بقلم: حامد عمار
وأنا أقلب صفحات( السفير اللبنانية2010/7/17) وإذا بي أعثر علي خبر يتصل بأحد همومنا التربوية والثقافية بعنوان( هكذا تهدد الانجليزية هوية اندونيسيا) وخلاصته ان عشرات جزر هذه الدولة قد استطاعت عن طريق اعتماد( البهاسا) لغة قومية توحيد الأمة
وتشكيل هوية وطنية موحدة لجماعات عرقية ودينية متعددة وثقافات قديمة مختلفة.
وكانت هذه اللغة اداة التدريس في مختلف مراحل التعليم, وظلت هذه السياسة سائدة رسميا وتعليميا حتي عام1998 مع نهاية حكم سرهارتو, حين بدأت تيارات العولمة والانفتاح والسوق الطليقة ووعودها تغمر اجواء المؤسسات المجتمعية, وتسعي وراء ارباح الاستثمار الخاص في التعليم, ومنذ ذلك التاريخ اخذ طوفان اللغة الانجليزية يغمر المدارس الخاصة التي اخذت تركز في التعليم المدرسي علي لغة العولمة, والتي اصبح اتقانها مقرونا بالمكانة الاجتماعية وفرص العمل السمينة. وهكذا اصبحت المدارس الخاصة في اندونيسيا قبلة لكل اسرة غنية وميسورة تتزاحم عليها لتعليم ابنائها تفاديا لنظرة دونية إزاء من لايتحدثون بتلك اللغة الراقية.
والآن تعالت الاصوات من أمهات يجدن ابناءهن يلعبون ويتشاجرون بالانجليزية, وعائلات لايمكن للاجداد فيها التحدث مع احفادهم بلغة البهاسا. لذلك قام فريق من المثقفين والمعلمين والسياسيين بمواجهة ما قد يترتب من مخاطر مجتمعية علي استفحال تأثير اللغة الاجنبية علي النسيج الوطني. وبادرت الحكومة باتخاذ قرارات تطالب المدارس الخاصة بالتدريس باللغة الرسمية لجميع طلابها من الاندونيسيين, بغية استرداد اللغة القومية لموقعها ودورها في تكوين الهوية والوطنية الاندونيسية.
ولعل كثيرا من القراء يشاركونني في ان ما يجري من هيمنة اللغات الاجنبية في تعليمنا وثقافتنا يولد لدينا ما لدي الاندونيسيين من مشاعر الفزع والخطر بفعل هذه الموجة العارمة من تلك اللغات الاجنبية علي مؤسسات التعليم المصري من رياض الاطفال حتي الجامعة. وقد اهتديت في معالجة هذا الهم القومي بكتابات سابقة وبخاصة ما حرره تلميذي النابه واديبنا المبدع فاروق شوشة في صحيفة الاهرام بتاريخ2010/4/25 بعنوان( حق التعليم بالعربية).
وقد التفتت منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة( يونسكو). الي تأكيد أهمية( التنوع الثقافي الخلاق) وتوضيح دور اللغات الوطنية في تلاقح الثقافات والعيش المشترك, كما ورد في تقريرها الهام برئاسة( خافيير دي كويلار) الأمين العام للأمم المتحدة الاسبق. ولم تتردد المنظمة في الاهتمام بمواجهة هذا الخطر علي ما يصيب كثيرا من ثقافات العالم النامي وخصائصها المعرفية والحضارية, فأصدرت منذ بضع سنوات توصية تحث فيها الدول علي الاحتفال باليوم العالمي للغة الوطنية في22 فبراير من كل عام.
والواقع ان الاهتمام باللغة الأم إنما يعزي الي اعتبارها مكونا اساسيا من مكونات الخصوصية في هوية الشعوب وفي دعائم مفهوم الوطنية وتداعياتها.
فاللغة ليست مجرد اصوات او حروف ينطق بها اللسان, وإنما هي خامة التفكير ولحمته وسداته. وهي منبع التعبير عن الخبرات والمشاعر وموجات التاريخ التي تفصح عن طرائق حياة الافراد والجماعات. إنها من مكونات التفكير ومادته, وفي امتداداته واعماقه, وليست مجرد وعاء أو صندوق يصب فيه التفكير نتاج عملياته.
ومن ثم فان اللغة العربية تعبير عن فكر يرتبط في خصوصياته بمعاني الهوية والوطنية والقومية والذات الثقافية والتراث الحضاري مما تختزنه من علوم العرب وتاريخهم وتجاربهم في غدوهم ورواحهم عبر الزمان والمكان. هذا فضلا عن كونها لغة التواصل في الحاضر والماضي بكل تجلياته.
وتشير حركة التاريخ الي حرص القوي الاستعمارية الرأسمالية منذ القرن التاسع عشر علي فرض لغتها علي الدول التي تحتلها, مما يعني اهمية التحول الي لغة المستعمر كاحدي وسائل احكام السيطرة علي مصائر تلك الشعوب وامثلة ذلك متواترة, منها حالة الشعوب العربية التي خضعت للاحتلال الاجنبي في قارات إفريقيا وامريكا اللاتينية واسيا. وكان من اهداف حركات التحرير والاستقلال استرداد لغتها القومية في المعاملات الرسمية والقانونية والتعليمية والثقافية. لقد كان من بين اوائل معارك النضال من اجل الاستقلال في مصر.
استرجاع التعليم الحكومي للغة العربية في التدريس بالمدارس الحكومية علي يد سعد زغلول حين تولي منصب وزارة المعارف عام1908. ومن ثم ترسخ اعتمادها لغة الدولة الرسمية في معاملاتها وقوانينها ودساتيرها منذ دستور1923 حتي دستور1971 وتعديلاته الأخيرة.
وها نحن اليوم نلحظ قوي العولمة في محاولتها تسييد اللغات الأجنبية متجاوزة الاعتبارات الرسمية والتهوين من شأن اللغة العربية, مع اختلاف مع الاستعمار القديم في فرض أسلوب التأثير بطرق ناعمة وإغراءات متنوعة في ذلك التسييد.
ويعنينا في هذا المقال التركيز علي هجوم التعليم باللغة الأجنبية من خلال منظومة التعليم الخاص جدا في مراحل التعليم وعلي الآثار الخطيرة علي لغتنا العربية وما يرتبط بها من كونها العروة الوثقي لوشائج الهوية والوطنية والقومية ونؤكد هنا أن الموقع الوجودي لمصر لا يمكن اختزاله في كونها مجرد دولة من دول الشرق الأوسط أو في التحالف المتوسطي, وإنما هي إحدي الدول العربية في إطار الوطن العربي. بكل ما تحتضنه ثقافته العربية من مقومات حضارية وعمران بشري ومن تطلعات وأمال حاضرا ومستقبلا.
والحاصل أن ثمة أصوات ودعوات قد أخذت تنادي للتحذير ودق الأجراس إنذارا من انتشار التعليم الخاص جدا والتزايد المستمر في مؤسساته وأعداد الملحقين به. والبيانات المتاحة لنمو التعليم الخاص بمدارس اللغات في التعلم قبل الجامعي تشير إلي أن مجموع طلابه في منتصف السبعينات بلغ حوالي4% بالنسبة لمجموع طلاب التعليم الحكومي, ومع عام2009 زادت النسبة إلي حوالي9%. وفي مرحلة التعليم الجامعي لم يكن في مصر إلا جامعة واحدة أجنبية حتي عام96( الجامعة الأمريكية) حين أنشئت في هذا العام أربع جامعات خاصة, وبلغ عددها اليوم13 جامعة خاصة وأجنبية أي تضاعف عددها أكثر من ثلاث مرات, ولا يزال الباب مفتوحا لمزيد من المؤسسات الخاصة جدا. ومن ناحية أخري بلغ عدد طلابها عام1996 حوالي(1911) واستمر هذا العدد في النمو حتي وصل عام2005 إلي حوالي(40800) أي بزيادة20 ضعفا.
وظلت الزيادة مطردة في عدد الجامعات الخاصة وأعداد طلابها خلال الفترة الممتدة حتي اليوم.
ونحن هنا نفرق بين تعليم باللغة الأجنبية وتعليم اللغة الأجنبية. ويدعو في هذا الصدد إلي وضع سقف لانتشار النوع الأول لا تتعداه. وإلي التوسع في النوع الثاني قدر ما نستطيع بأن يستمر تعليم لغة أجنبية لطلابنا خلال سنوات المرحلة الجامعية. بل وفي الدراسات العليا.
المزيد من مقالات حامد عمار<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش