الأبنودي:حلمي أن أكون جابر أبو حسين!
حوار: اسامةالرحيمى
منذ بداياته إنحاز الأبنودي لدود الأرض كما يسميهم فلاحو أبنود البسطاء الذين غالبوا العمل بالغناء ليهونوا ساعات الشقاء علي أنفسهم فعلموه الشعر بلا عمد فحفظ لهم الجميل وللآن ينسبه إليهم.
وليس أمتع من قصائد الأبنودي إلا سماعه يتلوها!
فلهجته المحببة, وطريقته بالإلقاء تضفي عليها ألقا مضاعفا, وإذا حضرته سيرة حراجي القط ينسي متاعبه الصحية, ويجلو و ذاكرته بسنوات طفولته الأولي, وتجليات أمه فاطنة جنديل وجدته ست البرين اللتان شكلتا وجدانه, وغرستا بذرة إبداعه الزاهرة.
وحين وفد القاهرة كان يتحلي بتجربة ومفردات مغايرة, حفظت عليه صوته الخاص, وسط فتوحات المجددين من آباء شعر العامية, بيرم التونسي, وفؤاد حداد, وصلاح جاهين, فغرد موازيا, وارتقي مكانة تليق بتفرده بينهم.
وغير مع محمد رشدي طعم الغناء في مصر, الذي أكسبته القرارات الاشتراكية زخما, فنشر الحس الشعبي, وردد نفس البسطاء في الأغاني, وساهم في رفع المستوي بتسريب الشعر إلي الغناء.
وبعد النكسة اتجه بعفوية لتوثيق السيرة الهلالية, التي تزدهر عادة تحت الاحتلال, لاستنهاض البطولة الشعبية في أزمنة الإنكسار, والاستقواء بها علي الاحباط.
وجاب مصر بمئات الأمسيات الشعرية, ليساعد في لملمة الجراح, وترميم العزائم, وتثبيت الثقة بوطن قادر علي الثأر لكرامته, ورسم وجوه علي الشط وأطلق موال النهار فبدت وميضا باهرا في عز العتمة, فأحبها الناس, وتعلق بها الزعيم جمال عبد الناصر وبات يسأل عنها كلما تأخرت إذاعتها!
عقود مضت, جرت عبرها مياه كثيرة في الأنهار, واستبدت الفوضي بالأحلام, وما زال يغني, لكنه يغني وحيدا بعد رحيل السرب.
محاورة الأبنودي متعة تورث الأسي بسبب ما جري, وفرحة تملأ القلب بالحسرة علي ما انقضي, وتجعل المحظوظ بمقابلته يضج بالضحك, لكنه ضحك كالبكا!!
لماذا كان الأديب الكبير الراحل الطيب صالح يقول لك كلما التقاك إنك ستدخل النار بســبب أبنود ؟
ـ( يضحك).. رحمه الله الطيب صالح كان صديقا حميما, وهناك تشابه شديد بين بيئتينا في الصعيد والسودان, وربما نحن أقرب إليهم من القاهرة, وكان دائما يقول حاذر يا مولاي نحن نغترف من نفس البئر فعندي رواية شعرية إسمها أحمد سماعين وعنده هو أيضا شخصية أحمد سماعين في موسم الهجرة إلي الشمال وفيما بعد تكررت في مريود وبندرشاه وعرس الزين والتفاصيل متشابهة وكأنهما مولودان في الشارع نفسه, وكان دائما يقول: إن أبنود ستشكوك إلي الله, وستجدها يوم القيامة واقفة بشعر محلول وكان يرسم لها صورة غريبة, وتشير إليك وتقول هذا الذي فضحني, لأن من يقول لك صباح الخير تقول أبنود, ومن يسألك عن الصحة تقول أبنود, فجعلتها طعاما وشرابا, وباتت أشهر قرية في مصر والسودان, ومصمصمت عظمها. والطيب صالح كان شخصية جذابة, ومن حفظة الشعر العربي القديم, وأفادني كثيرا, وكان يردد أشعار المتنبي ولبيد والنابغة الذبياني وامرؤ القيس بنفس السلاسة التي ينشد بها أشعار الحردلو الشاعر الشعبي السوداني الكبير, وشعراء القبائل, وأفادني في الشعر السوداني, وفي إحدي الأمسيات في الجامعة السودانية قدمني أستاذ جامعي بقوله: أقدم لكم الشاعر السوداني الكبير الذي ضل طريقه إلي القاهرة وأنا مدين أيضا لعلاقتي بالسودان بفضل الطيب صالح, وهزني فقده جدا مثلما حدث حين فارقنا الشاعر الكبير محمود درويش.. رحمهما الله.
لكن الشعراء الحفاة الذين يرتدون الجلابيب, وأصحاب المعاني الرائعة التي لم تكتب في الشعر ولم تغن عبر الأثير, أظهروا أن تعلقك بأبنود ليس مجانيا, فغناءهم علمك الشعر؟
بل هم أحيانا لم يملكوا الجلابيب, كانوا حفاة عراة, وحين يسألني أحد عن شعري أقول تعرفه النخبة والحفاة العراة, فكل الناس في قريتي يغنون, الرجل الذي يعمل علي الشادوف, والطفل الذي يدور مع الساقية طوال الليل, يغنون ليس لاستعراض حلاوة صوتهم, بل لأن الغناء يقاسمهم عبء العمل القاسي, فمع كل مرة يجذب فيها الرجل كتلة الطين الضخمة في نهاية الشادوف إنما يصرخ بالغناء, والطفل علي الساقية يخلق الونس بالغناء, ويتحول الغناء لشخص آخر يؤنسه في الليل البهيم أبو العفاريت والشياطين, خاصة قبل دخول الكهرباء, الوحيدون الذين لا يغنون في قريتنا هم البقالون, أصحاب الدكاكين, لأنهم هم الذين يجنون ناتج هذا الغناء, وحتي الآن تري المنتج الفني قاعدا في دكانه ونحن نغني ونتعب وفي الآخر يقبض هو ثمرة جهودنا بدون وجه حق, وهؤلاء الناس قالوا من المعاني ما لم أجده في كتب, ولا أنا ولا غيري نستطيع أن نعبر عن الحياة بكل تشابكاتها ومفارقاتها بهذه البساطة والعمق, والالتصاق بالحياة إلي هذا الحد, نحن في النهاية نرتدي القميص والبنطلون وندعي أننا نعبر عنهم, لكن الحقيقة أن الفقراء يعبرون عن أنفسهم, ونحن نشوش عليهم بالتليفزيون والراديو, ونحاول خلق مسافة بينهم وبين ابداعهم الحقيقي, لكني تلميذ هؤلاء الناس, تعلمت منهم, ومن أجل هذا فقط يسمعني الناس في القمم وفي السفوح, فأنا مدين لهذه العجينة, وحين أكتب عيني تكون علي الفقراء.
لو أن حراجي القط كان يزال علي قيد الحياة وكتب إلي زوجته.. فماذا سيقول لها عن أحوالنا الآن؟
ـ جميل سؤالك لكن قبل الإجابة عليه أريد أن أذكر معلومة خاصة بهذا الديوان, فهو العمل الوحيد في حياتي الذي كتبته مرتين, فحين قبض علي في1966 وكان والدي يزورني لأول مرة ويرضي عني منذ تركت وظيفتي بمحكمة قنا, أخذوا مخطوطة الديوان ضمن أوراق أخري كثيرة, وضاعت كلها, ولاحقا وأنا في السويس أثناء معايشتي حرب الاستنزاف هبط علي حراجي القط فجلست علي طبلية تحت شجرة تفاح( بتاعة عمي إبراهيم أبو العيون), واندفعت أكتب الديوان فأنهيته في ليلتين بثلاثة أيام..
ـ الحالة كانت حاضرة!
ـ حراجي صاحبي من الطفولة, وفاطمة أحمد عبد الغفار زوجته استلهمتها من أختي فاطمة في تعاملها مع زوجها, وتعبيرها عن عواطفها وهي تقول له:
في الليل يا حراجي
تهف علي ما عرف كيف
هففان الجهوة علي صاحب الكيف
وساعات لما أمد إدية في الضلمة
ألجاك جنبي
طب والنبي صح
ومش بكدب يا حراجي
هذه أشياء لا تقولها إلا فاطمة أختي أو فاطمة قنديل أمي رحمة الله عليها, عندهما قدرة علي تجسيد العاطفة بما يثير اندهاشك, وأنا حاولت فقط أن أكونهما, وفاطمة أختي كانت سبب تفاصيل الجوابات, وحراجي هو أي رجل عندنا وهو يقول لزوجته فاطمة:
عارفة يا مرتي الراجل في الغربة يشبه إيه
عود درة وحداني في غيط كمون
وأي أحد في أبنود يقول لك كلاما من هذا النوع, طوال اليوم, الناس هناك لا يعرفون الكلام المباشر, كل صيغهم شعرية.
لو أن حراجي يعيش زمننا هذا وكتب لزوجته فماذا سيقول لها ؟
ـ كان الدكتور مصطفي الفقي كلما صادفني يقول يا عبد الرحمن خلي عيد إبن حراجي القط يروح توشكي وحين فكرت في الأمر وجدت أن السد العالي كان قضية مفهومة لحراجي ولدود الأرض, وخاض الجميع معركته, ومات الشباب لأجله علي رمال سيناء, ولم يفعلوا ذلك لأنهم سيرثون في السد العالي, أو أن هذا سيأخذ250 ألف فدان, وذاك يأخد كذا, لا بل لأن السد كان من أجل الري الدائم للزراعة, ودخول الكهرباء للقري, وفعلا الكهرباء دخلت أبنود, ونحن زمان كنا نزرع ثلاثة أشهر فقط في السنة علي بواقي الفيضان, بعدما تشبع الأرض بالماء والغرين, لذلك لا يدرك قيمة السد العالي إلا الفلاحين, لكن موضوع توشكي ليس لنا, وأقرب للوهم, والجزء المستصلح فيه يملكه ثري عربي, لذلك لا يستطيع عيد ابن حراجي القط الذهاب إلي توشكي, فهي بالنسبة له مثل بلغاريا, لبعدها عن وعيه الفكري والإنساني, ولأنها ليست بنقاء السد العالي الذي استوعب العمالة المصرية, وعمت فوائده مصر كلها, فذاك كان زمن بناء, والآن زمن هدوء, وأول مرة أكتشف أن للهدوء مضارا غير محدودة, لما تشوف الشباب الآن تعرف أن الضياع والمخدرات والذقون سببها هذا الهدوء المريب.
بعد النكسة ذهبت لجمع السيرة الهلالية وانشغلت بها أكثر من ربع قرن, فهل كان احتماء لا إراديا بالبطولات الشعبية؟
أشكرك علي السؤال.. السيرة الهلالية لا تروج وتزدهر إلا في أزمنة الغزو الأجنبي, وتحت الاحتلال تنتفض المقاهي بعفوية, ويكون لكل مقهي شاعره, وكان في الجمالية مثلا أكثر من ثلاثين مقهي تنشد الملاحم الشعبية, وأنا بعد النكسة تحركت صوبها بنداء خفي ولم أكن أدرك أهميتها بشكل كاف, وربنا أكرمني بآخر الشعراء العظام عمك جابر أبو حسين الهرم الكبير, وكان يحفظ خمسة ملايين بيت شعر, وتلميذه سيد الضوي الذي أعمل معه الآن, والحقيقة أن عبد اللطيف المناوي المستنير رئيس قطاع الأخبار أدرك أهمية هذه الملحمة الشعبية, وجعلني أسجل مع سيد الضوي, وأنهينا السيرة بقدر ما نستطيع وباختصار كبير, لتكون وثيقة في التلفزيون, ونحفظ تراثنا الذي لم يكنس مزعا بل تاريخا, ولعبت المخيلة العربية دورا هائلا في نسج هذه السيرة الكبري.
ـ الشعرية في أغانيك تستلفت أنظار الجميع, لأنها قصائد أكثر منها أغان, وحضورها قوي في الأذهان ؟
ـ التسلل بالشعر إلي الغناء, وليس لي فضل في هذا, بل هم الحفاة العراة الذين حدثتك عنهم, كانت لهم معان رائعة في أغانيهم, شعر لا تستطيع أن تصل إليه, لأنهم كانوا يدركون حقيقة الأشياء ويدخلونها في أشعارهم, شوف مثلا لما يقول للبنت: يا زارعة الرمان علي السواجي..رمانك المر ما ينداجي لأنه لو مد يده ستقطع, وتمعن هذه الدائرة الرائعة بين الرمان وصدر الفتاة والمحرمات في الصعيد, وتأثرا بهذا قلت في أغنياتي دي برتقانة ولا قلبي والليل بينعس عالبيوت وعلي الغيطان بنفس الروح, ويامة يا هوايا يامة,.. الهوي بعتر ضفايري.. عدي وفك العقدة وهدي وودي.. وهذه تعبر عن الحاجات الإنسانية الطبيعية بأسلوب موح ورقيق, وهؤلاء الناس كانوا يغنون بلا رقابة ويأخذون راحتهم لكن التقاليد والقوانين العرفية جعلتهم يستخدمون الرمز بمستوي جمالي رفيع.
هل تذكر الظروف التي أطلقت فيها موال النهار وكيف عن لك أن تغني للنهار في عز الظلام ؟
ـ بعد النكسة كنا كل يوم نروح بيت عبد الحليم حافظ, ويوم تنحي عبد الناصر كنا هناك وقررنا كلنا ننزل نمنع عبد الناصر عن قراره وركبنا سيارة عبد الحليم, مجدي العمروسي وأحمد رجب وعبد الحليم ومفيد فوزي وأنا, وبعد لحظات غرقت السيارة وسط الجماهيرالتي جاءت من كل فج عميق, وكنا فاكرين إننا الوحيدين اللي عايزين يمنعوا عبد الناصر عن التنحي, مع إن الناس كانت ميتة ومتضايقة لكن أول ما قال أمشي طلعوا, الناس بحاستهم يعرفوا الحاكم الوطني.
ـ في الجو ده ولدت موال النهار ؟
ـ كنت عند عبد الحليم وفجأة قال لي يا عبد الرحمن هنفضل ساكتين كدة, فقلت له البلد دي دخلت حرب وانهزمت, ولو قلنا غير كدة الناس هيضربونا بالجزم, كويس قوي إنهم قالوا إننا من أسباب النكسة وسكتوا عننا, فلازم نقول إن إحنا اتهزمنا وهنحاول نقوم, فقال طيب ما تقول ده, فأعطيته قصيدة موال النهارس وكانت في جيبي, فقرأها ولم ينطق وإتصل ببليغ حمدي وقال له: إلحقني وجاء بليغ وأسمعته القصيدة, فبكي, وأنا لم أر أحدا بكي بعد النكسة مثل بليغ حمدي. ولحنها, ثم كتبت أغنية المسيح وغني عبد الحليم الأغنيتين في مسرح ألبرت هول وكسرا الدنيا.
ـ قلت إن عبد الناصر كان يحب عدي النهار بالذات ؟
ـ كانت لما تغيب شوية يسأل الأغنية فين؟ كما قال لي رئيس الإذاعة, لأنها كانت عن النهار في عز الضلمة, وعبد الحليم حافظ حلم ثلاث مرات بأنه يغنيها في ميدان التحرير محمولا علي الأعناق وهو يرتدي جلبابا أبيض, وهذا لم يحدث له أبدا مع أية أغنية.
غنيت مع رشدي تحت الشجر يا وهيبة وعرباوي وحسن يا مغنواتي و ياقمر ياسكندراني وأنت مين يللي أنا مش عارفك ومجاريح وغيرها, وقلت أنكما غيرتما طعم الغنا في مصر وفتحتما أفقا جديدا للأغنية الشعبية, فأين إختفت هذه الروح؟
ـ صح إحنا غيرنا طعم الغنا, كنت أكتب الأغاني لرشدي زي ما أكون أنا اللي هغنيها, وفي حياته لم يعترض علي كلمة, ويقول كل ما يكتبه الأبنودي يتغني, وكنا أصدقاء, وأعرف عنه مالا تعرف زوجته, ويعرف عني مالا تعرف زوجتي, وكان طيبا, قلبه زي قالب الجبنة الفلاحي, وظل محتفظا بالجلباب تحت البدلة.
ـ ما أسباب نجاح ذلك الغناء زمان, ولماذا اختفي من الأفق الآن علي أهميته؟
ـ ياريت من الأفق بس دا اختفي من الواقع كله.. الزمن السياسي كان سبب نجاحه, بعد1962 صدرت القرارات الاشتراكية, وإعلاء شأن العمال والفلاحين والفقراء, وهذا الجو كان يناسب محمد رشدي, من أدهم الشرقاوي إلي قولوا لمأذون البلد وعدوية ويا ليلة ما جاني الغالي ومجاريح وآخر غنوة عملناها كانت مع حلمي بكر هي اختار لك صاحب للزمان.
يقول البعض أنك أزلت الفاصل بين الشعر والجمهور, وأعدت الشعر إلي سيرته الشعبية الأولي, فهل كان هذا سبب تعلق الناس بك, أم أن الأسباب أوسع من ذلك ؟
ـ لما كنت أشوف عمك جابر أبو حسين في حي الصهاريج في قنا, موقع قبائل الأشراف, وأري تلك الحشود الهائلة أمامه, يبدو لي أن عدد الناس لا نهائي, جاءوا من القري والمدن والنجوع, وهو كان رفيعا مثل هذه العصا, ومسن, وحاد المزاج, وشبه كفيف, وأذكر مرة كان يرثي عامر الخفاجي حاكم العراق الذي أغرم ببني هلال وراح معهم, وهناك نازل الزناتي خليفة فقتل, وإذ بالناس اللي قدامه يصيحون إرفع يا رب, زيح يا كريم رجال مسنون ومن أفاضل القوم, لكن جابر أبو حسين إذا مال مالوا وإذا ضحك ضحكوا وإذا بكي بكوا, وهذه صورة الشاعر عندي, لو واحد مشي من قدامي وأنا بقول شعر ممكن أموت فيها, أنا حلمي أكون مثل جابر أبوحسين لأكون أنا والناس حتة واحدة, دا إذا الناس انصرفوا عني في شطر أو في بيت لازم أقف أمامه, لأن الجمهور مرايتي, أنا لا أعرف القصيدة كويسة ولا وحشة إلا بعد أن يسمعها الجمهور, فإن باركها تصبح قصيدة عظيمة, وإذا لم يباركها نخليها للمثقفين, ودائما أحاول أن أجعل القصيدة بسيطة, وربما يحبني الناس لهذا, أو بسبب ما أقوله في حواراتي, أو تقديرا لجمعي السيرة الهلالية, أو للهجتي, والأغاني أيضا, والأهم أنني بادرت الناس بالحب وبصورة حقيقية فأحبوني.
ما الفارق بتقديرك بين بلد حزين عـالترعة بتغسل شعرها لكن العزة تجللها, وبلد متشح بالسواد مطأطئ الرأس, ينهار فيه كل شئ, ويعاني المهانة ؟
ـ الحقيقة إنها مش لابسة سواد ولا مطأطأة الرأس, دي عنيها فاجرة جد إكده رسم دائرة بأربعة أصابع ولابسة ألوان وترتر وحاطة بوية, فالشباب العاطل عاجز عن الحلم بالمستقبل, فلا بيت ولا زوجة ولا وظيفة فكيف يحلم بعدل حال البلد, والأحزاب لا تعرف شيئا عن مصر التحتية ولا هي تعرف عنهم شيئا, ومصر التحتية هي مصر, فإذا كنت لا تعرفها فلازم تدرك إنك بتلوبص.
لماذا أقبل الناس لهذا الحد الكبير علي قصيدتك الأخيرة عن عبد الناصر ؟
ـ لأن فيها مقارنة, بين زمنين, والقصيدة لها صدقها, والمقارنة المؤذية جدا بين زمن كنت بتحارب اسرائيل فيه, وزمن بتمدهم بالغاز, زمن مات فيه عبد الناصر لم يجدوا في جيبه جنيها وزمن السرقة فيه بالمليارات, والشعب مش لاقي ياكل, وأيضا فيها احتفالية من قلب الحزن, ولأني لم أمدح أحدا طوال عمري.
ما أوجه الاختلاف بين غناء الفلاحين في الغيطان لشد الهمة, وغناء البسطاء في أفراح أبنود زمان, وكذا غناء الستينات, والكليبات المنتشرة الآن؟.
ـ دا كله يثبت إن إحنا كنا غلطانين, كنا عميان ومتصورين الدنيا رايحة حتة كويسة فراحت حتة تانية, شوف شوية الأغاني القليلة اللي عملهم الرائع فؤاد حداد الأرض بتتكلم عربي وبرنامجه المدهش من نور الخيال وم ن وحي الأجيال وهو من أحسن ما لحن سيد مكاوي, وشوف عمك صلاح جاهين وهو مخترع الأغنية الوطنية, التي كانت قبله أناشيد, لكنه جاء ليقول يا حمام البر هفهف.. طير ورفرف.. علي كتف الحر وقف.. والقط الغلة ويا سايق الغليون عدي القنال عدي.. وقبل ما تعدي خد مننا وادي.. دا اللي حفر بحر القنال جدي وأيضا الجنة هي بلادنا.. وجهنم هي حدودنا.. اللي يخطيها راح يغرق فيها.. ويشوف الموت علي إيدنا ولا والله زمان يا سلاحي ولا حنحارب فهل يقارن هذا بالكليبات, إنظر كم الشتائم في أغاني اليومين دول, دي مش أغاني دي تصفية حسابات شخصية عيال مراهقين ما صدقوا يلاقوا لعبة يشتموا بها بعض, روحي إرجعي للمزبلة اللي انت منها طب لما انت جايبها من المزبلة تبقي انت إيه, وقوم أقف وانت مش عارف بتعمل إيه, أنا ناوية لك علي إيه, هطلع روح أبوك, أقلع عين أمك, إيه ده؟ دا إحنا كنا في الستينيات عارفين إن الأغنية دي ذاهبة إلي شعب فنحسس علي الكلمات, شوف مثلا لما نعاتب في أغنية آه ياسمراني اللون بتقول لحبيبها: ليه وانت تحس الشوق أكتر مني قلبك عطشان لما تبقي حبيبتك جميلة تبقي إنت كبير, ولا مثلا أنا عايزة حبك انت.. أنا هعمل إيه بالمال ولا كلمني عن بيتنا الطيب واللقمة الحلال هذه قيم كنا نقدمها للناس, وندرك أهمية تأثيرها فيهم, مش كليبات؟!!.
ساحة النقاش