تدمير مفاعلات نووية فرنسية عسكرية‏


لاهاي هي بلدة من أعمال مدينة شيربورج التاريخية الشهيرة بالعديد من الأحداث علي مر العصور‏,‏ وإن كان اسمها ارتبط بشيئين رئيسيين‏:‏ الأول هو أنها كانت أولي المدن التي حررتها قوات الحلفاء في الـ‏24‏ من يونيو عام‏1944‏ عقب الإنزال البحري الشهير.

 

علي شواطئ نورماندي‏,‏ والذي كان بداية النهاية لكل من احتلال فرنسا والمحتل النازي الألماني‏.‏ أما الشيء الآخر الذي يرتبط بالمدينة‏,‏ فهو أن جانبا كبيرا من الأسطول البحري الفرنسي يتخذ من مرافيء المدينة قاعدة انطلاق له‏.‏
ومن شيربورج إلي لاهاي بالحافلة‏,‏ حيث منشأة اريفا التي بدأت العمل في عام‏1966‏ والتي تعد أكبر منشأة في العالم تقوم بمعالجة الوقود النووي‏,‏ حيث تستوعب وقودا نوويا مستخدما من‏80‏ ـ‏100‏ مفاعل علي مدار العام بطاقة‏1700‏ طن‏.‏ وتعد أريفا ـ التي تعمل بشكل مباشر في‏34‏ دولة‏,‏ كما أنها متواجدة صناعيا وتجاريا في أكثر من‏100‏ دولة ـ هي الأفضل في مجال معالجة الوقود النووي لإعادة استخدامه في انتاج الكهرباء علي مستوي العالم‏,‏ حيث تبلغ قدراتها معالجة‏96%‏ من الوقود النووي المستخدم‏,‏ من بينه‏95%‏ يورانيوم‏-1%‏ بلوتونيوم ـ أما الـ‏4%‏ فهي نفايات‏.‏
وهذه المعالجة في منشأة أريفا توفر‏25%‏ من استخدام اليورانيوم الخام الطبيعي‏,‏ كما تقلل من حجم النفايات السامة‏,‏ وهي العملية التي تقوم بها المنشأة سواء للوقود النووي الفرنسي أو الوارد لها من ألمانيا وسويسرا وهولندا وبلجيكا واليابان‏.‏ الهدف من هذا الجزء من الرحلة هو استيعاب قدرات فرنسا النووية السلمية‏,‏ بالإضافة إلي إبراز الجانب السلمي الذي تعتزم فرنسا أن تركز عليه في المستقبل‏,‏ باعتبارها هي الأولي علي مستوي العالم في العديد من جوانب هذه العملية‏.‏
مرة أخري‏,‏ أتعرض لقصف مركز من المعلومات خلال الجولة في منشآت أريفا‏,‏ وبعض هذه المعلومات كان مدهشا لدرجة صادمة‏,‏ وهذه عينة من تلك المعلومات‏:‏
ـ‏1‏ جرام من البلوتونيوم‏=100‏ جرام من اليورانيوم‏=‏ طن بترول من حيث الطاقة الكهربائية التي يولدها‏!‏
‏-‏ هذا العمود الذي لا يزيد طوله علي‏1.5‏ متر من الوقود المعالج يوفر كهرباء لـ‏25‏ ألف نسمة‏,‏ في حين أن‏9.5‏ ألف طن من هذا الوقود يساوي انتاج ستة أشهر من بترول السعودية لتوليد طاقة كهربية‏!‏
‏-‏ كلفة المعالجة أقل بكثير من التخلص من المواد المشعة التي تكلفك تخزينا‏,‏ ناهيك عن خسارة الطاقة المتولدة عن المعالجة‏,‏ بالإضافة للمحافظة علي البيئة‏!‏
‏-‏ في بداية الجولة الميدانية شاهدت العلب الضخمة المختومة المضادة للصدمات والنار والتي تأتي ممتلئة بالوقود النووي المستخدم من الخارج علي سفن أو قطارات من أوروبا ـ وليس الطائرات‏-‏ حيث يتم تبريدها من‏300‏ درجة مأوية إلي‏70‏ درجة‏.‏
‏-‏ المرحلة الثانية من الجولة تمثلت في تفقد الغرف المعزولة‏(‏ الغرف الساخنة‏)-‏ المحظور علي البشر دخولها لكم الإشعاع بها‏-‏ حيث يتم التعامل مع أعمدة الوقود من خلال أذرع يتم التحكم بها من خارج غرف الساخنة‏,‏ ليتم غمرها في أحواض مياة للتبريد‏.‏
‏-‏ يتم الاحتفاظ لفترة معينة بالوقود النووي في أحواض مياه يبلغ عمقها تسعة أمتار‏,‏ وطولها‏85‏ مترا وعرضها‏15‏ مترا‏!‏
‏-‏ يتم نزع الغلاف المعدني لعمود الوقود‏,‏ وذلك قبل أن يغمر في محلول حمضي لفصله تماما عن الأجزاء العالقة به من الغلاف المعدني‏,‏ ولاستخلاص البلوتونيوم واليورانيوم‏.‏
‏-‏ يتم تخزين النفايات الفرنسية في علب ضخمة مختومة بعد إضافة نوع معين من الزجاج الأسود المجروش بها لتقليل مخاطر اتصالها بالماء‏,‏وهذه هي المرحلة الأصعب في العملية‏.‏
‏-‏ الجزء الأخير من الجولة انتهي بي في صالات ضخمة أرضيتها عبارة عن فوهات آبار محكمة بالخرسانة المسلحة لكي ترقد بها هذه المواد ويمكن لها ان تبقي كذلك‏100‏ عام‏,‏ وذلك حتي تنتهي هيئة السلامة النووية الفرنسية من انشاء مخازن ومدافن في غرب البلاد علي عمق‏800‏ متر في باطن الارض في عام‏2025.‏
إلي هنا‏,‏ ولنا وقفة‏;‏ فهذه الجولة غير المسبوقة التي أتاحتها الحكومة الفرنسية لي كممثل لصحيفة الأهرام لم تكن مجرد جولة سياحية‏,‏ وإنما كانت هدفا ووسيلة في آن واحد‏!‏
فمن ناحية‏,‏ فإن فرنسا كانت تعلن بها‏-‏ ومن خلالها ـ تدشين عصر جديد من الشفافية شبه الكاملة فيما يتعلق ببرنامجها النووي العسكري قبل السلمي‏,‏ مع التأكيد علي تخليها عن أفضلية الرادع النووي علي المدي البعيد‏.‏ في الوقت نفسه‏,‏ فإن فرنسا بهذه الزيارة الكاشفة‏,‏ أرادت أن تبعث بالعديد من الرسائل‏-‏ ليس فقط للدول الطامحة نوويا مثل إيران وغيرها‏,‏ ولكن للدول المسلحة نوويا بالفعل‏-‏ ومفادها أن الوقت قد حان لوضع جدول زمني‏,‏ وآليات حقيقية لإزالة ليس فقط الأسلحة النووية‏,‏ وإنما المنشآت المصنعة لها‏.‏
من ناحية أخري‏,‏ فإن هذه الجولة الفريدة من نوعها استهدفت فرنسا من ورائها التأكيد علي ريادتها العالمية للتكنولوجيا النووية السلمية‏,‏ وبالتالي‏,‏ أحقيتها في نصيب معتبر من عقود بناء المفاعلات النووية في العالم الثالث الذي بدأ يدرك حتمية الخيار النووي لتوفير طاقة بديلة نظيفة متجددة ورخيصة نسبيا‏.‏
علي صعيد آخر ـ وفي ظننا‏-‏ أن فرنسا استهدفت بهذه الجولة إطلاق رسائل لإيران بفداحة كلفة الخيار النووي العسكري الذي بدأت فرنسا في التخلي عنه بعد أكثر من‏60‏ عاما من تطويره‏,‏ ومن أن العواقب السياسية والعسكرية‏,‏ وبالتالي‏,‏ الاقتصادية لهذا الخيار لا داعي لها‏,‏ في مقابل المكاسب الهائلة للاقتصار علي الخيار النووي السلمي الخاضع للرقابة الدولية‏.‏
تحدثت مع برونو تيرتييه كبير الباحثين في مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية‏-‏ والتي تعد الحكومة الفرنسية أهم عميل لها‏-‏ حول خيارات واحتمالات ضربة عسكرية لإيران‏,‏ الذي أكد أن خيار الضربة قائم لكل من أمريكا وإسرائيل‏,‏ وسيتم اللجوء له في حال التأكد من اتجاه إيران لتخطي العتبة النووية‏.‏ إلا أن الرجل عاد فقال إن أي ضربة عسكرية لن تنهي برنامج إيران النووي‏,‏ وإنما ستؤخره فقط‏.‏ واستطرد قائلا‏:‏ إذا أدت مثل هذه الضربة لتأخير البرنامج من عام إلي ثلاثة أعوام فإنها غير ذات فائدة‏,‏ وإنما الفائدة تتحقق بتأخير البرنامج‏10‏ سنوات علي الأقل‏,‏ وهو الأمر الذي لو تأكد الإسرائيليون منه‏,‏ فإنهم سيقومون بها‏,‏ مع فارق إن عملية أمريكية ستكون أكبر وستستمر أياما وستمتد إلي بعض مراكز الحرس الثوري‏!.‏
سألت الرجل‏:‏ وماذا عن رد الفعل الإيراني؟ قال الخبير الفرنسي‏:‏ لن يقدم الأمريكيون أو الإسرائيليون علي ذلك‏,‏ إلا إذا تأكدوا أنهم قادرون علي استيعاب رد الفعل‏,‏ وأعتقد أن الأمريكيين سيبعثون برسالة إلي الإيرانيين يحذرونهم من رد فعل شامل مثلما فعلوا معهم عام‏1988‏ لإرغامهم‏-‏ علي غير رغبة الخوميني‏-‏ علي قبول وقف إطلاق النار مع العراق‏!,‏ جادلت الرجل بأن رسائل أمريكا في عام‏1988‏ كانت بمثابة اللعب علي أطراف الملعب وفي سياق مختلف‏,‏ حيث كان العراق في ذلك الحين قد عاد إلي خط الحدود خارج الأراضي الإيرانية‏,‏ وهو الذي اقترح وقف إطلاق النار‏,‏ إلا أن الضرب الآن في قلب إيران ذاتها‏,‏ فهل تم حساب العقلية الشيعية‏,‏ صفرية التفكير عندما تشعر بالتهديد؟‏!‏
بعد تفكير‏,‏ قال الرجل‏:‏ لم يعد هناك حلول كثيرة‏,‏ ولكنني أعتقد بضرورة تزامن العقوبات مع طرح عرض مغر لدعم النشاط السلمي النووي الإيراني كوسيلة للخروج بحل مشرف يحفظ ماء وجه كافة الأطراف‏.‏ ولنا في إجراءات فرنسا التي أوقفت بمقتضاها التجارب النووية‏,‏ وخفضت مخزونها‏,‏ وأوقفت المواد الانشطارية أسوة حسنة‏.‏
وأعرب الرجل عن اعتقاده بوجود مبالغة أمريكية بعد أحداث‏11‏ سبتمبر بشأن مخاطر وقوع سلاح نووي في أيدي الإرهابيين‏,‏ مشيرا إلي أن القنبلة القذرة التي لا تستخدم البلوتونيوم ولا اليورانيوم وإنما مواد مشعة تستخدم في الصناعات المدنية مثل السيزيوم يمكن أن تكون هدفا للجماعات الإرهابية‏.‏
اختتمت اللقاء مع الخبير الفرنسي بسؤاله عن تقييمه لمدي نجاح أو فشل اتفاقية منع الانتشار النووي‏,‏ وتوقعاته لمؤتمر نيويورك لمراجعتها‏,‏ فقال‏:‏ الاتفاقية صممت لمنع الانتشار‏,‏ فهل منعته؟ أشك‏.‏ وحيث إن اتفاقية الشرق الأوسط كانت جزءا من اتفاق عام‏1995‏ فإنه بدون إحراز تقدم علي هذا الصعيد‏,‏ فإنه سيكون من الصعب تطوير الاتفاقية‏,‏ أو أن النتائج ستكون متواضعة‏.‏ ولكن في النهاية النجاح والفشل شيئا نسبيا‏,‏ ويختلف تقويمه من شخص لآخر حسب الجزء من الكوب الذي ينظر إليه‏!.‏
والسؤال الذي نختم به‏:‏ إلي أي جزء من الكوب يمكن أن ننظر؟
شخصيا‏,‏ فقد تأثرت بالجزء الذي رأيته في فرنسا‏,‏ وأتمني أن يمتليء الكوب الفرنسي بالتخلي الكامل عن الرادع النووي علي المدي الأبعد‏,‏ ولكي تقدم باريس نموذجا حضاريا هي جديرة به‏,‏ والأهم أن تثير حمية الدول النووية الأخري علي اقتفاء أثرها حضاريا‏...‏

 

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 170 مشاهدة
نشرت فى 13 يوليو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,604,204