الآثار المصرية في شعر شوقي ـ‏2‏ ـ
بقلم: فاروق شوشة
في الرابع والعشرين من مارس عام‏1910‏ زار الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت مصر ـ وهو جد الرئيس روزفلت الذي كان رئيسا لأمريكا في أثناء الحرب العالمية الثانية 0

 

 وخطب في الجامعة المصرية بدعوة من رئيسها الأمير أحمد فؤاد‏,‏ فأساء إلي مصر في حديثه‏,‏ وهاجم الاسلام‏.‏ وكان قد خطب قبل ذلك في السودان‏,‏ فأثني علي الحكم الانجليزي في مصر‏,‏ مخالفا بذلك تقاليد الحرية التي نادت بها أمريكا بعد تحررها من الاستعمار‏.‏ فرد عليه الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد بمقال تاريخي‏,‏ ثم انتهز أحمد شوقي فرصة زيارة روزفلت لمعابد أنس الوجود التي أطلق عليها معابد فيلة‏,‏ فأراد أن يعطيه درسا في احترام مصر والكشف عن عظمة تاريخها وآثارها‏,‏ وخاطبه بقصيدة مدوية ـ وهو الشاب صغير السن الذي يعمل موظفا في قصر الخديو ـ رئيسا لقلم الترجمة ـ ولابد له أن يراعي آداب الوظيفة وألا يشتط في مهاجمة ضيف الخديو وألا يسمعه ما لا يليق‏,‏ مخالفا نهج الحكومة التي لم ترفع صوتها بالاحتجاج علي ما قاله روزفلت‏.‏ وهي قصيدة كانت بالنسبة لي الوقفة الثانية مع شوقي واهتمامه بالآثار المصرية من ناحية‏,‏ واندفاعه في الابانة عن وطنيته واعتزازه بهذه الآثار باعتبارها تجسيدا لهذه الوطنية‏,‏ وهو يقول‏:‏
أيها المنتحي بأسوان دارا‏:‏ كالثريا‏,‏ تريد أن تنقضاـ اخلع النعل‏,‏ واخفض الطرف‏,‏ واخشع‏:‏ لا تحاول من آية الدهر غضا ـ قف بتلك القصور في اليم غرقي‏:‏ ممسكا بعضها من الذعر بعضاـ كعذاري أخفين في الماء بضا‏:‏ سابحات به‏,‏ وأبدين بضا ـ مشرفات علي الزوال وكانت‏:‏ مشرفات علي الكواكب نهضا ـ شاب من حولها الزمان وشابت‏:‏ وشباب الفنون مازال غضا ـ رب نقش كأنما نفض الصانع منه اليدين بالأمس نفضاـ ودهان كلامع الزيت‏,‏ مرت‏:‏ أعصر بالسراج والزيت وضا ـ وخطوط كأنها هدب ريم‏:‏ حسنت صنعة وطولا وعرضا ـ وضحايا تكاد تمشي وترعي‏:‏ لو أصابت من قدرة الله نبضا ـ ومحاريب كالبروج بنتها‏:‏ عزمات من عزمة الجن أمضي ـ شيدت بعضها الفراعين زلفي‏:‏ وبني البعض أجنب يترضي‏.‏
وأنا استأذن في توجيه الاهتمام إلي جانبين مهمين في هذه القصيدة‏,‏ أولهما‏:‏ امتلاء أبياتها الأولي بأفعال الأمر التي يخاطب بها ضيف البلاد العظيم الشأن‏,‏ عندما يقول له‏:‏ أخلع نعلك حتي لا تطأ هذا المكان المقدس عند المصريين‏,‏ واخفض طرفك وأنت تنظر إليه وتتأمله‏,‏ واخشع في نظرتك تقديرا لعظمته وخلوده‏,‏ وقف وشاهد هذه المعابد التي هي في حقيقتها قصور توشك أن تغرق في اليم‏,‏ واليم هو الاسم الذي أطلقه المصريون علي النيل فهو ليس نهرا عاديا‏,‏ ولكنه يم أي بحر شاسع‏,‏ وهي التسمية التي جاء بها القرآن الكريم في خطابه إلي أم موسي وهو طفل رضيع أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه أذي الفرعون حتي ينجو‏.‏
الجانب الثاني هو براعة شوقي التي لا تجاري في تصوير هذه المعابد والآثار وما امتلأت به من فنون بديعة‏:‏ نقشا ودهانا وخطا ورسما ونحتا وبناء وتصويرا‏,‏ وهي لوحة من لوحات شوقي المصور البارع الذي تجلت عبقرية ريشته الشعرية المماثلة لهدب الريم أي رمش الغزال الذي صوره في قصيدته‏.‏
وتمضي القصائد الجميلة بأبياتها المحكمة‏,‏ وكلما تقدمنا فيها خطوة‏,‏ هزتنا كلمات شوقي‏,‏ أمير شعراء العصر الحديث‏,‏ وهو يقول‏:‏
صنعة تدهش العقول وفن‏..‏ كان إتقانه علي القوم فرضا وشوقي يستعمل كلمة الفرض بالمعني الديني‏,‏ مثلما نقول الصلاة فرض والحج فرض والزكاة فرض‏,‏ فالذي أدهش العالم كله‏,‏ والعقول جميعا من إبداع المصريين في تشييد ما شيدوه كان نتيجة لأن تفانيهم في إنجازه كان بمثابة الفرض الديني الذي تنهض به الأرواح قبل الأجسام‏,‏ وتنجزه العزمات قبل الأيادي‏.‏
ثم يقول شوقي‏,‏ علي عادته في تلخيص المشهد الشعري الذي صوره‏,‏ فأبدع تصويره‏,‏ واستخلاص الحكمة الحية والعظة المستلهمة منه‏:‏ ياقصورا نظرتها وهي تقضي‏:‏ فسكبت الدموع والحق يقضي‏/‏ أنت سطر‏,‏ ومجد مصر كتاب‏:‏ كيف سام البلي كتابك فضا‏.‏
ولابد أن دموع شوقي علي هذه الآثار المصرية العظيمة الغارقة في مياه النيل‏,‏ والتي أوشكت علي السقوط والزوال‏,‏ فبعضها يتماسك ممسكا بالبعض الآخر‏,‏ هذه الدموع وهذا الاعزاز الكبير بمجد مصر ـ في صفحة ناصعة من صفحاته ـ كان وراء الصيحة العالمية التي قامت بها مصر في عهد عظيم وزراء ثقافتها الدكتور ثروت عكاشة وبمساعدة اليونسكو‏,‏ لانقاذ هذه الآثار‏,‏ ورفعها من الماء‏,‏ وإعادة تشييدها من جديد علي الهضبة بمنحي من مياه النهر‏,‏ ولسان شوقي ينطلق بيته الجميل الذي يجب أن يترنم به كل شاعر مصري ينبض قلبه بمحبة هذا الوطن‏:‏
وأنا المحتفي بتاريخ مصر‏:‏ من يصن مجد قومه صان عرضا‏.‏
وللحديث بقية‏...‏

 

المزيد من مقالات فاروق شوشة<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 254 مشاهدة
نشرت فى 11 يوليو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,686,969