بقلم: د. وحيد عبدالمجيد
حساسية شديدة تكتنف أي نقاش حول الآثار المترتبة علي جعل مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وفقا للمادة الثانية من الدستور, وما إذا كانت لها علاقة بحالة الاحتقان الديني
التي نسميها فتنة طائفية. ولعل أكثر مايثير هذه الحساسية هو الاستقطاب الشديد الذي يحدث فور فتح أي نقاش حول هذه المادة, وتحديدا حول شطرها الثاني الذي يثير قضية موقع الشريعة الإسلامية في النظام السياسي والقانوني المصري.
فما أن يبدأ الجدل في هذا المجال حتي نجد سباقا نحو الاستقطاب بين من يصرون علي عدم الاقتراب من المادة الثانية ومن يطالبون بتعديلها سواء بشكل جذري( أن تكون الشرائع السماوية في مجملها هي المصدر الرئيسي للتشريع وليست مباديء الشريعة الإسلامية وحدها) أو بصورة جزئية( العودة الي النص علي أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع وليست هي المصدر الرئيسي).
وفي ظل هذا الاستقطاب, يضيع موضوع النقاش الذي يصبح فارغا من المضمون ويتحول الي مايشبه حربا بين فريقين يحشد كل منهما أسلحته ضد الآخر.
ولذلك لن يتيسر إجراء حوار جدي حول المادة الثانية بدون تحريره من أجواء الاستقطاب ومعاركه الكلامية العنيفة وحروبه اللفظية المؤلمة. فالمدي الذي بلغه الاحتقان الديني بات ينذر بخطر لا سابق له. وأصبح واجبا علي كل من يدرك هول هذا الخطر أن يسعي الي حوار حر صريح. ولايمكن أن يكون مثل هذا الحوار كذلك إذا استبعدنا منذ البداية بعض القضايا التي يري البعض أنها وثيقة الصلة بموضوعه. فليس حوارا ذلك الذي يبدأ بمصادرة حق البعض في طرح وجهات نظرهم. وينطبق ذلك علي المطالبين بتعديل المادة الثانية بدعوي أنها تضفي طابعا دينيا علي الدولة بالرغم من كل مايقال عن دولة مدنية, وتساهم في إشاعة أجواء سلبية تساهم في اشتداد حدة الاحتقان الديني وازدياد خطر الفتنة الذي تقترن به.
وهذا رأي لايصح الاستخفاف به مهما بدا صادما للكثير. وحتي بالنسبة الي من لايقبلون هذا الرأي, مثل كاتب السطور, ويرون أن المادة الثانية بريئة من الفتنة التي بدأت في مطلع السبعينيات قبل مايقرب من عقد كامل علي تعديل شطرها الثاني, ينبغي التفكير في آثار غير مباشرة تترتب علي الصياغة الحالية للمادة الثانية وتتجاوز منطوقها ودلالتها المباشرة.
فبعض المصريين المسلمين الذين ينكرون علي المسيحيين شيئا من حقوقهم إنما يتصرفون انطلاقا من اعتقاد في أن الدولة ـ التي جعل الدستور مباديء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع فيها ـ هي دولتهم علي سبيل الحصر. وصانعو المناهج الدراسية الذين يسقطون الحقبة القبطية, ولايضعون صورة واحدة لامرأة غير محجبة في أي من هذه المناهج, يتصرفون كما لو أنهم في دولة دينية ما دامت تقوم علي شريعة الإسلام.
والمسئولون عن البرامج الدينية في التليفزيون الرسمي, أي تليفزيون الدولة التي يفترض أنها مدنية, لايضعون علي خريطة البث برنامجا دينيا مسيحيا لأنهم ربما يظنون خطأ أنهم في دولة دينية لاتعرف تعدد الأديان.
وهذه كلها, وغيرها, مواقف وسلوكيات تغذي اتجاه قطاع واسع من المسيحيين نحو العزلة, وتساهم في خلق شعور بالتمايز يتحول في بعض الأحيان الي إحساس بالتمييز علي نحو يوفر البيئة الملائمة لانتشار الاحتقان الديني الذي بلغ خطره في الأسابيع الأخيرة مبلغا لا سابق له.
ولذلك يصعب الشروع في علاج حقيقي لهذا الاحتقان الذي تعاظم خطره, وليس فقط مسكنا للألم الناتج عنه, بدون حوار جدي لايستثني الدستور ولايحجر علي مناقشة المادة الثانية فيه.
غير أن إزالة مايمكن أن يكون آثارا سلبية غير مباشرة لهذه المادة, أو بالأحري شطرها الثاني الذي ينص علي أن( مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع) لاتستدعي تعديلها. فقد يكون في تعديل المادة(46) في الدستور فائدة أكبر وأثر إيجابي أعم لا يتجاوز إزالة ما قد يعتبر آثارا سلبية غير مباشرة للمادة الثانية أو شطرها الأخير, فالمادة46 التي تنص علي أن الدولة تكفل حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية, لاتكفي لتحصين المجتمع ضد أي قيود قد يفرضها المشرع علي حرية الاعتقاد نتيجة إساءة تأويل للمادة الثانية. كما أنها لاتكفي لخلق مناعة في مواجهة الشعور بالتمايز والاحساس بالتمييز وانتشار الاحتقان.
ولذلك يحسن تعديل المادة(46) والعودة الي الصياغة التي كانت موجودة في دستور1923 بشأن إطلاق حرية الاعتقاد. قد نص ذلك الدستور علي أن( حرية الاعتقاد مطلقة), الأمر الذي يستحيل معه فرض أي قيود عليها بذريعة المادة الثانية أو غيرها.
وعندئذ ينتفي السبب الرئيسي وراء خوف البعض من الآثار المترتبة علي المادة الثانية التي تغدو ـ والحال هكذا ـ توجيها للمشرع لكي يحرص علي عدم تعارض التشريعات مع مباديء الشريعة الإسلامية التي لايختلف عليها من ينشدون المصلحة العامة. فالعدل والحق والحرية والمساواة كلها مباديء إنسانية سامية يتمني المصريون المسيحيون, مثلهم مثل المسلمين, أن يروها في واقعنا الراهن.
وهكذا, فإذا وفرنا ضمانات صارمة لحرية الاعتقاد, لن يبقي خلاف ملموس علي الجزء الأخير في المادة الثانية, مثلما لايوجد أي تباين علي الجزء الأول فيها وهو أن الإسلام دين الدولة.
فلم تكن هناك أية مشكلة في النص علي أن الإسلام دين الدولة منذ أن حدث توافق فوري عليه في اللجنة التي أعدت مشروع دستور1923, وكان في عضويتها عدد من الساسة والقانونيين المصريين المسيحيين, فضلا عن نائب بطريرك الأقباط. وأصبح هذا النص مستقرا في الفقه الدستوري المصري باعتباره تحية من المشرع الدستوري لدين الأغلبية وفق التعبير الجميل الذي استخدمه الفقيه الكبير د. عبدالحميد متولي. فقد اعتبر النص علي دين الدولة, منذ دستور1923 وحتي دستور1971, أمرا طبيعيا سواء عندما كان ضمن الأحكام العامة في دستور1923, أو حين أصبح بين مقومات الدولة منذ دستور1956.
وستكون هذه هي حال النص علي أن مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, عندما يطمئن كل مصري علي أن حريته في الاعتقاد مطلقة لا تخضع لأي اعتبارات نسبية أو متغيرة.
المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش