جامعة القادسية

  كلية التربية

قسم اللغة العربية

 

 

 

         الرمز الحيواني في أدب الجاحظ

 

 

بحث قدمه الطالب :

            جاسم شاهين كاظم

بإشراف

       الاستاذ الدكتور سعيد عدنان

 

                                    

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


                              بسم الله الرحمن الرحيم

                                         مقدمة

 

البحث في كتابات الجاحظ يحتاج الى عظيم عناية و دقة فهم و يحتاج الى ان يتامل فيها المتامل ويطيل اللبث عندها  و الجاحظ بعد ذلك مؤسس للرمزية العربية حين نبه و دل على الرمزية في صراع الكلاب و الثور في كثير من  قصائد الجاهلية وكذلك القصائد الاموية .

 فهل كان بعيدا عن الرمز في كتاباته و بالاخص كتابه الحيوان الذي وقف البحث عنده ؟ أي هل كان واقفا مثلما وقف النقاد في زمانه ؟ ام ان له قدم سبق في الرؤية والذوق والابتكار، لعل الاجابة واضحة و لازمة فالرجل كان واعيا و هو يكتب و كان خبيرا و متمرسا في الكتابة و الادب و البيان .

و لقد قسمته الى مقدمة و تمهيد ومبحثين  تناول التمهيد الرمز والاسطورة و رمزية الحيوان في الفكر العالمي القديم وتناول المبحث الاول الجاحظ اول الرمزيين العرب وتناول المبحث الثاني الابعاد التي تنشأ منها والتي تدل عليها الرموز الحيوانية في نصوص الجاحظ

انني اعتذر سلفا عن العجالة التي كتب بها و كثرة المشاغل و بالرغم من ان سيدي و استاذي الدكتور سعيد عدنان قد تابعه شفاهيا مثلما تابع ما كتبه زملائي في الدرس , الا انني اقول ان ماورد فيه من اخطاء هي لي وحدي

واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

                       

 

 

 

                                                                   الباحث

 

 

 

 

 

                              تمهيد

                         الرمز والاسطورة

تعددت الاتجاهات و النظريات فيما يتعلق بتصور التراكيب الرمزية للاسطورة التي كان من بينها النظرية العقلية كما تمثلت عند كل من تيلور E.B.Taylor   و فريزير J . frazer   و عندهما بدت الاساطير تراكيب عقلية مؤسسة على مقدمات خاطئة و تبعا لهذه النظرية اعتبر العقل البدائي منطقيا بشكل جوهري , و الى جانب هذا الاتجاه , نجد النظرية التطورية الاجتماعية  , و قد عارض بريل فيها النظرية العقلية , و ذهب في تحليله  للوعي الاسطوري الى انه سابق على المنطق , و تتميز الرمزية الاسطورية بوصفها معينا لا ينضب من الرموز التي صاغها الانسان خصائص و سمات اصيلة.  و يمكن القول بان الرموز الاسطورية قد فسرت من خلال هذا الصراع الطبيعة الحية في تقبلها و ثوران ظواهرها , كما فسرت حقيقة الخير  و الشر , و التصورات المتعلقة بنشاة الكون . و قد ازكت طبيعة الانسان الاسطوري بما انطوت عليه من تركيب سحري انفعالي ,

 يجب ان نعترف بصعوبة الفصل بين الاسطورة و الدين  , و ان التطابق و التداخل بين الاسطورة و الدين , يرجعان الى النشأة و الظهور , حيث يمكن ان نلتمس الوحدة العينية التي انصهرت فيها الاسطورة و الدين و اللغة و الفنون , و التي اخذت تنحل تدريجيا الى اشكال ثقافية مستقلة . و ليس من شك في ان الرمزية تطالعنا في كثير من الطقوس و الشعائر التي تدور حول التكريس و التطهير و التحريم و اشكال الكفارات المتنوعة , كما تكشف عن نفسها في التصورات الخاصة بعبادة الطبيعة و تقديس مظاهرها . و في مقابل الانطولوجيا القديمة التي تمثلت في الرموز الدينية المشبعة بروح الاسطورة , تشخص الانطولوجيا المعاصرة في الفلسفة الحديثة . و لم يعد الاعتقاد في الالوهية و القوى غير المنظورة مناط اهتمام الانسان و مثار قلقه و تساؤله . ومن الجلي ان الرمز الاسطوري الى الطبيعة في الدين القديم , كان يعكس انسجام الانسان مع الكون و مشاركته اياه  . و يذهب بعض الفلاسفة و الدارسين في هذا الصدد الى ان الاسطورة ليست مقصورة على عالم الانسان القديم اذ قد وجدت في الاديان العليا ذاتها . (1)

اما الذين يرون في هذه الاديان ما يسمى بانتصار اللوجوس على الاسطورة فلا يخلو موقفهم من تناقض بين , تكشف عنه هذه الاديان التي ما زالت تنطوي على كل شيء من تلك الرموز .

ـــــــــــــــــــ

(1)ينظر: الرمز الشعري عند الصوفية/24 ـ 36

و من بين تلك الرموز المنصبغة بالخيال الاسطوري , ما جاء تبريرا لظروف البيئة و المناخ , ففي منطقة ما بين النهرين , اول البابليون هطول الامطار و اهتزاز الارض بالنبات بعد قحط و ظما شديدين , بتدخل الطائر العملاق الذي هبط لانقاذهم , فغطى السماء بسحب العاصفة الداجية التي انسابت من جناحيه , فالتهمت الثور السماوي الهائل الذي احرق المحاصيل بانفاسه الساخنة , اما الاساطير المصرية القديمة , فقد قدمت عددا من الرموز للسماء , حيث ظهرت في صورة بقرة , في نقوش و تصاوير الجدران و المعابد و التوابيت , و يبدو ان البقرة كانت من صور السماء منذ عصور فجر التاريخ , و لما كانت البقرة وفق اقدم النصوص في المحيط الاول , فلعل فكرة نهوضها من المحيط لتكون السماء , ان تكون اولا قد وجدت قبل ان تؤلف القصة الحالية و الصورة الرمزية الثانية زورق الشمس ,

و الصورة الرمزية الثالثة , سقف تحمله دعائم اربع يحرس كلا منها اله , و تقوم ارجل البقرة الاربع هنا مقام اعمدة السماء الاربعة . و لا جدال على حد ما يقول (( رودلف انتس )) في ان المصريين منذ بداية تاريخهم قد كانوا على علم بان لا سبيل الى فهم تصور السماء فهما مباشرا عن طريق العقل و التجربة الحسية , فكانوا يدركون انهم انما يستخدمون الرموز لجعلها ممكنة الفهم في نطاق الحدود الانسانية . (1)

و اننا لنظفر في اساطير مصر القديمة , (( بتصور خاص بالمحيط البدائي , حيث برز التل البدائي من الارض فوق سطح الماء , و هو يحمل اول كائن حي , و كان ذلك اما الثعبان الذي كان يعتبر الجسد الاولي لاي اله اصيل في العصور التاريخية , او انه كان الجعل .... و من تصورات  الكائن الحي الاول , الضفدعة التي صارت في اعقاب ذلك رمزا مسيحيا للبعث ) (2)

و قد وصف وندت Wundt  التابو بانه اقدم مجموعة قانونية غير مدونة , وانه يرجع الى عصر ما قبل الاديان , و قد كانت الطبيعة التابوية للحيوان , ترمز الى تحريم قتله او اكله , و يكون التابو من هذه الوجهة نواة الطوطمية , و ثم امثلة كثيرة توضح التحريمات المرتبطة بالطبيعة التابوية للحيوان , نجدها شائعة لدى العرب في الجاهلية .

 

ـــــــــــــــ

(1)ينظر:اساطير العالم القديم ،صموئيل كريمر ،ترجمة احمد عبد الحميد /17-19

(2) اساطير العالم القديم/25

 

 

و من هذه الطقوس التحريمية لديهم , ما ابطله الاسلام و شنع عليه . و في القران بعض ايات تشير الى هذه الشعائر , منها قوله في سورة المائدة ـ اية 103 : ((مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ )) و قوله في سورة الانعام ـ اية 138 ـ  139  :  ((وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ 138} وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ)) .

و شبيه بهذه التحريمات التابوية المرتبطة بالحيوان , ما نجده في العهد القديم خاصا باشكال الخطر و القيود التي فرضها اله موسى على الشعب اليهودي عندما كان يحيا حياة رعوية متنقلة .

و الذي يبدو من تتبع تلك الطقوس انها تشير بما فيها من دلالات , الى نمط من انماط الثقافة البدائية , يسوده طابع سحري , و تشوبه  نظرة تعاطفية تتناول الطبيعة باسرها على انها نسق روحي يؤثر و يتاثر بواسطة قوى خارقة غير منظورة .

و لقد كانت الاديان العليا اكثر فهما لطبيعة الرمز و وظيفته من الاديان البدائية و يبدو العهد القديم من هذه الوجهة زاخرا برموز وفيرة , نسوق منها رمزا ماخوذا من سفر التكوين .

الرمز قد ساقه فريزر Frazer  معتمدا على ما جاء في سفر التكوين من ان الرب امر ابراهيم قائلا : لتضح لي ببقرة عمرها ثلاث سنين و نعجة عمرها ثلاث سنين و يمامة و حمامة صغيرة . فاخذ ابراهيم البقرة و النعجة و الكبش , و شطر كلا منها الى شطرين , اما اليمامة و الحمامة فلم يشطرهما , فلما غربت الشمس , هنا اعلن الرب عهده لابراهيم .

و على تلك الواقعة علق فريزر بان الرب استجاب للتقاليد الشرعية التي كان يتطلبها قانون العبريين القدماء للتصديق على العهد . كان من عادة الطرفين المتعاهدين ان يذبحوا بقرة و يشطروها الى شطرين ليمروا بينهما .

و قد ذكر فريزر ان هناك نظريتين تفسران هذا المعنى الرمزي , احدهما نظرية الجزاء , و الاخرى تعرف بنظرية السر المقدس او نظرية التطهير . (1)

 

ـــــــــــــــــ

(1)ينظر الغصن الذهبي/ ترجم باشراف احمد ابو زيد ط1 1971 ،1/89

و ذبح الضحية بناء على نظرية الجزاء , ثم تقطيعها الى اجزاء , يرمز الى الجزاء الذي سيحل بمن سيخون العهد او يحنث باليمين , حيث يكون مصيره مصير الحيوان المقتول .

فذبح الحيوان رمز الى ذبح الحانث باليمين , و قد اشار فريزير بنظريته التطهير او السر المقدس , حيث افتراض ان مرور الجانبين بين اجزاء الحيوان المذبوح , يرمز الى انتمائهم الى حياة  الحيوان الروحية (1)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

   

 

 

ـــــــــــــــــ

(1)ينظر الغصن الذهبي/ 1/83

 

                        المبحث الاول

                   الجاحظ اول الرمزيين العرب

 

الجاحظ علم متفرد بين معاصريه وامام فذ من ائمة البيان لا يدانيه احد في اتقاد ذهنه واتساع ثقافته ورجاحة عقله وجمال بيانه وسعة حفظه والحيوان كتاب الجاحظ الاكبر وموسوعتة الشاملة وهو اجل كتبه شانا ويعد صورة بارزة لثقافة عصره المتشعبة فقد حوى طائفة صالحة من المعارف الطبيعية و المسائل الفلسفية وهو يملي على الناس روح عصره وما كان فيه من ادب وبجواره متعة الفوائد الادبية و المسائل الدينية واجمل النوادر والحكايات

ولما كان الغرض من تاليف الجاحظ لهذا الكتاب هو بيان ما في الحيوان من الحجج على حكمة الله و قدرته الباهرة , فقد رجع الى القران و فيه الكثير عن الحيوان و بعض سوره سميت باسماء بعض الحيوانات و منها البقرة و النحل و العنكبوت و النمل و الانعام و الفيل , و قد استعان الجاحظ بالشعر العربي ايضا لان العرب كما يقول قد ثقفوا معرفة الحيوان و برعوا في ذلك براعة فائقة , و قل معنى سمع في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة و المتكلمين الا وهو , او قريب منه في اشعار العرب (1).

ان قدرة الجاحظ على صهر هذه المعلومات و بثها بهذا البيان الذي لا يزال يطرب له من اهل زماننا و يمتعهم بالمتعة التي تلقفها به اهل القرن الثاني الهجري , فالمعنى ما يزال مشحونا بالطاقة و الحيوية و الجملة عنده جوهرة لا تزيدها الايام الا بريقا و توهجا و لمعانا .

و كان الجاحظ ممنوعا , بل قضى وطرا من حياته متخفيا , و لابد له ان يكتب و ان يقول و ان يمرر ما يريد من فوق رؤوس رقباء زمانه و يحافظ على عنقه في لعبة اتقنها منذ صباه , و لانه كاتب خطير فقد كتب ما يريده برموز و شفرات دون صراخ و دون ان يقطع حبله

 

 

 

ــــــــــــــــــــ

(1) الحيوان 3/ 83 و ينظر ابو عثمان الجاحظ لمحمد عبد المنعم خفاجي   ص321 , مصادر التراث العربي د. عمر الدقاق م 86

 

مع الخصوم , و استطاع ان يفخر بالعرب على غيرهم في عز دولة  ال ساسان و قسوتها , ( و لا تستطيع اليوم الا ان تعجب من تلك المناظرات البريئة بين ( الكلب و الديك ) التي ملا بها كتاب الحيوان فاذا اعدت قرأتها و عينيك على ما بين السطور و ليس على السطور نفسها و جدت نصا ادبيا جادا يغوص في اعماق السياسة و يفاخر بين الاجناس و القصائد و الثقافات و يحتاط لنفسه  و سلامته فيضع تلك المصائب الناطقة الكفيلة بقطع الالسنة و الارزاق و الاعناق في ارق الاساليب و اكثرها جاذبية و بعيدا عن الشبهات ) (2)

و المناظرة بين صاحب الكلب و صاحب الديك اطول مناظرة في مجالها شغلت نحو مجلد و نصف من كتاب الحيوان و قد بين غرضها انه بيان حكمة الله و تدبيره في الكلب و الديك و ان يفكر فيهما و يعتبر بهما و يسبح الله عندهما (3) الا ان الاخرين قالوا انها لبيان عادات العرب و العجم و انها مناظرة ( بين الشعوبية و العرب اما الشعوبية فرمزهم الديك الذي يرمز في قراهم و مدنهم و اما العرب فرمزهم الكلب الذي لا يفارقهم في منازلهم و مراعيهم و الشعوبية التي تستقذر الكلب و حيوانات الصحراء مما جعل الجاحظ يعقد في حيوانه مناظرة اخرى بين البعير و الفيل فدائما الشعوبية تتحرش بالعرب و تهجن حياتها و كل ما اتصل بها , و كان الجاحظ اقام نفسه رصدا لهم و من الممكن ان يكون من هذا الباب كتابه الزرع و النخيل الذي اهداه الى ابراهيم بن العباس الصولي فالزرع رمز الحضارة و الشعوبية و النخيل رمز العرب و البادية و قد هاجم الجاحظ الشعوبية مرارا في كتابه البيان و التبيين اذ افرد لها فصلا طويلا في كتابات اخرى له متعددة عن العرب و العجم ... فهو الذي اقام تلك المناظرة التي ظاهرها كلب و ديك و باطنها عرب و شعوبية و كان يتعصب للعروبة في اعماقه مما جعله ينقض عن الكلب كل مذامه و مثالبه و يضفي عليه كثيرا من المحامد و المحاسن في حماسة بالغة ) (4)

ولكن الجاحظ لا يرى هذا الراي فهو يصرح قائلا ( و ليس هذا الكتاب ( يرحمك الله ) في تفضيل العجم على العرب و عدنان علي قحطان ) (5)

ــــــ

( 2) اباء الحداثة العربية , مدخل الى عوالم الجاحظ و الحلاج و التوحيدي , محي الدين اللاذقاني / 20 .

( 3) ينظر : الحيوان 1 / 222

( 4) تاريخ الادب العربي  العصر العباسي الثاني / د . شوقي ضيف / 598 ـ 603 .

( 5) الحيوان 7/7 . 

 

فهل كان في هذا القول يريد ان يطرد اعين الرقباء و المترصدين , ام انه حقيقة ما سعى اليه في جميع ما سعى اليه في جميع ما كتب من نبذ العصبية و التي يقول هلك بها عالم بعد عالم و ان الحمية لا تبقي دينا الا افسدته و لا دنيا الا اهلكتها (1)

ان الصورة الرائعة التي رسمها الجاحظ لابي المبارك الصابي و هو يتغزل و يولع بالجمال و يسمع نغمة المراة فظن ان كبده قد ذابت و يظن مرة اخرى انها قد انصدعت  و يظن ثالثة ان عقله قد اختلس و بالرغم من من انه كان خصيا فهو يحن الى جمال المراة و سحرها الا ان محمد عبد المنعم خفاجي يرى ان  الجاحظ هنا كان يصور حرمانه هو في هذه الصور . (3).

و لا اظن انه اصاب في هذا الراي فالجاحظ كان قد ( تسرى بالمقدار الذي اسعفه عليه ماله و اكمل الباقي بما كان يجود به عليه الاصدقاء من الجواري و قد جعلته هذه البحبوحة الجنسية الشرعية يعزف عن الزواج و عن تكوين اسرة تقليدية ) (4)

و اذا كانت السياسة  فيها من الخطر ما يخاف الجاحظ و غير الجاحظ الى ان يقول رمزا و يكتم سرا و لا يقول ما يريد فان الجاحظ كان متحرر العقل من ان يتحرج في ما ينقله فيقول دون خوف ( و بعض الناس اذا انتهى الى ذكر العورات ارتدع و اظهر التقزز و استعمل باب التورع , و اكثر من تجده كذلك فانما هو رجل ليس معه من العفاف و الكرم و النبل و الوقار الا بقدر هذا الشكل من التصنع و لم يكشف قط صاحب رياء و نفاق الا عن لؤم مستفحل و نذالة متمكنة  ) (2)

و نخلص الى ان الجاحظ ربما كان يكتب برمزية ليتحاش رقباء السياسة , الا انه لم يكن يتحرج ان يقول كل ما يشتهي من قول دون خوف او وجل , و اظن انه كان واعيا في نقده مثلما كان واعيا في كتاباته وادبه و لهذا فان الجاحظ اول ناقد عربي ( يسجل ما للحيوان من قيمة رمزية في احساس الشاعر بمعاني الحياة و الموت ) (5) و ( اقدم من تنبه على ــــــــ

1.    ينظر : البيان و التبيين 3 / 12

2.    الحيوان 3 / 109

3.    ينظر : ابو عثمان الجاحظ / 211 و الحيوان 1 / 125 ـ 128

4.    اباء الحداثة العربية / 37

5.    شعر الرثاء في العصر الجاهلي . د . مصطفى الشورى / 65

 

جانب رئيس من هذه الحقيقة [ حقيقة الدلالة الرمزية ] حيث رصد في النماذج التي تاملها ان قصة الثور تنتهي بمقتل الثور اذا كانت القصيدة في الرثاء و تنتهي بنجاته في سائر الاغراض ) (11) .

لقد وقف الشاعر الجاحظ الناقد موقفا ينم عن قدرة فائقة في التحليل فقد تكررت صورة الثور و الكلاب في كل رحلة و تكررت الرحلة في كل قصيدة طللية و تتكرر صورة الكلاب التي تهاجم الثور و كان لابد ان يكتب فيها النصر لاحد الطرفين , و لعل الناقد القديم لم ير فيها الا وصفا مباشرا و ان هذا لم يكن الا تقليدا للاوائل , و لكن الجاحظ يكشف عن ان هذه المعركة ذات دلالية رمزية تتصل اتصالا مباشرا ببنية النص و يبدو ذلك واضحا من قوله اذا كان الشعر مرثية او موعظة او مديحا (12) يقول الجاحظ :

( من عادة الشعراء اذا الشعر مرثية او موعظة , ان تكون الكلاب التي تقتل بقر الوحش , و اذا كان الشعر مديحا و قال كأن ناقتي بقرة من صفاتها كذا , ان تكون الكلاب هي المقتولة , ليس على ان ذلك حكاية عن قصة بعينها , ولكن الثيران ربما جرحت الكلاب و ربما قتلتها واما في أكثر ذلك فانها تكون هي المصابة و الكلاب هي السالمة و الظافرة و صاحبها الغانم ) (3)

ان هذا النص يشكل اعلانا عن ولادة الرمزية العربية في النقد التطبيقي و هذا الوعي النقدي الذي يخرج عن اسار القراءات التقليدية للناقد المعاصر للجاحظ يدفع الى ان ننظر في التوظيف للدلالة الرمزية للحيوان في ادب الجاحظ و بالاخص في كتابه الحيوان وهو ما يقف عنده البحث .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11)قراءة معاصرة في نصوص من التراث الشعري د . محمود الجادر / 43 .

(12) ينظر : بنية القصيدة الجاهلية د . علي مراشدة / 194

(13) الحيوان 1 / 20 .

 

 

 

 

 

 

 

                        المبحث الثاني

                    البعد الرمزي للحيوان

لما كان الجاحظ يملي على الناس روح عصره فهو ينقل ما يتعارفونه بينهم ثم يطرح رايه ان كان له ذلك الراي , فهو يشير للدلالة الرمزية للحيوان عند العرب فيقول ( والعرب انما كانت تسمي بكلب و حمار و حجر و جعل حنظلة و قرد على التفاؤل بذلك و كان الرجل اذا ولد له ذكر خرج يتعرض لزجر الطير و الفال فان سمع انسانا يقول حجرا او راى حجرا سمى ابنه به و تفاءل فيه الشدة و الصلابة والبقاء و الصبر و انه يحطم ما لقى و كذلك ان سمع انسانا يقول ذئبا او راى ذئبا تاول فيه الفطنة و الخبث و المكر و الكسب و ان كان حمارا تاول فيه طول العمر و الوقاحة و القوة و الجلد و ان كان كلبا تاول فيه الحراسة و اليقظة و بعد الصوت و الكسب و غير ذلك )(1)

و مثلما يتخيرون لابنائهم اسماء ذات دلالة رمزية فانهم يتخيرون لحيواناتهم اسماء ذات دلالة رمزية ايضا , الا ان البعض لا يحسن الاختيار ( قال الشاعر و رأى رجلا اسمه وثاب و اسم كلبه عمرو فقال :

                      و لو هيأ له الله                        من التوفيق اسبابا

                    لسمى نفسه عمرا                     و سمى الكلب وثابا ) (2)

و لطول التجربة الانسانية مع الحيوان صار لكل جنس من الحيوان صفة يعرف بها و صار الانسان يقرن بتلك الصفة بذلك الجنس فيقال ( اجرا من الليث و اجبن من الصقر و اسخى من لافظة و اصبر على الهون من كلب واحذر من عقعق و ازهى من غراب و اصنع من سرقة و اظلم من حية و اغدر من الذئب و اخبث من ذئب خمر و اشدعداوة من عقرب و اروغ من ثعلب و احمق من حبارى و اهدى من قطاة و اكذب من فاختة و الام من كلب على جيفة و اجمع من ذرة و اضل من حمار اهلي و اعق من ضب و ابر من هرة و انفر من ظليم و اضل من ورل و اضل من ضب و اضل من الحية ) (3)

و لقد وقف البحث عند الابعاد الرمزية التي ظهرت في نصوصية و التي نجد ثلاثة ابعاد رئيسة مكتنزة بالدلالات و متداخلة و هي :  

ـــــــــ

الحيوان 1 / 324 .

الحيوان 2 / 194

الحيوان 1 / 220ـ 221 .

           

 

1ـ البعد الاسطوري : و فيه تمتزج الحقيقة التاريخية بالخيال و الخرافة و يكون للاديب مجال رحب لتوظيف المتن الاسطوري ويمنح دلالاته الرمزية الى النص الموظف فيه و لعل الجاحظ يسفه احيانا بعض هذه الاساطير و يضعف بعضها احيانا اخر .

 

2ـ البعد الديني : و فيه يوظف الجاحظ الامام المعتزلي الثقافة الاسلامية و الدينية و التاريخية في نصوصه و يبث الكثير من معتقداته من خلال ادبه و مثلما وقف من الاساطير كان له موقف من اراء المفسرين الذين جانبوا الصواب فيسخر و يهزأ و ينكر ما يخالف العقل .

 

3ـ البعد الاجتماعي : و فيه يوظف ما تعارف عليه المجتمع من رؤية للحيوان بامثالهم و احاديثهم و فيه ينهل من حياة اجتماعية بصرية تشتبك فيها العروق من عرب و فرس و زنوج و افارقة و لان البصرة نشأت عجوزا  ناضجة مكتملة , تصطرع فيها العقائد و الافكار و كان الخوارج على اطرافها و فيها التشيع و الاعتزال و السنة و طوائف  الاديان الاخرى و اهل الشك و المجون و الزنادقة . (1) و فيها الترف و النعيم لدى الخاصة و الفقر و الشقاء لدى العامة فكثر الرقيق و الجواري وشاع الغناء و ذاع اللهو , و هذا كله انعكس في ادب الجاحظ فنرى انه اخذ في توظيفه في الرمز الحيواني فصار اكبر حجما من البعدين الاسطوري و الديني و هو ما سنقف عليه .

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــ

 

(1)   محاضرات الاستاذ الدكتور سعيد عدنان على طلبة الدكتوراه كلية التربية 13/12/2009 

 

 

 

1ـ البعد الاسطوري :

وضع الجاحظ يده على كنز من اساطير العرب من خلال ما وصل اليه من كتب فهو لا يترك كتابا وقع بيده الا استوفى  قراءته حتى انه كان يكتري دكاكين الوراقين و يبيت فيه للنظر (1)

و من هذه الاساطير التي نجدها في كتاب الحيوان اسطورة اولاد السعلاة ( و للناس في هذا الضرب ضروب من الدعوى و علماء السوء يظهرون تجويزها و تحقيقها كالذي يدعون من اولاد السعالى من الناس كما ذكروا عن عمرو بن يربوع و كما يروي ابو زيد النحوي عن السعلاة التي اقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم فلما رات برقا يلمع من شق بلاد السعالى حنت و طارت اليهم ) (2) و قريب من هذا ما ذكرته العرب من اسطورة ان جرهما كان من نتاج ما بين الملائكة و بنات ادم و كان الملك من الملائكة اذا عصى ربه اهبطه في صورة رجل كما صنع بهاروت و ماروت (3)

و من الاساطير القريبة مما مضى ما يقوله الناس في الابل ان فيها عرقا من سفاد الجن و ذهبوا الى الحديث انهم كرهوا الصلاة  في اعطان الابل لانها خلقت من اعنان الشياطين (4) ( و زعم ناس ان من الابل وحشيا و كذلك الخيل ... فزعموا ان تلك الابل تسكن ارض و بار لانها غير مسكونة ... و قال اخرون هذه الابل الوحشية هي الحوش و هي التي من بقايا ابل و بار فلما اهلكهم الله تعالى كما اهلك الامم مثل عاد و ثمود و العمالقة و طسم و جديس فبقيت ابلهم في اماكنها التي لا يطورها انسي , فان سقط الى تلك الجيزة بعض الخلعاء او بعض من اضل الطريق حثت الجن في وجهه فان الح خبلته ) (5)

و هكذا فان الابل الوحشية من بقايا الاقوام التي اهلكها الله و التي تحرسها الجن و اما الابل غير الوحشية فانها من سفاد الجن .

و من هذا التزاوج بين المخلوقات و الانسان ينقل الجاحظ اسطورة اخرى هي ( ان النسناس

ـــــــــــــ

1.    ينظر : معجم الادباء 16 / 75

2.    الحيوان 1/ 185

3.    ينظر : الحيوان 1 /187

4.    ينظر : الحيوان 1 / 152

5.    الحيوان 1 / 154

 

تركيب ما بين الشق و الانسان و يزعمون ان خلقا من وراء السد تركيب من النسناس و الناس و الشق و ياجوج و ماجوج و ذكروا عن الواق واق و الدوال باي انهم نتاج مابين بعض النبات و الحيوان ) (1)

التحميلات المرفقة

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 1996 مشاهدة
نشرت فى 13 يوليو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,624,836