الإسلام ورعاية المسنين
بقلم : د. إبراهيم إسماعيل
قبل الشروع في كتابة هذا المقال قررت زيارة احدي دور المسنين, لقد خرجت منها مكلوما لما سمعت ورأيت من قصص وحكايات تجعل الولدان شيبا, فقد تصادف أثناء وجودي هناك.
أن جاء شاب تبدو عليه آثار النعمة ومظاهر الثراء ومعه أبوه ليسلمه الي الدار, توسل الأب لابنه أن يتركه ويذهب عنه, ولما أدرك الأب أنه قد قضي الأمر أخذ يتوسل اليه بطلب آخر وهو ألا ينسي زيارته بين الحين والآخر!
رعاية المسن في ديننا العظيم مسئولية الدولة والمجتمع والأهل والأقارب, ولا يجوز لأي من هؤلاء التنصل من مسئولياته, فليس لأحدهم الخيرة.. فالله سبحانه وتعالي كرم المسن قبل أن يأمرنا برعايته وتكريمه, فها هو رسولنا صلوات الله عليه أخبرنا عددا من الأخبار حول المنزلة الرفيعة للمسن عن الله تعالي منها:
قوله صلي الله عليه وسلم:( ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلايا الجنون والجذام والبرص, فإذا بلغ خمسين سنة لين الله عليه الحساب, فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة اليه بما يحب فإذا بلغ سبعين سنة أحبه الله وأحبه أهل السماء فإذا بلغ الثمانين قبل الله حسناته وتجاوز عن سيئاته, فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفيعه لأهل بيته) رواه أحمد.
وقوله صلي الله عليه وسلم:( خياركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا)
وقوله صلي الله عليه وسلم:( ما شاب رجل في الإسلام شيبة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة وكتب له بها حسنة), رواه أحمد في مسنده.
وقوله صلي الله عليه وسلم:( ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله) رواه أحمد.
فإذا كانت هذه هي منزلة المسنين عند الله تعالي فعلي الدولة أن تستمد منهجها في التعامل مع هذه الفئة مما شرعه الله تعالي, وأدني مسئولية تتحملها الدولة تجاههم تتحدد في أن توفر لكل منهم الأمن والحماية والرعاية الصحية ودخلا ماديا يضمن له حياة كريمة, بصرف النظر عن دينه ولونه وعرقه, ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم المثل الأعلي. فقد كان صلي الله عليه وسلم يوصي أصحابه وقادة الجيوش قائلا: انطلقوا باسم الله, وبالله, وعلي ملة رسول الله, لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة, ولا تغلوا وأصلحوا واحسنوا, فإن الله يحب المحسنين,وكانت هذه ايضا وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقادة جيوشه.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد مر برجل طاعن في السن يتسول, فسأله: ما حملك علي هذا يا رجل؟! فأجاب الرجل قائلا: يهودي أبحث عن مال لأدفع الجزية فقال عمر أخذناها منك وأنت شاب ونرغمك علي التسول وأنت شيخ.. لا والله.. والله لنعطينك من بيت مال المسلمين. وهكذا جعل عمر من مهام الدولة الرعاية للمسنين, والتخفيف عنهم, ولذلك فإن علي مشرعي القوانين والدساتير في المجتمعات والدول أن يحذوا هذا الحذو, وأن ينهلوا من نبع هذا الإسلام العظيم, فلا قيمة لدساتير أو قوانين لا تتكفل بحقوق المسنين ورعايتهم.
إمعانا في تكريم المسن أمر الله تعالي كل فرد في المجتمع ـ وليس أهله فقط ـ باحترامه وتوقيره, فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا رواه الترمذي ورواه أحمد,, فلو تأملنا في نص الحديث نجد أن الذين لا يوقرون الكبير ولا يحترمونه ليسوا في عداد المجتمع المسلم ولكنهم شاذون عنه, ولخطورة الأمر وحتي لا يخرج مسلم عن الجماعة رغب الرسول في توقير الكبير بقوله ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه رواه الترمذي,, وعن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم, وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه, وإكرام ذي السلطان المقسط رواه أبو داود, وباختصار شديد فإن الرعاية الكاملة والشاملة للمسن, صحيا ونفسيا وعقليا واجتماعيا, وغيرها من صور العناية قد جمعها اللفظ النبوي في جملة إكرام ذي الشيبة.
والمعنيون بالدرجة الأولي هنا الأبناء و يكفي ذكر مثل عظيم من القرآن الكريم تجلت فيه غاية البر من الابن بالأب قال تعالي علي لسان سيدنا ابراهيم وابنه سيدنا اسماعيل:قال: رب هب لي من الصالحين, فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أري في المنام اني اذبحك فانظر ماذا تري قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين الآيات من100 الي102 سورة الصافات. فهل بعد هذا البر.. بر؟! وهنا يتجسد مدي طاعة الابن لأبيه.
علينا أن نأخذ من هذا الموقف المغزي والعبرة, ونتعلم منه كيف يعامل أحدنا والديه فقد قال تعالي:( وقضي ربك الا تعبدوا ألا إياه وبالوالدين احسانا اما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) آية23 سورة الإسراء. ففي هذه الآية الكريمة قرن الله تعالي الإحسان الي الوالدين بعبادته تعظيما لشأن هذا الإحسان ولكي يتحقق هذا الإحسان نهي الله تعالي عن اثنين وأمر بثلاثة.
لقد نهي الابن عن أن يتأفف امامهما أو أحدهما بقوله اف فمعلوم أن لفظة أف تستخدم للتعبير عن الضجر فلو قالها ابن لأحد والديه أشعره بأنه أصبح عبئا ثقيلا عليه, وفي هذا غاية الأذي النفسي للمسن, والنهي الثاني عن نهرهما والمراد بالنهر الزجر, وإظهار المخالفة في القول علي سبيل الرد عليهما أو احدهما وتكذيبهما. فهذا مما حرمه الله في معاملة الوالدين.
وأما الأوامر الثلاثة فهي:
1 ـ( وقل لهما قولا كريما) يدخل السرور الي قلبيهما والمراد أن يخاطبهما بالكلام المقرون بعلامات التعظيم والاحترام.
2 ـ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة: أي ضمها الي نفسك كما فعلا ذلك بك حال كنت صغيرا.
3 ـ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا, ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا فهذا نوع من الإحسان اليهما في كبرهما كما أحسنا اليك في صغرك. وحري بنا في هذا المقام ان نشير الي مسألة نحسبها تقع كثيرا وهي أن بعض الأثرياء يعمدون الي تأجير خدم يقومون علي رعاية ذويهم من المسنين لينصرفوا هم الي مشاغلهم وحياتهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا, فنقول بأن هذا ليس كافيا بل يزيد الألم النفسي, لأنهم في حاجة الي التواصل مع من أحبوا وربوا. كما لابد من الإشارة الي قضية في غاية الأهمية وهي أن الكثير من الأبناء يريدون فرض الوصاية علي آبائهم أو أمهاتهم وهم مازالوا قادرين علي العطاء بتجريدهم من أموالهم وممتلكاتهم بحجة أنهم كبروا وقد انتهي دورهم في الحياة فمثل هذه المواقف من شأنها أن تحطم معنوياتهم وتشعرهم بأنهم أصبحوا عديمي المنفعة والفائدة ومثل هذه المشاعر قتلت الكثيرين من المسنين وحتي نتجنب هذه المعاصي يجب علي الأبناء أن يشعروا ذويهم بأنهم مازالوا في سن العطاء فهم أهل الخبرة والحكمة الذين صقلتهم الحياة.
[email protected]
ساحة النقاش