د. يوسف زيدان يكتب:أوهام المصريين (٦/٧) .. مصر المحروسة

٢٠/ ١٠/ ٢٠١٠

حتى وقتٍ قريب، ولزمنٍ طويل سابق، كان الذين يذكرون اسم مصر أو القاهرة، يُلحقون بكل اسم منهما صفة «المحروسة» فيقولون: مصر المحروسة، القاهرة المحروسة.. وكان بعضهم يستغنى أحياناً بالصفة عن الاسم، على اعتبار أنه إذا قال «المحروسة» فقط، فمراده الإشارة إلى مصر أو القاهرة.

وكنتُ فى الصِّغر أعتقد أن هذه الصفة تخصُّ بلدنا وعاصمتنا، لكننى لاحقاً رأيتُ فى نصوص تراثية كثيرة، أنهم كانوا يقولون أيضاً: دمشق المحروسة، حلب المحروسة، حماة المحروسة.. فهو إذن، تقليد مصرى/ شامى قديم لا يختص بالضرورة بمدينة معينة. بل تفنَّن أهل الأدب السابقون فى (تلوين) هذا المعنى بضروب البلاغة وبدائع العبارات التى منها مثلاً قولهم: سور حَماة بربها محروس.. وهى العبارة التى إذا انعكست حروفها وقُرئت من آخرها إلى أولها، أعطت القول نفسه. وبتعبيرٍ تراثى، فإن العبارة واحدةٌ إذا قُرئت طَرْداً، وإذا قُرئت عكساً.

ما علينا الآن من تفانين البلاغيين، ومن اعتيادنا وصف (الحراسة) وتكراره على المسامع حتى صار راسخاً فى الأذهان. فالسؤال الآن: إذا كانت مصر والقاهرة، وغيرهما، مواطن (محروسة) فمن الذى يحرسها؟ أم أن تلك (الحراسة) وَهْمٌ فى الأذهان يشارك فيه المصريون إخوانهم الشوام؟.. وسوف نرى معاً، أو بالأحرى نسعى لذلك، عبر السطور التالية.

■ ■ ■

فى قصيدة غير مشهورة لمحمود درويش، كتبها تعليقاً على اتهام (سرحان بشارة سرحان) بقتل الرئيس الأمريكى كنيدى، وجعلها بعنوان غريب، بالغٍ فى حداثته، وهو: سرحان يشرب القهوة فى الكافيتريا! يستهلُّ الشاعر نصَّه الشعرى بقوله:

يجيئون،

أبوابنا البحرُ، فاجأنا مطرٌ

لا إله سوى الله، فاجأنا مطرٌ

ورَصَاصٌ

هنا الأرضُ سجادةٌ

والحقائب غربةٌ.

وفى قلب القصيدة، يقول محمود درويش بعدما توغَّل فى رسم صورٍ شعرية (سريالية) مستقاة من شخصية «سرحان بشارة» ومن تجربة الشاعر نفسه، ما نصُّه :

وما شرَّدوكَ، وما قتلوكَ

أبوك احتمى بالنصوص، وجاء اللصوص!

ولستَ شريداً، ولستَ شهيداً

وأمُّك باعتْ ضفائرها للسنابل

والأمنيات.

كنتُ قد قرأت القصيدة، أول مرة، أيام كنتُ تلميذاً بالمرحلة الإعدادية، فلم أفهمها تماماً آنذاك، ولكن علقت بذهنى منها أجزاءٌ.. وبعد سنوات، كنتُ أُلقى محاضرة فى جامعة الدول العربية عنوانها (الخروج بالتراث من النصِّ إلى الخطاب) وفى أثناء كلامى، ومن غير تدبير مسبق، استشهدتُ للتدليل على ضرورة التخلص من حالة الانبهار بالتراث سعياً لإعادة بنائه وتطويره، بما قاله محمود درويش: أبوك احتمى بالنصوص ، وجاء اللصوص.

يومها، ثار علىَّ د. محمود الطناحى، وصخب بشدة فى القاعة تعليقاً على قول الشاعر «أبوك احتمى بالنصوص وجاء اللصوص» وقال ما معناه: لا تستشهدْ بهؤلاء الشعراء، فإن المقصود بالنصوص فى كلامهم هو القرآنُ الكريم، ولا يصحُّ الكلامُ بهذا الشكل عن القرآن ووصفه بأنه نصٌّ أو نصوص.

فى ذاك الوقت، كانت أزمة د. نصر حامد أبوزيد قد ابتدأت بسبب كتابه «مفهوم النص» وكان بالشارع المصرى صخبٌ آخر، عنيف، انتهى إلى ما نعرفه من الختام الحزين المهين، الذى لحق بنا، كبلدٍ يزعم أنه متحضِّر، وبالدكتور نصر أبوزيد الذى آل أمره إلى ما آل إليه.. ولأننى أيامها كنتُ أصغر سناً من المشاركين فى المؤتمر، بعشرات الأعوام، فقد ألزمنى الأدبُ بالسكوت وعدم الردِّ على ما قاله د. محمود الطناحى، خصوصاً أننى رأيتُ صديقى د. فيصل الحفيان (منسِّق المؤتمر) وقد امتقع وجهُه خشية انفلات النقاش (الأكاديمى) وتحوُّله إلى جدال سجالى،

لكننى بقيتُ من بعدها أفكِّر طويلاً فى أمور من مثل: ما الضيرُ فى وصف القرآن الكريم بأنه «نصٌّ» لا سيما أن مشايخنا القدماء كانوا يقولون من غير حرج، عبارات من نوع: وقد نصَّ القرآنُ الكريم على.. وفى نصِّ الحديث النبوى أن .. لا اجتهاد فيما نزل فيه نصٌّ (لا اجتهاد مع النص). ولم يؤثر عن واحدٍ من مشايخنا التراثيين، أو أعلام الإسلام، أنه قال إن النصوص تحرس من اللصوص.

وثارت فى باطنى تساؤلات عن السرِّ الذى يدعونا، مثلاً، للاحتفاظ بنسخةٍ من المصحف الشريف فى سيارتنا، وهو التقليد الذى صار عامّا عند سائقى التاكسى المسلمين، بل وجدتُ مؤخراً بعض طائرات مصر للطيران تضع فى مدخلها إطاراً زجاجياً، بداخله مصحف.

هل يحرس المصحف الشريف؟ وإذا كان كذلك، فهل حراسته مخصوصة بالمسلمين، أم هو يحرس الإنسان بعامة؟ وهل تفعل آيات القرآن بذاتها، أم بصدق التلفظ بها؟ .. معروف أن الإمام علىَّ بن أبى طالب، عندما احتالوا عليه برفع المصاحف فوق أسنة الرماح، قال: هذا الكتاب لا ينطق، وإنما ينطق به الرجال.. ومعروف أن طائفة الإسماعيلية (الحشَّاشين) كان من تقاليدهم أن يمزق الواحدُ منهم المصحف فى مرحلة معينة من مراحل دخوله فى هذه الجماعة (أو هكذا قيل عنهم) .. ومعروف أن أعداء المسلمين، قديماً، كثيراً ما مزَّقوا المصاحف غيظاً من قوة المسلمين.

إذن، لم يتأثر القرآن الكريم بهذه الأفعال، ولم يزل المصحف بآياته محفوظاً فى صدور المسلمين، وفى آذانهم. فما هو سرُّ الحراسة؟ الذى أميل إليه، وقد أكون مخطئاً، أن المؤمن بالمصحف الشريف هو الذى يلفظه، لا العكس. وبالتالى، فلا معنى للوهم العام والظنِّ الشائع بأن وجود نسخة المصحف، غير المقروء، فى وسائل الانتقال يحفظ المتنقِّلين.

ولربما قال قائل، الذى «يحرس» هو الله تعالى وليس الكتاب العزيز، وبالتالى فإن الواجب على الإنسان المسلم، أن يبقى فى حراسة الله، وليس فى حراسة المصحف. ولهذا القائل نقول: لكن الله تعالى قال فى قرآنه: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ولم يقل إنه تعالى سيعمل لنا! وقال أيضاً (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ولم يقل إنه تعالى سوف يبدأ بالتغيير والإصلاح والحراسة.

وقد يعترض معترضٌ، بأن الله تعالى قال فى قرآنه: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) وفى الحديث القدسى: «من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب» وبالتالى: فإن الله هو الحارس وكتابه تعالى يحرس أيضاً. ومثل هذا المعترض ، نُحيله إلى بابٍ واسعٍ من كلام الأئمة، فى الفرق بين التوكُّل والتواكل. وتأكيد الفقهاء وعلماء أصول الدين، أن الإنسان لا غنى له عن العمل، أولاً، ثم من بعد ذلك يرجو من الله التوفيق فى عمله.. وإلا صار الإنسان مثل ذلك الرجل الذى ظل أعواماً يدعو الله أن يفوز بورقة يانصيب رابحة، ولم يستجب الله له، ولكنه مع ذلك ظل يدعو ويبتهل، حتى تجلَّى له فى المنام واحدٌ من كبار الأولياء، وصاح فيه: قد يستجيب الله لك، ولكن عليك أولاً أن تشترى ورقة يانصيب.

■ ■ ■

وعلى أية حال، فلنترك جانباً ذلك الجدال (النظرى) حول حقيقة «الحراسة» ومصدرها، لننظر فى التجارب الفعلية التى مرَّت بها هذه الأمة فى تاريخها الطويل، ومن ذلك واقعةٌ هائلة حدثت فى القرن السابع الهجرى:

فى بداية ذاك (القرن) كانت فى وسط آسيا مملكة إسلامية كبيرة تُعرف تاريخياً باسم «الدولة الخوارزمية» نسبةً إلى إقليم خوارَزم الموجود حالياً فى دولة أوزبكستان.

وفى ذاك الأوان (القرن السابع الهجرى: الثالث عشر الميلادى) كانت هذه الدولة قد بلغت من القوة قدراً كبيراً جعل حاكمها «محمد خوارزمشاه» يستسلم لأطماعه التوسُّعية التى دفعته إلى التفكير فى إسقاط الخلافة العباسية فى بغداد، ليكون هو الحاكم الإسلامى (الخليفة) على عموم الأرض الممتدة من حدود الصين إلى شواطئ المحيط الأعظم (الأطلنطى).

أرسل خوارزمشاه جيشاً إلى بغداد، ليحقِّق له أطماعه، ولكن العواصف الثلجية فتكتْ فى جبال فارس الشمالية بالجيش الجرَّار، وتخطَّف الأكراد ما بقى منه. ولم يعد إلى الديار الخوارزمية إلا بضعةٌ من الناجين الذين قصُّوا على خوارزمشاه، الويلات التى قابلتهم وعصفت بهم.

وعلى الجانب الآخر، فى بغداد، كان الناس يتخوَّفون من وصول الجيش الخوارزمى الذى اعتقد الجميع آنذاك أنه لا يُقهر ولا ينهزم، فلما وقعتْ الوقائعُ وخيَّبتْ المساعى الخوارزمية، راح الأدباء والشعراء فى بغداد يتغنُّون بأن الخلافة مباركَة، وبأن بغداد محروسة، وبأن الذى يريد دولة العباسيين بسوءٍ فسوف تعوقه السماء من الإضرار بها.. وسادت هذه الفكرة فى الأذهان، وعَمَّ الوهمُ، فارتاح الناس فى بغداد إلى قصيدة (الحراسة) الموهومة التى دعت الحاكمين والمحكومين إلى إهمال ما يجب عليهم للدفاع عن عاصمة الدنيا آنذاك (بغداد).

غير أن خوارزمشاه، تواصلت حماقاته وأحلامه التوسُّعية، فتوجَّهت أطماعه إلى ناحية الشرق، وناجز الحاكم المغولى العظيم «جنكيز خان» واستفزَّه بشكل لا يمكن السكوت عليه، فاندفع الجيشُ المغولى واجتاح أرض الدولة الخوارزمية، ثم واصل تقدُّمه غرباً حتى وصل بعد عقود (سنة ٦٥٦ هجرية) إلى أسوار بغداد المحروسة، التى ثبت أنها غير محروسة.. وجرت أحداثٌ مهولة، يضيق المقام هنا عن بيان فظاعتها، حتى إن بغداد لم تقم لها قائمة من بعد ذلك بقرون طوال، ولم يعد بعدها الناسُ يصفون بغداد بالمحروسة.

وبالطبع، لم تكن فكرة (وهم) الحراسة، هى السبب الوحيد للكارثة؛ فقد كانت هناك عدة أسباب لسقوط بغداد بيد المغول، منها فساد الحكم، وصراع الشيعة مع السُّنَّة فى بلاط الخليفة، وعدم تقدير خطورة الوضع العسكرى المتدهور فى دول الإسلام. لكن الاعتقاد بأن البلد (محروس) يظل مع ذلك، من أهم هذه الأسباب المسبِّبات للانهيار التام.

■ ■ ■

وفى زماننا المعاصر، وسنة ١٩٦٧ تحديداً، وقف الجيش الإسرائيلى على مسافةٍ قريبة من القاهرة، ولم يفكر فى دخولها لأسبابٍ استراتيجية بحتة، لكن بعض المصريين اعتقدوا آنذاك أن المانع من ذلك هو كونها (محروسة) بالمعنى الغيبـى، وليس الاستراتيجى.. ومن ثم، امتلأت المساجد وظهرتْ العذراء فوق قباب الكنائس، ليستعيد الناس التوازن بعد الهزيمة (النكسة) التى جرت على أرض الواقع، بما هو فوق الواقع وخارج حدود العقل.

وهنا مكمن الخطر فى (وهم الحراسة) الذى يدفع الناس، لا شعورياً، إلى إهمال التدبير اللازم للحماية، اتكالاً منهم على أن البلاد تحرسها قوى فوقية (ميتافيزيقية).. مع أن وقائع التاريخ، وقواعد المنطق، يدلان على أن المكان الذى لا يحرسه أهله، غير محروس.. والنصوص لا تحمى من اللصوص.

ولو كانت بلادنا محروسة، بالمعنى الوهمى لا الفعلى، لما تعاقب عليها كل مَنْ استطاع إليها سبيلاً، فالفرس احتلوا البلاد مرتين، وألحقها الرومان مراتٍ بسلطانهم، وفى زمانها الإسلامى استولى على حكمها ما لا حصر له من أشكال الحاكمين، فمن سُنَّةٍ إلى شيعةٍ، ومن أفاضل الرجال إلى العبيد من أمثال كافور، ومن العقلاء إلى المهووسين.

نخرج من ذلك، إذا أردنا الخروج، بحقيقة بسيطة تصيح فى وجوهنا كطفل وليد، مفادها أنه لا معنى لوهم (البلد المحروس) ما لم يقم أهل هذا البلد بحراسته.

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 51/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
17 تصويتات / 431 مشاهدة
نشرت فى 20 أكتوبر 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,797,317