بقلم جمال البنا ١٥/ ٩/ ٢٠١٠
ماليزيا وتركيا دولتان إسلاميتان ولكنهما ليستا عربيتين، فلغاتهما تختلف عن العربية، خاصة بعد أن جعل أتاتورك الحروف التركيـة التى كانت هى حروف العربية، حروفاً لاتينية، فقطع الصلة ما بين فكر الترك الحديث وفكر الترك القديم، الذى كان متأثرًا بالفكر العربى والإسلامى. وماليزيا وتركيا هما الدولتان اللتان نجحتا فى اللحاق بركب العلم المعاصر، حتى إن «تشعلقا» فى «سبنسة» قطار العلم، إن هذا القدر مكن ماليزيا من أن تصنع سيارة كاملة «البروتون» ليس فيها أى مكون أجنبى، وأن تقيم برجين توأمين، واستطاعت أن تصدر أكثر مما تستورد، وفى تركيا ظهر حزب العدالة والتنمية الذى نجح فى مقاومة العلمانية العسكرية التى فرضها مصطفى كمال (وهو عسكرى) وأوصى بأن يحمى الجيش هذه العلمانية المفرطة فى تقليــدها للغرب، بينما ظل الــ ٩٩% من السكان المسلمين عاجزين، ليس لهم من الأمر شىء حتى قام حزب العدالة والتنمية فكبح جماح هذه العلمانية المغتصبة (بكسر الصاد)، وقفز بالإمكانيات الصناعية لتركيا ونهض بالإنتاج وأصبحت تركيا تشترك فى ثمار التقدم الإنتاجى. هل كان الإسلام فى ماليزيا وتركيا هو سبب تقدمهما؟ لم يكن الإسلام فى ماليزيا وتركيا هو الدافع للتقدم، لأن الإسلام موجود وبكثرة حيث توجد الدول المتخلفة ولم تستطع هذه الدول أن تتقدم. ولكن الإسلام لم يكن صادّا للتقدم، ولم يكن قوة تثقل المجتمع وتؤخره. ولو كان الإسلام سببًا فى تقدم دولة، لكان الأجدر بالتقدم مصر «بلد الأزهر» والتى انتهى إليها فقه الفقهاء. وليس فى ماليزيا وتركيا ما يجعلهما تنفردان بوضع استثنائى يمنحهما ميزة فى سباق التقدم. السبب فى تقدمهما أن منظومة المعرفة الإسلامية لم تستحوذ على المجتمع استحواذا يحول دون تقدمه، كما حدث فى الدول العربية، وبهذا سمح لعوامل التقدم أن تظهر. وإنما لم تستحوذ منظومة المعرفة الإسلامية على مجتمعى تركيا وماليزيا، لأن منظومة المعرفة الإسلامية، أى تفسير القرآن وتصنيف الأحاديث وأحكام الفقه المستخلصة من هذين، هذه المنظومة مكتوبة بالعربية وبالتالى فإنها لم تشغل فى مجتمع هذين البلدين المساحة التى شغلتها فى المجتمع العربى، وغطى على بقية المجالات الفكرية بحيث لم يدع لها فرصة الظهور، بل يمكن القول إن هذه المنظومة غير معروفة، وإن المعروف منها هو القليل النادر الذى تـُرجم إلى لغاتها ترجمة الله أعلم بها. ومما لا يخلو من دلالة أن هذين البلدين هما أقل البلاد إيفادًا لشبابهما إلى الأزهر على نقيض إندونيسيا التى يبلغ عدد الشباب الموفدين إلى الأزهر منها الألوف والتى تهيمن عليها فكريًا جمعيتان إسلاميتان يبلغ أعضاء كل واحدة خمسين مليوناً، بمعنى أن الفكر الإسلامى يُطوِّق فى إندونيسيا مجالاً أكثر بكثير مما هو فى ماليزيا وتركيا، ولعل هذا أن يكون قد أدى لتخلف إندونيسيا، ولأن يجد حزب يمثل الجهل والرجعية، وإن حمل اسم حزب التحرير، أتباعًا وأنصارًا بالملايين لا يزيدون إندونيسيا إلا خبالاً. الظاهرة التى قلنا إنها تستحق الدراسة هى الآتية: أن منظومة المعرفة الإسلامية بأقسامها الثلاثة الكبرى (تفسير القرآن، وتصنيف الأحاديث التى يطلقون عليها السُـنة وأحكام الفقه المستخلص من هذين، ومن بقية «أصول الفقه») استحوذت على المجتمع العربى بحيث لم تترك لغيره مجالاً ولم تجد العلوم والفنون مكاناً لها فى مجتمع شغل كل وقته بأقوال «حدثنا»، فضلاً عن أن اتجاه هذه المنظومة كان مضادّا للفكر الحديث، وللعلم والفن.. ولهذا تأخر المجتمع وفى مناقشة برنامج «دين ودنيا» الذى تقدمه حاليًا للتليفزيون «قناة دريم» لمناقشة كتابنا «نحو فقه جديد» دافع الدكتور محمد كمال إمام دفاعًا مستميتاً عن هذه المعرفة، وأخذ يسهب فى كل جلسة كيف أن أسلافنا العظام لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها، وأن علينا أن نجعل نقطة البداية هى دراسة هذا الفكر الذى يمثل لنا التراث.. إلخ.. إلخ. وكان حديثه نفسه دليلاً على ما ذهبنا إليه، فإنه أخذ يتدفق كالسيل عن مآثر السلف، وأن فلاناً كتب وعلاناً أشار بحيث أخذ وقت كل الجلسة، ولم يدع وقتاً لمناقشة الموضوع الرئيسى للحلقة وهو كتاب «نحو فقه جديد». بل إن كلامه نفسه عندما نعمل الفكر فيه فإنه يقضى على نفسه، فعبقرية الأسلاف تعنى أن ليس لدينا ما نقدمه، وأننا إذا دخلنا منه.. فلن نخرج منه، لأنه حصيلة عمل ألف عام ويضم أكثر من مليون مسألة فهو ثمرة فكر عالم الإسلام من سيبيريا الباردة حتى السودان الحار، ومن إسبانيا حتى الصين، ولا جدال أن فيه لمحات ولفتات عبقرية ولكن جسامته أنه يضم ألوف المجلدات.. لا يعنى إلا أننا إذا دخلناه فلن نجد وقتاً ولا جهدًا للخروج. وإذا جاز هذا المنطق، فعلينا كمصريين أن نتعرف على ماضينا الفرعوني، فهذا الماضى هو الذى طبع الشخصية المصرية بأكثر صفاتها أصالة خلال ألفى عام من أعوام ما قبل الميلاد، وقبل أن تأتى أى غزوة من الخارج وقد كونت مصر حدودها القومية منذ أن وضعها الملك مينا من أسوان حتى الإسكندرية، ولكان علينا أن نطوف بالمتحف المصرى وأن نذهب إلى الأقصر جنوبًا حيث الكرنك العظيم، والجيزة شمالاً حيث الأهرامات المعجزة الوحيدة القائمة من معجزات العالم القديم، وأن نقضى سنوات فى المتحف البريطانى وبقية متاحف العالم، وقد يجعلنا هذا لا نخرج من مصر الفرعونية حتى إلى مصر الإسلامية. وقد يذكرنا مؤرخ قبطى بدور الكنيسة الأرثوذكسية فى حماية الشخصية المصرية فى الفترة ما بين خضوع مصر لبيزنطة حتى الفتح الإسلامى. إن الاستغراق فى عالم السلف وما تركوه، مهما كان رائعًا، فإنه لن يغير أنه ماض، ومن المستحيل أن نحكم الماضى فى الحاضر، ومجرد مرور ألف سنة عليه يجعله غير صالح للعصر الحديث، فضلاً عن أن هذا الانبهار بالماضى والعكوف عليه لن يجعلنا ننظر إلى الأمام لنعايش المستقبل ولن يجعلنا نرى الآخر، ولابد أن هناك آخر، ولابد أن فى هذا الآخر عناصر إبداع، وبهذا نحرم من هذا الآخر، ولا تعود الحكمة هى طلبتنا حيثما نكون، كما هو شأن المؤمن، وهذا الآخر الذى لن نجد له وقتاً هو ثقافة العصر الحديث المتدفقة.. الحية، التى لا تقتصر على الكتاب المنسوخ باليد، كما كان شأن الأسلاف، ولكنها تجد المطبعة.. والصحافة.. والإذاعة.. والتليفزيون.. والكمبيوتر.. إلخ.. إلخ. وأخيرًا فإن هذا العكوف على التراث سيشل ملكة الإبداع فى عقولنا، ولن يبقى إلا ملكة الاجترار، وإذا أصيب القوم فى عقولهم فقل عليهم السلام. والحقيقة أن هذا العكوف على الماضى والإيثار للأسلاف إنما هو إشارة إلى سقوط فى الهمة، وفرار من المسئولية، وعجز عن المبادأة، وخوف من المستقبل. لقد آمن شعب ماليزيا وشعب تركيا بالإسلام الإيمان الفطرى الذى هو الإسلام الحق، إسلام الخير والصدق والإخلاص والاستقامة والبعد عن الشر والأذى والخبث والنفاق، وساعد هذا الإيمان الفطرى على دعم التقدم دون أن يقعوا فى أسر منظومة المعرفة الإسلامية وشنشنات الفقهاء وتقريعاتهم التى كتبت باللغة العربية وكان يمكن أن تستحوذ عليهم وتعطل فرص التقدم التى أتيحت لهم بحيث لا يفكرون فى بناء سيارة أو إقامة مصنع، ولكن تحقيق حديث أو تفسير آية. ■ ■ ■ ما هذا التخلف؟ فى أمريكا يحرقون المصحف ويعودون إلى القرون الوسطى. وفى إسرائيل يقبضون على الأطفال بحجة الإرهاب. وفى مصر يذيعون ليل نهار مسلسل التزييف «الجماعة»، ويمنعون حوارات رشيدة لجمال البنا. gamal-albanna.blogspot.com |
ساحة النقاش