العلاقات الاقتصادية بين العالم الإسلامي والغرب 1
بقلم :د.خالد عزب
20/05/2010
كان رخاء سوريا وآسيا الصغري عظيما تحت الحكم البيزنطي. علي الرغم من تأثر بعض أجزائها بالزلازل وغزوات الفرس. واستمر رخافهما حتي بداية القرن السابع الميلادي. وأدي إدخال تربية دودة القز في أواخر القرن السادس الميلادي إلي إضافة رخاء آخر إلي رخائهما الزراعي من الحرير الخام. وأثرت مدنهما بالتجارة مع جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط. وتركزت التجارة العالمية بين أقاليم الشرق وبلاد الغرب في أيدي العملاء الشرقيين من السوريين واليونانيين ذلك أن السوريين المقيمين بفرنسا في القرن السادس وأوائل السابع استردوا التوابل والأنبذة وورق البردي إلي مرسيليا وإلي المدن الداخلة مثل باريس وتور. واستقرت جاليات منهم في كل مركز هام من مراكز التجارة. أما نشاط اليونانيين في الأقاليم فكان أقل. وقد كان احتياج أقاليم الشرق للحبوب من صقلية والقمح وزيت الزيتون من شمالي أفريقيا والخشب والملح من البحر الأدرياتي والحديد والمعادن الأخري من إسبانيا والغلال وغير ذلك من المنتجات الطبيعية. لا يقل عن احتياج الغرب للتوابل وورق البردي والأنبذة والحرير والمنسوجات وسائر المنتجات الصناعية الفاخرة المصنوعة من الإسكندرية وسوريا والقسطنطينية. ولم تنجح تماما محاولات البيزنطيين في تحويل طرق التجارة الشمالية بعيدا عن إيران. ولا في الاستغناء بالحرير الخام عن استيراده. ولا في إرغام المستورد في الفرس علي قبول الأسعار التي حددوها لشراء الحرير فاستمر اعتماد بيزنطة علي الفرس كوسيط تجاري فضلا عن مواصلتها ارسال منحًا مالية لآل ساسان. لكن هذا لا يعني أن ذهب الإمبراطورية قد تحول إلي الشرق. بل أوجدت الصناعات الناجحة في سوريا والقسطنطينية نوعا من التعادل في ميزان التجارة مع فارس فقد غدت العملية البيزنطة في منتصف القرن السادس عملة دولية دون منازع في منطقة المحيط الهندي التي كان يسيطر عليها تجار الفرس. ولم يضرب الساسانيون عملة ذهبية قط مكتفين بالعملة الفضية مما يشير إلي سيادة البيزنطيين اقتصاديا.
واستمرت أحوال التجارة في البحر المتوسط علي ما هي عليه في النصف الأول من القرن السابع الميلادي "الثلث الأول من القرن الأول الهجري". ولم تغير الفتوح الإسلامية في أول الأمر هذه الأحوال إلا قليلا. وغدت الدولة الإسلامية باستيلائها علي فارس والعراق وريثة نشاط الفرس التجاري في الشرق الأقصي. كما غدت بفتح الشام ومصر مطلة علي البحر المتوسط وهو حلم الفرس القديم الذي عجزوا عن تحقيقه.
كان موقع الثغور الجزرية "ومعها أرمينية" والشامية "ومعها ثغور البحر المتوسط" هاما كمحطات لتوزيع ما جلبه المسلمون من تجارة الشرق علي بلدان الغرب. وأدرك أهالي البلاد المفتوحة أن العرب الفاتحين ليسوا شعباً متبربرا متغطرسا يضع العقبات في سبيل الحياة الاقتصادية بل رأوا من العرب أناسا يتركون الحياة الاقتصادية تسير في مجراها الطبيعي ويحوطونها بتشجيعهم ورعايتهم.
وآراء الخليفة عبدالملك بن مروان صبغ الدولة بصبغة عربية نتيجة لسياسة رسمها بدقة ومهارة قام بتنفيذها في جميع الميادين الإدارية والاقتصادية. لذلك كان تعريب النقود جزءا من سياسة عبدالملك. إن النقود العربية بما كانت تحمله من نقوش تتضمن اسم الخليفة أو الأمير أو الحاكم فكان سكها يعبر عن سيادة الدولة الإسلامية وتحريرها من أي نفوذ أجنبي ولا مجال للتحرر الاقتصادي ما دامت النقود في الدولة العربية تدور في فلك السياسة الاقتصادية البيزنطية والفارسية. كذا اتجه عبدالملك إلي الاستقلال الاقتصادي عن طريق التعريب. وتعريب النقود جاء وفقا لخطة مرسومة لتوحيد الأنظمة المالية في الدولة من نظم مالية ساسانية ونظم مالية بيزنطية كان سببا في الاختلاف الواضح بين أحكام الجزية والخراج وعشور التجارة في العراق وفارس عنها في الشام ومصر. لذا وجد عبدالملك أن تعريب النقود وتوحيدها هو العلاج للقضاء علي هذا التضارب. وكان القضاء علي الإمبراطورية الفارسية علي يد العرب وتأزم الأوضاع مع الإمبراطورية البيزنطية أدي إلي نقص النقود المتداولة بين الناس فكان لابد من ضرب نقود عربية لسد العجز في النقود. "4"
ومنذ العصر الأموي أخذ النمو الاقتصادي الإسلامي في الازدياد وساعد علي ذلك القيود التي فرضتها الإدارة البيزنطية علي النشاط التجاري لرعاياها. فالدولة البيزنطية حينئذ لم تكن ذات عقلية تجارية. فلم يكن اهتمامها بالنشاط التجاري من أجل تنمية التجارة وتشجيعها بهدف تحقيق الربح. بل من أجل السيطرة والتحكم. وأدي ذلك إلي تدهور الوضع الاقتصادي للقسطنطينية بالتدريج. وتوسع التجارة الإسلامية. ويكفي أن نتتبع انتصارات الدينار الإسلامي كوسيلة للتعامل في تداوله عبر العالم في العصور الوسطي. وقد كشفت بعض الحفريات الحديثة في مناطق كثيرة عن وجود كميات هائلة من العملات الإسلامية في روسيا وفنلندا والبلاد الاسكندنافية والبلقان. بل هناك أمثلة متفرقة وجدت في مناطق بعيدة مثل بريطانيا وايسلندا. وكانت غالبية العملة تحمل تاريخا يقع في الفترة ما بين نهاية القرن السابع إلي القرن الحادي عشر الميلادي. مما يدل علي نفوذ المسلمين الاقتصادي في هذه الفترة.
لقد بلغ الازدهار الاقتصادي للعالم الإسلامي ذروته. حيث نتج عن حركة التجارة الدولية التي قادها المسلمون ثراء واضحًا لم يكن يخطر علي العقل لكل من التاجر والدولة. ففي القرن العاشر الميلادي سجل المؤرخون أرقاما خيالية تمثل الثروة والتقدم في بلاد الخلافة شرقها وغربها. فقد قدر دخل التجارة في مدن حلب ودمشق وبيت المقدس في سوريا في عام 908م بما يقرب من 000.000.2 دينار ذهب. دون أن تتأثر باتجاهات التضخم التي نعرفها في العصر الحديث. ويجب ألا ننسي القوة الشرائية العالمية للنقود في ذلك الوقت. وكلما اتجهنا غربا وصل الثراء إلي درجة خيالية في الأندلس حيث يؤكد الرحالة ابن حوقل 976م أن الخلافة الأموية في قرطبة تحت حكم عبدالرحمن الثالث استطاعت ان تحقق دخلا يساوي 000.000.20 دينار ذهب من تجارة الذهب السوداني الذي كانت القوافل تحمله إلي سجلماس وإلي مراكش في الفترة من 912 إلي .951
كانت العلاقات الاقتصادية مع العرب غاية في الأهمية لبيزنطة. ولم تكن أهميتها لتقتصر علي الناحية التجارية فحسب. بل كانت تعزز مكانتها الدولية كذلك بالنسبة للعرب وأوروبا. إذ كان أكثر تجارة الشرق الإسلامي ينقل قبل فترة الحروب الصليبية إلي داخل أوروبا عن طريق بيزنطة. وكانت هذه تجني دخلا عظيما بفضل قيامها بدور الوسيط بين الشرق والغرب. ولكن الصليبيين أقاموا علاقات تجارية مباشرة بين أوروبا والشرق. حتي أن ازدهار بيزنطة الاقتصادي تلاشي بعد ذلك بقليل. وانتهي دور السيادة الاقتصادية إلي المدن الايطالية وعلي رأسها البندقية وجنوه.
بلاد المناصفات
فرضت الحروب الصليبية نوعا من العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب. ففي أعقاب الغزوة الصليبية لبلاد الشام. نشأت كثير من المشكلات السياسية والاقتصادية الخاصة بالمناطق المتنازع عليها ومناطق الحدود. لذا كان من الضروري قيام تنظيم جديد يكفل حل تلك المشكلات. وهو ما اصطلح علي تسميته ب "نظام بلاد المناصفات" والحقيقة أن هذا النظام بما له من مقومات وخصائص كان سابقا علي ما توصلت إليه بعض الدول في عصرنا الحديث لحل مشاكل مناطق الحدود المتنازع عليها. وبمرور الوقت تطور وضع هذه البلاد. فأصبحت تخضع لإدارة إسلامية إفرنجية مشتركة. هذه الإدارة يرأسها نائبان أحدهما يمثل سلطات المسلمين والآخر يمثل الحاكم أو الأمير الفرنجي الذي وافق علي عقد المعاهدة الخاصة بذلك النظام وكان النص في المعاهدة علي ألا ينفرد أحد منهما بشيء إلا باتفاق من الجهتين.
كانت مواد المعاهدات المتعلقة ببلاد المناصفات تنص علي سلامة وأمن ممثلي كل من العارفين. كما تهتم بتنسيق التعامل بينهم. ولحل ما قد ينشأ من مشكلات تنجم عن التعامل اليومي بين المسلمين والفرنج في بلاد المناصفات هذه. وغيرها من البلاد التي امتد إليها التعامل بين الجانبين. قد تم وضع بعض البنود الخاصة بالمعاملات وحل ما قد ينشأ من مشكلات وخلافات حيث كان المبدأ الأساسي في هذه البنود أن تطبق الشريعة الإسلامية إن كان الشخص مسلما. ويطبق القانون الفرنجي إن كان الشخص فرنجيا.
وفيما يتعلق بالرسوم والضرائب علي اختلاف أنواعها فقد كانت مناصفة بين السلطات والمسئول الفرنجي في بلاد المناصفات. وقد امتدت هذه الرسوم لتمثل شقي الموارد والمرافق الاقتصادية المعروفة آنذاك سواء كانت في الأراضي الزراعية بما فيها البساتين ومصائد الأسماك والملاحات والمحاصيل الصيفية والشتوية والطواحين والثروة الحيوانية من دواب وأبقار وأغنام. وكذلك ما يفرض من رسوم علي ما يمر بالبلاد وموانيها من سلع تجارية.
وجدير بالذكر أن تجار المسلمين فضلا عن التجار المسيحيين الشرقيين قد لعبوا دوراً أساسيا في نقل السلع والبضائع المختلفة بين الطرفين وقد أشارت المصادر المعاصرة إلي قيام علاقات واسعة بين هؤلاء التجار وتجار الفرنج دون الاهتمام بالعوامل الدينية. فالرحالة ابن جبير يقول في هذا الصدد: واختلاف المسلمين من دمشق إلي عكا كذلك. وتجار النصاري أيضا لا يمنع أحدًا منهم ولا يعترض وأضاف أن من أعجب ما يحدث في الدنيا أن قوافل المسلمين تخرج إلي بلاد الفرنج وسبيهم يدخل إلي بلاد المسلمين" كما أكد كل من ابن الأثير. وبركهارد Burchahd. ولادولف Ludolf العلاقات الطيبة التي قامت بين التجار المسلمين والتجار الفرنج في المدن التي خضعت لحكم الفرنج. وأن مدنا كثيرة مثل عكا وبيروت وغيرهما كانت تزخر دائما بالتجار المسلمين من كل مكان.
هذا بالإضافة إلي أن بعض المدن التي خضعت لحكم الفرنج كان لها شهرتها القديمة في إنتاج بعض السلع والتي لم يكن في استطاعة المسلمين الاستغناء عنها. مثال ذلك ما تذكره بعض المصادر من أن مدينة طبرية كانت تشتهر منذ القدم وطول عصر الحروب الصليبية بصناعة الحصير المنسوب إليها. والذي يقبل عليه الكثير من المسلمين في المشرق والمغرب علي السواء وبخاصة حصير الصلاة. والذي بلغ ثمن الواحدة منها في بعض الأحيان خمسة دنانير ذهبية.
وحصل أمراء الشرق الفرنجي علي موارد بالغة الضخامة من المتاجر التي اجتازت البلاد الخاضعة لهم. والتي قام بجلبها التجار المسلمون. إذ اشتد الطلب في أوروبا في العصور الوسطي بوجه عام. وفترة الحروب الصليبية بوجه خاص علي المتاجر الشرقية. سواء القادمة من الشرق الاقصي أو التي تم انتاجها في الشرق العربي.
وكثيرا ما طلب نبلاء الفرنج إلي الصاغة من أبناء بلاد الشام في المناطق التي خضعت لحكم المسلمين. أن يصنعوا لهم ما يحتاجون إليه من حلي هذا فضلا عن آنية كنسية عديدة. كانت ثمينة بما رصعت به من ذهب وفضة. أو دق فيها من حجارة كريمة أو أنزل فيها من اللآلئ العالية. والعاج الثمين. وكانت في الحقيقة زينة الكنائس وبهجتها. ليس هذا فحسب بل انهم حرصوا علي تزويد منازلهم وقصورهم بها. كما استخدموا في إنارة هذه المنازل والقصور بالشموع التي اشتهرت بصناعتها بعض المدن الإسلامية مثل دمشق وغيرها. ويؤكد لنا الرحالة الغربي ابن جبير ان السفن الايطالية التي كانت تنقل المسافرين القادمين لزيارة الارض المقدسة في بلاد الشام. كان يتم تمويلها في رحلة العودة بمنتجات بلاد الشام المختلفة.
انتهي القرن الثالث عشر بتصفية الإمارات الصليبية في فلسطين وشهد القرن الرابع عشر ردة الفعل لهذه النتيجة الحاسمة في المعسكر الغربي. وتمظهر ذلك بما قامت به البابوية في روما من الدعوة إلي تحريم الاتجار مع سلطنة المماليك مهددة بتوقيع قرارات الحرمان من الكنيسة علي كل من يخالف أوامرها من تجار الفرنج كافة. وعمدت البابوية الي تنفيذ سياستها بقوة السلاح عن طريق ارسال السفن المسلحة بهدف التصدي لمراكب التجار الفرنج الذين كانوا لا يتقيدون بأوامر الكنيسة وقرارها. استراتيجيا كانت الكنيسة الكاثوليكية تري أن مجرد امتناع الفرنج عن الاتجار مع سلطنة المماليك سيؤدي حتما إلي حرمانها من المورد الرئيسي لتراثها وقوتها. وبالتالي ضعفها وسهولة القضاء عليها ومتي تم ذلك أصبح بإمكان الغرب استعادة بيت المقدس دون صعوبة باعتبار أن تجارة المرور بين الشرق والغرب في العصر الوسيط كانت المورد الرئيسي لسلطنة المماليك بما تجبيه من رسوم ومكوس وبما كانت تقوم به من وساطة تجارية.
ساحة النقاش