الأصولية والعقل
بقلم : د. محمد عبدالستار نصار
كثرت في هذه الأيام التصورات عن الأصولية والحديث عنها كأنها أمر مناقض للعقل, واذا كان تحرير محل النزاع يعد القضية الأولي في كل حوار بناء حتي يأخذ طريقة الي نتائج صحيحة.
فان هذا يقتضينا أن نبين معالم الأصولية من وجهة النظر الاسلامية والغربية علي السواء. فأما من الوجهة الأولي فانها تعني: الرجوع الي ثوابت الأمة ومصادرها التي صنعت تاريخها الطويل والتي ميزتها من بين الأمم الأخري. بشرط أن يكون العقل الصريح الواعي هو الارادة الفاعلة في استلهام هذه الأصول, وربطها بالواقع, حتي يظل الاسلام قابضا علي زمام الحياة. وقد ترتب علي هذا الشرط, أن يكون الاجتهاد بكل ادواته واهدافه متحققا ومفتوحا لكل من هو أهل له, وأما الأصولية بالمعني الغربي فانها تختلف عن الأصولية بالمعني الاسلامي تماما لأنها تعني بتجاوز كل ما هو ديني افرزته عقول مجموعة من آباء الكنيسة في القرون الوسطي ومطالع العصر الحديث بصورة تخلف العقل والعلم. ويضاف الي تلك الصورة ما صحبها من تنكيل بالعقلاء والعلماء من اصحاب النزعات المتحررة المستقلة, ذلك الذي تجلي فيما عرف بمحاكم التفتيش, وقصة الاضطهاد باسم الدين في اوروبا اظهر من أن تنكر.
واذا كان الأمر هكذا اعني: أن مفهوم الاصولية في الاسلام غير مفهومه لدي الغربيين, فأي عقل يقبل أن يعم الحكم هنا فيتحدث كاتب عن هذا الموضوع حتي ليوحي الي القاريء أن الاصولية عندنا هي نفس الاصولية عندهم؟ ان هذا من المغالطات المنهجية ومن المعلوم ان الأمة اذا كانت ذات اصول, جمعت بين المنقول الصحيح والمعقول الصريح وهذا ما يميز الأصولية الاسلامية- فان تجاوز هذه الأصول لا يعدو ان يكون بناء علي غير اساس شأنه شأن من يبني ناطحات السحاب علي رمال الصحراء, وفي تراثنا ما يؤكد التعانق التام بين النقل والعقل حتي اصبح من معالم هذا التراث ان الشرع عقل من خارج وان العقل شرع من داخل, كما عبر عن ذلك الامام الغزالي- وفي عمل عقلي ممتاز يصدر شيخ الاسلام ابن تيمية كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل ولعل أهم ما يمكن أن يفيد في تحقيق قضية العلاقة بين العقل والنقل انه من المستحيل تصور تناقض بينهما والا كانت رسالة الأنبياء عبثا, لأنهم جاءوا الي اقوامهم بالبيان لنهج الله, وبما تطيقه عقولهم- كما أنهم ليسوا فلاسفة يصدرون نظريات فلسفية علي العقل ان يجتهد في تفسيرها, انهم الواسطة بين الله سبحانه وتعالي صاحب المنهج الذي به يصلح الانسان, وبين هذا الانسان
ومن القضايا التي تتصل بما نحن بصدده, ما يزعمه- احيانا- بعض الكاتبين عن أزمة العقل العربي, حيث تتبلور في نظرهم في تحرر العقل من كل ما يكون سببا في هذه الأزمة ومنها النص الديني. ولاشك في أن هؤلاء كمن يغرد خارج السرب, لقد كان الأولي بهم أن ينظروا. في قضية العلاقة بين العقل والنقل أولا علي الوجه الذي بينا, وفي نظري أنها أزمة ضمير وليست أزمة عقل, لأن الباحث الذي يقفز الي النتائج متجاوزا المقدمات هو باحث غاب ضميره, وقد نسي أو تناسي أن أمره مكشوف بأدني نظر, واذا كان منطق هؤلاء ينتهي الي تحرير العقل من ان يستضيء بالوحي فاي ضمان بعد ذلك للعقل في أن لايزل؟ وقديما قالت طائفة من المشركين بمثل الذي يقوله هؤلاء فتوالت الردود المنطقية عليهم كان أخفها ذلك الذي قال فيه اصحابه واذا سلمنا بأن في العقل كفاية عن النص في توجيه الانسان فما المانع من ان يجتمع العقل والنقل معا علي ذلك ليتعاونا في هذه المهمة الصعبة. وبهذا يظهر ان الاصولية الاسلامية لاتعني وأد العقل كما يقول بعضهم ولاتعني تقييده كما يقول آخر, وانما تعني: هديه حتي يعمل في اطار من الطمأنينة للوصول الي نتائج صحيحة في كل قضية تعرض له, واذا كان الغرور الكاذب هو الذي يحدو بعضهم الي عملية استقلال العقل عن النقل, فليس امامنا إلا أن نسوق لهم قصة ابليس حين أمره الله ان يسجد لآدم فأبي لأن عقله القاصر قال له: ان عنصر النار أفضل من عنصر الطين, وقد غفل عن القضية الأساسية في الأمر بالسجود. وهي: مصدر الأمر لا طبيعة المأمور ولا من أمر أن يسجد له
* هذا المقال من أواخر ماكتبه الينا الدكتور محمد عبد الستار- رحمه الله- حيث وافته المنية الأسبوع الماضي لقد كان عالما فاضلا من علماء الأزهر الشريف تميز بالعمق في الفكر الاسلامي والتواضع الجم غفر الله له واسكنه فسيح جناته.
ساحة النقاش