الآثار المصرية في شعر شوقي ـ‏3‏ ـ
بقلم: فاروق شوشة
جعل شوقي ـ أمير شعراء العصر الحديث ـ من الطبيعة والتاريخ جناحي الشاعر اللذين بهما يحلق‏,‏ وهو في فضاء الشعر يأسر الطير ويطلقه‏,

 

‏ ويكلم الجماد وينطقه‏,‏ ويقف علي النبات وقفة الطل‏,‏ ويمر بالعراء مرور الوبل‏,‏ فهناك ينفسح له مجال التخيل‏,‏ ويتسع له مجال القول‏.‏
ويلخص علاقته الوثيقة بوطنه مصر وتاريخها العريق‏:‏ اعتزازا ومحبة وانتماء في بيته الرائع‏:‏
وأنا المحتفي بتاريخ مصر
من يصن مجد قومه صان عرضا
وفي وقفاته الحكمية المتأملة‏,‏ مع آثار مصر ـ علي مدار رحلته الشعرية ـ ما يؤكد هذا الإصغاء الروحي العميق‏,‏ للغة الحية التي تنطق بها هذه الآثار‏,‏ متجسدة في معابد أنس الوجود وتمثال أبي الهول وعظمة الأهرامات‏,‏ والفتنة الباهرة لأنظار العالم يشعها الموكب الملكي للفرعون الشاب توت عنخ أمون الذي اختصه شوقي بكثير من شعره في هذه الآثار المصرية‏.‏
في يوم رفع الستار في مسرح حديقة الأزبكية ـ المسرح القومي الآن ـ يلتفت شوقي الي المناسبة التاريخية التي تجمع بين حضارتين‏:‏ حديثة‏,‏ يمثلها المسرح بأنوار اشعاعه وعظمة تأثيره‏.‏ وقديمة‏,‏ يمثلها تمثال أبي الهول‏,‏ المنتصب في شموخ علي خشبة المسرح‏,‏ رمزا لعظمة الأسلاف القدماء وعبقرية تاريخهم‏,‏ يناجيه رجل بالقصيدة التي أصبحت أشهر ما قيل في أبي الهول‏,‏ والرجل ينطق ويشير بلسان شوقي نفسه وهو يقول‏:‏
أبا الهول‏:‏ طالت عليك العصر‏...‏ وبلغت في الأرض أقصي العمر‏...‏ فيا لدة الدهر‏,‏ لا الدهر شب‏...‏ ولا أنت جاوزت حد الصغر‏/‏ إلام ركونك متن الرمال‏...‏لطي الأصيل‏,‏ وجوب السحر؟‏/‏ تسافر منتقلا في القرون‏...‏ فأيان تلقي غبار السفر؟‏/‏ ابينك عهد وبين الجبال‏...‏ تزولان في الموعد المنتظر؟
هذه اللحظة التاريخية الجامعة‏,‏ بين مجدي القديم والحديث‏,‏ هي التي استوقفت شوقي‏,‏ ولفتت انتباهه الشعري‏,‏ قبل أن يبحر في فضائه الشعري‏,‏ متسائلا بدوره عن السر الكامن في تشكيل أبي الهول علي هذه الصورة الجامعة بين الوجه الإنساني الناطق بالحجي والبصر والجسد الحيواني الناطق بالهيبة والقوة والعنفوان‏.‏ أبا الهول ما أنت في المعضلات؟‏..‏ لقد ضلت السبل فيك الفكر‏/‏ تحيرت البدو ماذا تكون؟ وضلت بوادي الظنون الحضر‏/‏ فكنت لهم صورة العنفوان‏..‏ وكنت مثال الحجي والبصر‏/‏ وسرك في حجبه كلما‏:‏ أطلت عليه الظنون استتر‏/‏ وما راعهم غير رأس الرجال‏:‏ علي هيكل من ذوات الظفر‏/‏
هذا التأمل الشعري الكاشف عن طبيعة الدور الذي يمثله أبو الهول في رحلة الأزمان‏,‏ إنه النديم والنجي والسمير‏,‏ وهو المطل دوما علي عالم جديد تبدأ تباشيره وتلوح أنواره ـ كالذي يحدث في افتتاح مسرح حديقة الأزبكية ـ وعالم قديم يرحل ويغيب مع نهاية كل عصر‏,‏ فهو الشاهد الدائم الناطق المعبر كما يقول عنه شوقي‏:‏
تطل علي عالم يستهل‏:‏ وتوفي علي عالم يحتضر‏/‏ فعين الي ما بدا للوجود‏:‏ وأخري مشيعة من غبر‏/‏ فحدث‏,‏ فقد يهتدي بالحديث‏..‏ وخبر‏,‏ فقد يؤتي بالخبر‏/‏ وصولا الي قوله قرب ختام قصيدته‏:‏
فهل من يبلغ عنا الأصول‏:‏ بأن الفروع اقتدت بالسير؟‏/‏ وأنا خطينا حسان العلا‏:‏ وسقنا لها الغالي المدخر‏/‏ تحرك أبا الهول‏,‏ هذا الزمان‏:‏ تحرك ما فيه حتي الحجر‏.‏
حتي اذا ما انتهي الرجل الناطق باسم شوقي مناجيا ابا الهول علي المسرح‏,‏ دوي صوت لآخر‏,‏ كان مختفيا وراء التمثال‏,‏ ناطقا بلسانه‏,‏ وهو يهتف‏.‏ نجي أبي الهول آن الأوان‏:‏ ودان الزمان ولان القدر‏/‏ محا ظلمة اليأس صبح الرجاء‏:‏ وهذا هو الفلق المنتظر‏/‏ فهل كان شوقي يدرك في تلك اللحظة الحضارية الجامعة بين رمزين للمجد‏,‏ أن الوقت سيمر‏,‏ وأن الزمان سينقضي‏,‏ وأن هذا المسرح العتيد‏,‏ الذي أتيح له الازدهار في عقوده الأولي‏,‏ عندما كان صرح ابداع ونهضة وتنوير‏,‏ سيصبح في ختام العهد به‏,‏ كما نشهد ونري ونسجل‏,‏ سجين الصوت‏,‏ أخرس الرسالة‏,‏ بعيدا عن دوره التنويري المأمول‏!‏ وأن ما كان ينبغي رصده من ميزانيات وإمكانيات للعمل علي ازدهار مسرح حقيقي‏,‏ سيصبح أضعافها مسخرا لإنجاز يحمل معني العبث‏,‏ متمثلا فيما يسمي بمهرجان المسرح التجريبي؟
وفي التفاف شوقي الي معني اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون‏,‏ مما يمثل جوهر اهتمامه بتاريخ مصر‏,‏ ووقوفه علي عصور ازدهاره وانكساره‏,‏ ولا يفوته وهو يتحدث عن اللورد كارنارفون الذي كان له فضل الاهتداء الي هذه الكنوز‏,‏ أن يشير الي لعنة الفراعنة التي أصابته‏,‏ عندما عضته بعوضة فأصيب بالتسمم‏,‏ وكانت وفاته في أبريل عام‏1923,‏ بعد أن تم اكتشاف المقبرة‏,‏ وما تمتلئ به من كنوز في نوفمبر عام‏1922,‏ وما رددته الأخبار عن سرقته لعقد مصري له قيمة لا تقدر اهداه اللورد الي ابنة ملك الإنجليز‏,‏ لكنها نزعته عن عنقها وردته لما علمت بأن وفاته كانت بسبب بعوضة من القبر عضته‏,‏ خوفا من انتقام توت عنخ آمون‏.‏
يقول شوقي‏:‏ خليلي اهبطا الوادي‏,‏ وميلا‏:‏ الي غرف الشموس الغابرينا‏/‏ وسيرا في محاجرهم رويدا‏,‏ وطوفا بالمضاجع خاشعينا‏/,‏ وخصا بالعمار وبالتحيا‏:‏ رفات المجد من توتنخمينا‏/‏ وقبرا كاد من حسن وطيب‏,‏ يضئ حجارة‏,‏ ويضوع طينا‏/,‏ يخال لروعة التاريخ قدت‏..‏ جنادله العلا من طورسينا‏/,‏ وكان نزيله بالملك يدعي‏:‏ فصار يلقب الكنز الثمينا‏/,‏ وقوما هاتفين به‏,‏ ولكن‏:‏ كما كان الأوائل يهتفونا‏/,‏ فثم جلالة قرت ورامت‏:‏ علي مر القرون الأربعينا‏/,‏ جلال الملك أيام وتمضي‏:‏ ولا يمضي جلال الخالدينا‏/‏ سلام يوم وارتك المنايا‏,‏ بواديها‏,‏ ويوم ظهرت فينا‏!‏

 

المزيد من مقالات فاروق شوشة

<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915" mce_href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" mce_src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" mce_style="border: 0" /></a> <mce:script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915" mce_src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></mce:script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 91 مشاهدة
نشرت فى 18 يوليو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,686,866