نسبية القرب والبعد من الآدمي‏!‏
بقلم: رجائى عطية
القرب والبعد كلاهما نسبي يختلف من ظرف إلي آخر‏,‏ ومن نظرة إلي أخري‏,‏ فما يعد قريبا في حال أو حين أو ظرف ما‏,‏ قد يعتبر بعيدا في حين أو ظرف حال آخر‏..‏ والعكس‏.‏

 

ولكن القرب والبعد اللذين أعنيهما بالنسبة للآدمي‏,‏ هما القرب أو البعد المادي بالمقياس الحسي‏,‏ ولا مجال للقرب أو البعد إلي الآدمي إلا بالنسبة للحي‏,‏ لأن القرب والبعد وصف لعلاقة شخصية ما بين آدمي حي وما يوصف بأنه قريب منه أو بعيد عنه‏,‏ فالقريب إلي الآدمي الحي هو القريب منه حسيا‏,‏ مكانا أو زمانا‏,‏ وكذلك البعيد عنه‏..‏ أما من فارق الحياة‏,‏ أو ما انصرم من حوادث الماضي‏,‏ أو متوقعات المستقبل‏,‏ فإن القرب أو البعد لا ينسب إلي أي منهما إلا علي سبيل المجاز‏,‏ فصفحة حياة الآدمي تطوي برحيله عن الدنيا‏,‏ وما حدث وانصرم في الماضي لم يكن محل مشاهدة عينية من الحاضر‏,‏ أما المستقبل فمن المحال أن يكون محلا لمشاهدة يعاينها أحد قبل حدوثها‏,‏ لذلك فإن القرب أو البعد بالنسبة لمن فارق الحياة‏,‏ أو انصرم من الحوادث‏,‏ أو متوقعات وحوادث المستقبل‏,‏ لا يكون إلا إضافة مجازية لمعني القرب أو البعد‏,‏ تستعمل باطراد في التعبير عن الآراء والأفكار والتصورات والنظريات والعلوم والآداب والفنون‏..‏ سندها النظر والتأمل والمقارنة من وعي عقل وإرادة وميول وذاكرة ومخيلة ولغة لمفكر أو كاتب معين‏,‏ أو عالم أو أديب أو فنان معين‏,‏ وقد ساعدت تلك الإضافة المجازية علي الاتساع الهائل المشاهد الآن في تصورات الإنسان ومعارفه ومعلوماته ولغاته وإمكاناته المادية والمعنوية‏.‏ كما ساعدت علي الاتساع الهائل المشاهد الآن في مصدقاته وخيالاته وأوهامه وأحلامه ومجازفاته وشطحاته‏,‏ ساعدته في الوقت نفسه علي انصرافه الهائل عن الالتفات لداخله‏,‏ وخطاب أعماقه وروحه‏,‏ ودفعته إلي الانكباب شبه الكامل علي خارجه كما يتوهمه‏,‏ وذلك بقدر ما يسمح له به خضم البحر الذي يغرقه بالدعوات والادعاءات والحملات والخصومات والانقسامات وتبادل الحمد والذم والتصويب والتخطئة والإنكار والثقة والاسترابة‏,‏ بحيث يمكن أن نزعم أن الإيمان الفردي الحديث قد صار أكثر احتفالا وامتلاء بالأوهام‏,‏ واعتمادا علي الاحتمالات‏,‏ وتعليقا لمصائره علي من لا يعرف ولا يدري‏,‏ وعلي من لا قبل له بمراقبته ووقفه‏,‏ فضلا عن ردعه‏,‏ وصار الآدمي أكثر تعرضا لمفاجآت شاملة جارفة‏,‏ بالقياس لمن سبقه إلي الدنيا من الآدميين علي قلة ما كان لديهم من المعارف والإمكانات الفردية والجماعية‏!‏
وما يجري داخلنا علي قربه الشديد ـ منا مكانا وزماناـ ليس واضحا لوعينا‏,‏ ولا هو موضوعا مباشرا لإدراكنا‏,‏ ذلك لأنه بطبيعته غير مزود بصور ذهنية مصدرها حواسنا العاملة مع المحيط الخارجي‏,‏ وما نشعر به داخلنا غير الانفعالات والعواطف مما نسميه الآلام والاضطرابات وأنواع العجز‏,‏ أو ما نسميه بالعافية والراحة والاتزان‏,‏ هذا كله لا يفارقه الغموض قط‏,‏ ويصعب علينا تذكره إذا فارقناه‏,‏ وقرب الجنين مثلا في بطن حاملته تحس به الأم الحامل إحساسا قويا خاصا بها‏,‏ لكنها لا تستطيع أن تصفه‏,‏ ولا يشاركها فيه أحد‏,‏ لأن أحداثه وتطوراته لا تمر علي ذاكرتها الواعية قط بعد انتهاء حملها أو قبله‏,‏ إلا بقدر ما تمر عليها هي طوارئ الألم‏,‏ واطراد العافية‏,‏ وفي الأحلام قد تترجم المخيلة خلال نوم الوعي بعض ما يجري داخلنا من ذلك إلي صور قريبة غير معقولة أو مفهومة‏,‏ مدفوعة بضغط إحساسنا هذا الغامض الذي أشرنا إليه‏.‏
وكما يكتنف الغموض إحساسنا هذا بما يجري داخلنا وألصق شيء بنا وأقرب شيء إلينا‏,‏ فإن الخفاء التام بالنسبة لنا يبتلع كل ما يجاوز وعي حواسنا وحساباتنا‏,‏ أي معظم ما علي الأرض أو في باطنها‏,‏ وكذا مطويات ماضيها‏,‏ واحتمالات مستقبلها‏,‏ وكل ما في الكون الأعظم الذي لا تعدو الأرض أن تكون مجرد ذرة فيه‏,‏ أو أصغر من ذرة‏.‏
إننا نحتاج إلي المعرفة في كل عصر لنتخلص فيها وبها من الحيرة والقلق والشك‏,‏ وإذا تصاعدت هذه الحيرة أو القلق أو الشك صار الاستمرار في حياة الآدميين أو توالدهم صعبا‏,‏ واحتاجوا من ثم إلي المعرفة ليطمئنوا بها ويهدأوا وينصرفوا بهمة لاستعمال وممارسة حياتهم وتنميتها خلال الزمن المتاح لهم ما بقوا علي هذه الأرض‏,‏ وهذه المعرفة التي نحصلها أو نسلم بها قد تعوزها الصحة أو الدقة‏,‏ لكن يشترط فيها أن تحقق لدينا جانبا من الاطمئنان لها‏,‏ أي لتشجيعنا وتدفقنا في الحياة بهمة وعزم‏,‏ ولأن نرتقي ونرقيها بإخلاص ما استطعنا‏.‏
وما نحتاج إليه من المعرفة يختلف بالضرورة نوعا وقدرا باختلاف الأزمنة والأمكنة والظروف‏,‏ لأن المعرفة لا تطلب لذاتها‏,‏ وإنما لخدمة الآدميين الذين يتداولونها وتتفق مع أحوالهم وعصرهم‏,‏ وتنمي وتزيد قدراتهم علي التعامل مع ما يصادفهم ويعرض لهم في زمنهم‏,‏ فالمعرفة المقبولة في عصر أو في حالة لدي سواد الناس‏,‏ قد تصبح غير مقبولة لأناس آخرين‏,‏ أو في عصر آخر‏,‏ أو في ظروف أخري‏,‏ لأن أحوال الناس بعامة تتغير وتتطور من عصر لعصر‏,‏ مع سير الحياة الذي لا يتوقف‏,‏ والمعرفة التي لم تعد مقنعة لسواد الناس تفقد قيمتها عندهم‏,‏ وينفضون يدهم منها‏,‏ ولا يعود لوجودها بينهم قوة وقيمة‏,‏ مع ذلك فمثل هذه المعرفة تزيد‏,‏ مع ما يعترضهم ويصادفهم‏,‏ في تفاقم الحيرة والقلق لديهم‏,‏ وتفتح الطريق لانتشار التشيع والخلاف والفرقة‏,‏ واعتياد ذلك والارتزاق منه واحترافه‏,‏ وتدفع إلي صرف الجهود والأفراد والأموال في الصراعات والفتن التي لا تبالي بهلاك الأنفس‏,‏ أو تعطيل المرافق‏,‏ أو خراب العمار في سبيل الثأر من فريق‏,‏ أو القضاء علي فئة‏,‏ أو إذلال طائقة‏,‏ أو كسر شوكة أخري‏,‏ إذ في الفتن تنقلب الرؤي والمعايير والموازين‏,‏ ويصير القريب جدا بعيدا جدا‏,‏ والخيال المحال ممكنا‏,‏ والممكن المألوف محال المحال‏,‏ وتنبهم الرؤية‏,‏ ويحل العماء الضرير‏,‏ ويهون الموت لكثرة وقوعه بلا داع‏,‏ ويفقد مع كثرته وتفاهة أسبابه‏,‏ يفقد وقاره ووقعه أو إيقاعه‏,‏ كما تتدلي وتتدني قيمة الحياة إلي الحضيض‏,‏ ويرخص الأحياء حتي لا يساوون شيئا في عين المهاجم‏,‏ أو المنتقم‏,‏ أو مطلق المدفع‏,‏ أو ملقي القنبلة‏,‏ أو مدبر الانفجار لا يرتفع إلا صراخ الألم أو الضياع‏,‏ وصياح المسلحين‏,‏ وصخب زعمائهم وسخطهم‏,‏ واتهاماتهم لخصومهم وتعصبهم‏,‏ وعبارات هذا التعصب المريض الذي لا يكاد يهدأ‏!!!‏
ولو تأملنا للاحظنا أن قرب الآدمي من سواه لا ينطوي فقط علي محض الاقتراب من شخص أو شيء مادي‏,‏ أو إمكان الوصول إليه‏,‏ وإنما ينطوي أيضا علي مضمون عاطفي مهم جدا في حياة البشر‏,‏ هذا المضمون هو تقرير وإقرار صلة محبة وود من جانب الآدمي لغيره‏,‏ أو من جانب الغير إليه‏,‏ أو إيجاد أو إنشاء صلة تبعية يصحبها ولاء من جانبه للغير‏,‏ أو من جانب الغير إليه‏,‏ وهذه وتلك أساسها اعتقاد واعتياد وسلوك‏,‏ وثباتها علي ذلك مع متانة الاعتقاد‏,‏ واطراد السلوك‏,‏ وبقاء الاعتياد‏,‏ وقد يتزعزع الثبات كما قد يتغير السلوك والاعتياد تبعا لتغير الأحوال داخلنا وخارجنا‏,‏ وهذا في طبعنا أو ناموسنا لا مفر منه‏,‏ قد نوفق إلي تلطيفه فقط‏,‏ لكن يستحيل علينا إيقافه كلية مهما تكلفنا وتعمدنا وبذلنا من الإرادة والتصميم والصبر والمثابرة‏!‏
علي أن البعد ليس بالضبط عكس القرب‏,‏ لأن عواطفنا الطبيعية لا تنشغل ودا ونقصا وأملا وخوفا بالبعيد النائي مكانا أو زمانا‏,‏ فهذا البعيد يكاد يرادف في نظرنا المعدوم أو غير الموجود‏,‏ ولابد من قدر من الاقتراب لكي تتحرك عواطفنا وتشعر بما تحبه وتقبله أو تبغضه وتخافه‏,‏ وتحاول إبعاده ما استطاعت‏!‏

[email protected]
www.ragaiattia.com 

 

المزيد من مقالات رجائى عطية<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 167 مشاهدة
نشرت فى 8 يوليو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,597,761