة الاحتياج اليها في إقلال النفقات العامة, وتجنب غير الضروري منها, وخاصة هدر مياه الشرب والصرف الصحي والاسكان الشعبي بما لايحتاج منا الي ذكرها, والآن ماذا عن جانب الايرادات العامة؟.
ثانيا: الإيرادات العامة
إن عجز الموازنة العامة للدولة هو زيادة النفقات العامة عن الايرادات العامة واستدامة هذا العجز في مصر نابعة من ارتفاع معدل زيادة النفقات العامة عن معدل زيادة الايرادات العامة, ويقتضي تقليص العجز العمل علي تنمية الايرادات العامة بما يتلاءم مع قدرة الشعب علي الدفع وعدم التأثير سلبا علي الحافز علي الانتاج والاستثمار, بحيث يتزايد معدل النمو سنة بعد اخري. واهم مصدر للايرادات العامة هو الضرائب المباشرة وغير المباشرة وتحدد احصاءات المنشآت المختلفة والانتاج الصناعي والزراعي الاتجاهات التي يجب ان تسير فيها الايرادات العامة من الضرائب فاذا لم تتوافق حصيلة الضرائب المحصلة مع هذه الاحصاءات كان معني ذلك, ان هناك من المنشآت الفردية أو غيرها التي تجنبت أداء الضرائب المستحقة عليها أو تهربت من أدائها أو أن الإقرارات الضريبي= المقدمة منها لاتذكر حقيقة نشاطها, بل أقل منه كثيرا. كما يمكن أن تستخدم احصاءات التجارة الدولية التي ينشرها الجهاز في بيان حجم الضرائب علي المبيعات المستحقة عليها, وحصيلة الرسوم الجمركية المتوقعة, وهذا مما يسهم في حسن تقدير مقدار التهرب من اداء الرسوم الجمركية او ضريبة المبيعات, ويصح ذات الشيء علي ضريبة المبيعات المستحقة علي الانتاج المحلي, وذلك باستخدام احصاءات الانتاج الصناعي والزراعي والخدمي التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء.
ومع تحسن حصر هذه المتغيرات يتوقع ان تتزايد معدلات الايرادات العامة, بما يفوق زيادة النفقات العامة, ومن ثم يتقلص عجز الموازنة للدولة الذي هو احد المؤشرات الاساسية لحسن إدارة الاقتصاد الوطني.
مما سبق يتبين الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه الاحصاءات في تحقيق الانضباط والاستدامة الماليتين بما يسهم في تحقيق النمو والعدالة والاستقرار في مصر.
وعلي هذا الاساس فان التعاون اللصيق بين الجهاز الوطني للاحصاء ووزارة المالية ضروري من اجل تفعيل ضبط السياسات العامة وتحقيق النمو الاقتصادي المنشود.
ساحة النقاش