د. حسام بدراوى يكتب: نهضة التعليم- تحديات التطبيق (٥) .. المدرسة هى البنية الأساسية لتقديم الخدمة التعليمية ١٧/ ٧/ ٢٠١٠ |
استكمالاً لما بدأناه فى هذه المجموعة من المقالات وما تناولناه من تحديات تواجه تطبيق رؤية تطوير التعليم فى مصر، حيث تحدثنا حول تحدى عدم ملائمة الموازنات المخصصة للتعليم، وتحدى تنمية مهنة المعلم، فإننى سأتناول تحديين آخرين بينهما ارتباط كبير، وهما تحدى اعتبار المدرسة وحدة التطوير الأساسية، وتحدى تطبيق اللامركزية. تحدى اعتبار المدرسة وحدة التطوير الأساسية: اهتمت العديد من مبادرات وبرامج الإصلاح التى تبنيناها بتطوير المدرسة، على اعتبارها البنية الأساسية لتقديم الخدمة التعليمية، وقد تم تمويل هذه البرامج إما من موازنة قطاع التعليم من خلال هيئة الأبنية التعليمية، أو من خلال برامج المؤسسات المالية المانحة، ومبادرات القطاع الخاص. وعلى الرغم من هذا الجهد المحمود، فمازالت مهمة تطوير المدرسة فى حاجة إلى إعادة للتعريف، فتطوير المدارس لا يعنى بالضرورة التركيز على المكون المادى الخاص بالإحلال والتجديد، على الرغم من أهميته، كذلك فإن تزويد المدارس بأجهزة الكمبيوتر دون وجود الكادر المدرب والوقت الكافى، رغم أهميته، قد لا يؤدى إلى تطوير المدارس. فى الوقت ذاته يبدو التنميط فى عمليات تطوير وإصلاح المدارس هو السمة الغالبة، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات هنا أو هناك. إن إصلاح وتطوير المدارس هدف لا يمكن الاختلاف بشأنه، ولكن طبيعة هذا التطوير والغرض من ورائه فى حاجة إلى تحديد واضح، يمكن لكل محافظة، أو منطقة تعليمية، أو مدرسة استخدامه كنموذج، شاملا المحتوى المادى، الذى يتم التركيز عليه دائما، ومحتوى التنمية الإنسانية، وهو ما يجب الأخذ به فى كل الأحوال. على الرغم من الدور الكبير الذى قامت به هيئة الأبنية التعليمية، فى مجال تشييد وتجديد المدارس العامة، فإن العديد من الدراسات والبيانات تشير إلى زيادة التكلفة الإنشائية وتكلفة الصيانة لأعمال الهيئة، فإن هذه القضية لاتزال تمثل تحدياً رئيسياً، لأهمية ومحورية خدمات التجديد والإحلال، ومراعاة ابتكار أنماط مختلفة للأبنية المدرسية تتوافق مع البيئات المحلية المختلفة بحيث تفى باحتياجاتها المتباينة وفقاً للخصائص الديموجرافية والبيئية للوسط المحيط بها، بما يحقق توسعاً متوازناً. وكذلك أهمية النسبة التى تستحوذ عليها هذه الخدمات من الإنفاق على التعليم، وبالأخص إذا استبعدنا الأجور من طريقة الحساب. ولقد دعونا لترجمة فكرة التعليم التعاونى التى تعتمد على تفعيل الجهود الأهلية فى الإنفاق على التعليم إلى واقع ملموس لاستيعاب نحو ١٠% من عدد الطلاب خلال السنوات السابقة ضمن أطر محددة، كذلك فإننا عرضنا التوجه نحو تواجد كيان جديد أو تفعيل أحد الكيانات التعليمية المتاحة لتولى الإشراف على هذه النوعية من المدارس التعاونية لضمان التكافل الاجتماعى والعدالة وتكافؤ الفرص للتلاميذ الذين يتقدمون للالتحاق بها. وفى جميع الأحوال فإنه لابد أيضاً من إعداد ميزانية لتحسين أوضاع المدارس الحالية من حيث الصيانة واكتمال المنشآت وأجور العاملين بها واتساع الأنشطة الرياضية والعلمية. وفى سبيل دعم التوسع فى بناء مدارس جديدة، دعونا القطاع الخاص للتوسع فى الاستثمار فى مجال إدارة التعليم، وإنشاء المدارس المتميزة وزيادة استيعابها لشريحة أكبر من المجتمع، حتى تتوفر الفرصة لشريحة أخرى للتمتع بالمجانية التى تتيحها الدولة ضمن مسؤولياتها الاجتماعية المتفق عليها لكن بجودة أعلى، وقدرة استيعاب أكبر، مع قناعتنا بأن استثمارات الدولة هى المعنى فى الأساس بتحقيق الجزء الأكبر والأكثر فاعلية فى التوسع الجديد. إن التحدى هنا يبرز بشكل جاد فى اتهام الحكومة، عندما تحفز مشاركة القطاع الخاص، والقطاع الأهلى، أو تسعى لمشاركة المجتمع القادر على تكلفة التعليم بأنها تتخلى عن مجانية التعليم، التى هى حق دستورى اتفق المجتمع عليه. وحقيقة الأمر أن هذا الحق يجب احترامه، بل إننى أدعو أن تكون المجانية حقيقية وليست شكلية، حيث يعلم الجميع أن هناك تكلفة تسددها الأسر المصرية فى التعليم، فى المدارس الحكومية، فى الدروس الخصوصية لأسباب متعددة.. أهمها انخفاض جودة التعليم فى المدارس، والتركيز على الحصول على الشهادات بغض النظر عن اكتساب المعارف والمهارات. إن علينا أن نواجه التحدى، ونعترف به، ونقوم بتخطيه ليس بالكلام عنه ولكن بتنفيذ السياسات التى يتفق عليها، على مراحل، وبتمويل مستدام يكون أولوية فى الموازنات حتى ولو كان ذلك أخذاً من أولويات أخرى. وفى إطار المدرسة فإن هناك تحدياً آخر أمام كيفية التعامل مع تأليف وطباعة الكتاب المدرسى، حيث يقوم قطاع الكتب فى ديوان عام وزارة التربية والتعليم، بمسؤولية إعداد وطباعة وتوزيع الكتب المدرسية، إلا أن اقتصاديات التكلفة فى العمليات المتعلقة بالكتاب المدرسى تظهر قصور جدواها مقارنة بالكتاب المنتج بواسطة دور النشر الخاصة، هذا بالإضافة إلى العديد من الملاحظات الخاصة بكفاءة المخرجات، ومدى اقترابها مما ينتجه القطاع الخاص من سلع موازية. وعلى الرغم من غزارة التقارير والدراسات التى تعاملت مع هذه القضية داخل قطاع التعليم وخارجه، فإن هذه القضية لاتزال تمثل تحدياً رئيسياً، لأهمية ومحورية توفر كتاب مدرسى مناسب لأهداف المنظومة التعليمية المرغوب فيها. وقد يكون عدم استخدام التلاميذ لهذه الكتب أساساً، واستخدامهم للكتب الخارجية والتى قد يكون بعض مؤلفيها مشاركين فى تأليف كتب الوزارة، مما يمثل تعارضاً فى المصالح، أو يتم طبعها ولا يتم توزيعها، أو لا يتم طبعها أساساً وتتم المحاسبة عليها كمدخل للفساد الكبير.. كلها تحديات أمام إدارة طبع الكتب وعلى المسؤول فى الوزارة مواجهتها بكل الحسم والجدية.. مع طرح أساليب محفزة جداً لنقل هذه الكتب من تلاميذ مرحلة إلى مرحلة أخرى سنوياً. وأضيف بالطبع أن كثيراً من مطابع الصحف القومية تعتمد بشكل جزئى على موارد وزارة التعليم لسداد تكلفة طباعة الكتب المدرسية لديها بدون أسس تنافسية، وهو ما يسمح بالتأثير السياسى على هذه الصحف ويتيح مساحة أخرى من الفساد بين تعامل جهات الدولة المختلفة.. ويهدد موازنة هذه الوزارة بشكل أو بآخر. تحدى تطبيق اللامركزية: إن توجهنا نحو اللامركزية فى إدارة العملية التعليمية ينشأ من رؤية متكاملة والاستفادة بخبرات أنظمة إدارة التعليم فى مصر والعالم. إن الاتساع والانتشار الجغرافى، وتزايد أعداد المدارس والتلاميذ والأعداد الكبيرة من المعلمين يجعل اختيار هذه الاستراتيجية أكثر إلحاحاً. إن إيجابيات التحول نحو اللامركزية فى إدارة التعليم واضحة فى ذهنى وتؤيدها تجارب الدول ذات الكثافة السكانية والانتشار الجغرافى للمدارس، حيث إن هذا التوجه: ■ سيعطى الفرصة والوقت للوزارة المسؤولة نحو التخطيط الاستراتيجى، والمراقبة والمساءلة لمقدمى الخدمة بدلاً من الانغماس شبه اليومى فى حل المشاكل الفرعية، وكذلك وضع معايير التقييم على مستوى الإدارة أو على المنتج النهائى لعملية التعليم وتوزيع الموازنات بناءً على معايير جديدة تكون المنافسة بين المحافظات عاملاً مؤثراً فيها. ■ هدفه إدارة أفضل، وكفاءة أشمل، ويتيح الفرصة أمام مساحة أكبر من العاملين فى قطاع التعليم للمشاركة والإبداع والابتكار. كذلك يتيح هذا التوجه تحقيق فلسفة أن المدرسة هى الخلية الأساسية فى العملية التعليمية وأنها يجب أن تضطلع بمهامها، وتنهض بمسؤولياتها. ■ سيتيح قاعدة أكبر للمشاركة من خلال تنمية قدرات القيادات المحلية ليس فقط فى التعليم، ولكن فى جميع أنشطة الدولة من القيادات الجديدة. ■ سيرسخ مفاهيم العائد المباشر على المجتمع نتيجة المشاركة، مما يزيد فرصة المشاركة ويشجع المجتمع المحلى للقيام بواجباته. ■ لابد وأن يزيد من كفاءة إدارة الوحدات التعليمية، ويتيح الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، إذا أخذ بالعلم والموضوعية، بل يعطى الفرصة لزيادة هذه الموارد بأنماط جديدة. ■ لابد وأن يؤدى إلى قدرة أكبر فى متابعة المعلمين، ومكافأة الجادين والمنجزين منهم بشكل مباشر مما يزيد من دخولهم ويرفع من مستواهم المادى والأدبى، وكذلك ينعكس على المدرسة وشكل إدارتها وموازنتها وارتباطها بالمجتمع المحيط بها بشكل إيجابى. إلا أنه قد ينشأ تخوف من ثلاثة عوامل تمثل تحدياً لهذا التوجه لابد من مواجهتها وهى: أولاً: احتمال وجود ضغوط فى المحليات نحو إرضاء المجتمع أو الوساطة أو تحقيق مكاسب شخصية على حساب العملية التعليمية وهو أمر يحتاج للقياس. ثانياً: عدم كفاءة السلطات المحلية أو الكوادر البشرية المؤهلة واعتمادها لمدد طويلة على السلطة المركزية. ثالثاً: الخوف من تحكم الأقليات المنظمة فى الأغلبية غير الكفء أو السلبية فى المحافظات، وكلها أمور تحتاج إلى تأكيد ودراسة لتجنب سلبيات محتملة قياساً لإيجابيات تأكدت فى مجتمعات أخرى نجحت فيها هذه السياسات. إن علينا أن نؤكد مبادئ عامة من الواجب احترامها لتحقيق أهداف اللامركزية فى إدارة وتمويل التعليم، فأخذاً بمبدأ أن التطوير فى التعليم عملية متدرجة، فإنه من المهم تجريب اللامركزية فى عدد من المحافظات أو بعض مديريات التعليم أو فى مجموعة من المدارس (التجريبية مثلاً) على مستوى الجمهورية من خلال التشاور بين الوزارة والمحافظة والمجتمع. وقد تم الاتفاق عام ٢٠٠٩، بعد ثمانى سنوات من طرح السياسة، على اختيار محافظات الفيوم والإسماعيلية والأقصر لتطبيق الانتقال إلى اللامركزية بكل جوانبها على أن تتحدد الأدوار بوضوح لضمان إنجاح هذه التجربة، ويستفاد من حصاد الدراسات والبرنامج التنفيذى الذى بدأ تطبيقه فى محافظة الإسكندرية من قبل فى إطار المبادئ التالية: ■ أن يتحرك العمل فى اللامركزية فى إطار السياسة العامة للدولة. ■ التدرج فى التنفيذ والتجريب المحدد قبل التعميم، والاختيار الواعى للمشاركين فى الإدارة والإشراف. ■ إن هذا التوجه لا يعنى إلغاء دور الوزارة المركزية المسؤولة قومياً عن تطوير التعليم وتنمية موارده، بل يعبئ قدراتها على التخطيط والتنظيم والمساندة ثم المساءلة والرقابة. ونرى أن تحتفظ الوزارة المركزية بمسؤولية الحفاظ على النسيج الوطنى ودعم الهوية وضمان السلام الاجتماعى، وصيانة الأمن القومى، وتطبيق مبادئ القانون والدستور، خاصة فيما يتعلق بتكافؤ الفرص وعدالة التوزيع والتدخل لتصحيح الأخطاء أو الانحراف وإصلاح ما تثبت التجربة ضرورة تعديله. ■ قبول التقييم المحايد بشكل دورى للاطمئنان على تحقيق أهداف التوجه. ■ أهمية وجود قيادات تمتلك قدرات إدارية فعالة ورؤى مستقبلية واضحة، وإعدادها بالصورة المناسبة وهو الأمر الذى نضعه فى أولويات عناصر النجاح. ■ إن التوسع فى اللامركزية والمشاركة المجتمعية يجب أن يراعى درجة نمو المجتمع المحلى سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. وبالرغم من وجود عناصر متعددة للمشاركة المجتمعية بأشكالها المختلفة فى مجالس الأمناء أو الآباء أو غيرها، فإن مدى تفعيل دورها وأثرها الكمى والكيفى على العملية التعليمية مازال غير واضح. ويلاحظ أن أثر هذه العناصر ليس مؤسسياً فى الوقت الحالى بالشكل الذى يمثل القيمة المضافة لها مجتمعة على العملية التعليمية، وأن التأثير الإيجابى أو السلبى أحياناً لأحدها يكون بشكل منفرد، وبلا نمط متكرر بما يضمن لها الاستمرارية والأثر التراكمى وتأصيل مفهوم المشاركة. وبتحليل الواقع التاريخى فإن أهم أسباب ضعف المشاركة المجتمعية وضعف مخرجاتها فى مصر قد يرجع إلى عزوف الكثيرين عن العمل التطوعى وانشغالهم بالبحث عن فرص عمل ذات عائد اقتصادى مباشر، مع وجود خبرات سلبية فى التعامل مع بعض أجهزة الدولة. يزيد على ذلك نقص المعرفة عن كيفية المشاركة المجتمعية والتناقض أحيانا بين الدعوة لتشجيع المشاركة المجتمعية وما يحدث على أرض الواقع. ومع ذلك، فحيثما توجد تجارب جدية لمشاركة المواطنين، وحينما يرى المواطنون نتائج إيجابية لمشاركتهم يزداد عطاؤهم ويزول الشك من نفوسهم ويقبلون على مزيد من المشاركة، ومن هنا تأتى أهمية النجاح فى إعادة الثقة فى سياسات الإصلاح. أما فى التعليم العالى، فبالرغم من نص القانون على استقلالية الجامعات بما يحقق الربط بين التعليم الجامعى وحاجات المجتمع والإنتاج، والديمقراطية فى شكل مشاركة أعضاء هيئات التدريس فى صنع القرار فى أقسامهم وكلياتهم من خلال المجالس المختلفة، فإن المشاركة الفعالة لأعضاء هيئة التدريس فى القرارات، خاصة على المستوى الأعلى من الأقسام والكليات غير محسوسة. كذلك ليس هناك أثر ملحوظ لمشاركة الطلاب أو أولياء أمورهم فى تسيير أمور الجامعات والمعاهد العليا. أما مشاركة المجتمع المدنى، أو الإنتاجى فى مجالس إدارات الجامعات أو الكليات فلا تخضع لشكل مؤسسى فى الاختيار، ولا تحقق تواجداً حقيقياً فى صنع القرار. وفى جميع الأحوال، فإن موازنات مؤسسات التعليم العالى التى تتقدم بها الوزارة المسؤولة سنوياً لا تمثل احتياجات تصاعدية من أقسام وكليات المؤسسة، ولا ترتبط بتقييم أدائها أو مخرجاتها التعليمية. وتوجد الكثير من المعوقات أمام حرية المؤسسة التعليمية فى التصرف فى موازناتها الداخلية أو نقل الاعتمادات من بند إلى آخر بالرغم من نص القانون على حقها فى ذلك. وكلها تحديات يمكن التغلب عليها إذا توافرت الإرادة السياسية فى إعطاء مؤسسات التعليم العالى حرية الإدارة الذاتية والاستقلال الأكاديمى مع وضع ضوابط المراجعة فى إطار واضح ومعلن. هذا وسيكون المقال المقبل هو الأخير فى تلك المجموعة، والذى سأطرح فيه رؤيتى للتغلب على التحديات التى تواجه خطط وسياسات تطوير التعليم فى مصر، فإلى اللقاء. |
ساحة النقاش