العز بن عبد السلام وحقيقة التصوف
بقلم:د. أحمد محمود
قد يستنكر بعض القراء أن نسلك سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام( ت660 هـ ـ1261 م) في زمرة الصوفية, ناظرين إلي تجربته الروحية بوصفها النموذج الحسن للتصوف السني في القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي.
ربما لأن شهرته فقيها مجتهدا حجبت كثيرين عن رؤية الجانب الآخر في تكوينه الديني باعتباره متصوفا سالكا, أو ربما لأن الجهل بحقيقة التصوف في مفهومه الصحيح يجنح بخصوم الصوفية إلي إنكار صلة عالم فذ وفقيه مبرز مثل الشيخ العز بالتصوف وإخفاء هذا البعد الروحي عند ترجمته وبسط سيرة حياته.
والثابت أن العز ضرب في التصوف بسهم وافر معرفة وسلوكا, وروح التصوف سارية في مؤلفات العز لا يكاد يخطئها من رزق النظر في كتب التصوف, وألم بشيء من مباديء الصوفية وآدابهم, ولذلك قال تاج الدين السبكي صاحب كتاب( طبقات الشافعية) في ترجمة العز: وقد كانت للشيخ اليد الطولي في التصوف, وتصانيفه قاضية بذلك. فمن ذلك مثلا أن العز حاول علي طريقة الصوفية ـ أن يربط بين التكاليف الشرعية والغايات التي شرعت من أجلها, كما قرر أن علم الحقيقة أو التصوف هو السبيل إلي إصلاح القلوب, وأن حقائق التصوف الصحيح لا تناقض شيئا من مقولات الشريعة التي تعبدنا الله بها, فالشريعة كما يقول العز حافلة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال.... فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لجل الشرع, ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدق الشرع
علي أن تصوف العز قد بريء من آفات ثلاث لحقت الحركة الصوفية في عصور الضعف والانحطاط, وهي: العزلة, والجهل, والرياء. وهي الآفات التي أساءت إلي التصوف جملة, وأسهمت في تكريس الخصومة بين الفقهاء والصوفية, وقطع ما بين الفقه والتصوف من أواصر قربي كان وجودها ضروريا لتحقيق التناغم بين رسوم الشريعة الظاهرة وما تحمله من دلالات روحية عميقة, إذ التصوف ـ في مفهومه الصحيح ـ ثمرة الفقه وذروة تحقق العبد بأحكام الشريعة والتزامه بها.
لقد عاش العز واقع مجتمعه وأرقته هموم الأمة التي ينتمي إليها, وعرف عنه الحرص علي إعلان موقفه أو الجهر برأيه فيما يطرأ من قضايا ومشكلات سياسية أو دينية أو اجتماعية, سيما أن العلماء كانوا آنذاك هم قادة الرأي العام ولسان الأمة في التعبير عن مطالبها وآمالها, ومن ثم كان اعتزال العالم مجتمعه وإهمال النظر في شئونه ومشكلاته خيانة لأمانة العلم وإهدارا لمعناه وقيمته. لقد أصر العز علي بيع المماليك لصالح بيت مال المسلمين,( لأن حكم الرق مستصعب عليهم, وبالتالي فلا يجوز لهم بيع ولا شراء ولا زواج, لنقص أهليتهم). وقد باع العز المماليك بنفسه, فاشتراهم الملك الصالح نجم الدين أيوب ثم أعتقهم فصاروا أحرارا, وأنفق العز المال في مصالح المسلمين. وأنكر العز مبايعة شجرة الدر بالسلطنة, فقد كان يناقض ولاية المرأة ولا يسيغ مباشرتها الحكم. وشارك العز في مراسم إحياء الخلافة العباسية بالقاهرة سنة659 هـ, بل كان كما يذكر المؤرخون المشار إليه في مجلس المبايعة. وقد رفض العز فرض ضريبة إضافية علي المصريين لتدبير احتياجات الجيش الذي خرج لقتال المغول إلا بعد أن يقدم الأمراء ما يكنزونه من أموال وثروات حتي يستوا مع عموم الناس, فما استطاع أحد مخالفته. وكان الظاهر بيبرس يعرف للعز فضله ومكانته ولا يخالف شيئا مما يشير به حتي إنه قال يوم توفي العز: اليوم استقر أمري في الملك, فلو قال هذا الشيخ للناس: اخرجوا عليه, لانتزع الملك مني.
إن تجربة العز التي أجملنا بعض ملامحها تدعونا إلي إنكار ثنائية: الفقه/ التصوف وإعادة النظر في مبررات وجودها, تلك الثنائية البغيضة التي أسهمت مع ثنائيات أخري حفل بها الفكر الإسلامي في تفتيت وحدة الأمة دينيا وفكريا, وتحويلها إلي شراذم متنازعة دأبت علي تبادل الاتهامات بالبدعة تارة وبالمروق عن الشريعة وإهدار مقولاتها تارة أخري. مع أن الجمع بين الفقه والتصوف يمثل الشريعة في توافقها وانسجامها, فمدار الفقه علي استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المختلفة وتحديد الضوابط والشروط الحاكمة لها, علي وجه الامتثال والاجزاء, أما التصوف فيعني بالنظر في رسوم الشريعة وأحكامها نظرا يتجاوز المعرفة المجردة إلي المعرفة مقرونة بالعمل والإخلاص, ومحاولة استيحاء ما تحمله تلك الرسوم والأحكام من دلالات روحية ترضي وجدان المسلم وتشبع عاطفته الدينية المشبوبة.
ساحة النقاش