بقلم: د. سليمان عبد المنعم
ثمة سؤال جدير بالنقاش حول معني استقلال الجامعة كأحد شروط النهوض بالتعليم الجامعي في مصر. فاستقلالية الجامعة لا تعني مطلقا استقلالها عن الدولة.
بل إن الجامعات الحكومية تبدو من هذا المنظور أكثر استقلالا من معظم الجامعات الخاصة التي تدور في فلك عدد محدود من الأشخاص. ولهذا فنحن نحتاج إلي توضيح وضبط مصطلح استقلال الجامعة لكي لا يفهم علي غير مقصوده فيفوت علينا فرصة كبيرة لتطوير التعليم الجامعي وتحديث مؤسساته. ولكن من الضروري قبل الحديث عن استقلال الجامعة أن نعرف واقع التعليم الجامعي في مصر الذي توجد فيه اليوم أربعة نماذج من الجامعات: حكومية وخاصة وأهلية( لم نتعرف عليها بما فيه الكفاية بعد) وأجنبية.
لدينا أولا جامعات حكومية تنشئها وتنفق عليها الدولة مقابل رسوم رمزية يدفعها الطلاب. وهناك ثانيا جامعات خاصة يؤسسها أفراد كمشروعات استثمارية تقدم خدمة تعليمية للأفراد وتحقق الربح لأصحابها. ثم هناك ثالثا جامعات أهلية تعتمد في تمويلها علي تخصيص وقفيات مالية أو علي تبرعات الأفراد والمؤسسات تقدم خدمة تعليمية من دون أن تستهدف تحقيق الربح. وما زلنا في مصر نتلمس الخطي علي استحياء لإنشاء مثل هذه الجامعات علي الرغم من انتشارها في العالم كله مثل جامعة هارفارد التي تصل وقفيتها الي نحو40 مليار دولار وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية التي أنشئت حديثا, والتي يقال إن وقفيتها تجاوزت الستين مليار دولار أمريكي ومعظم جامعات بلد مثل تركيا هي جامعات أهلية. وبالإضافة لذلك هناك رابعا وأخيرا جامعات أجنبية تتبع دولا أجنبية. ولعل الجامعة الأمريكية في القاهرة هي المثال الأقدم والأنجح في مصر لهذا النوع من الجامعات. وأضيف اليها جامعات انجليزية وألمانية وفرنسية ويابانية وكندية.. وهلم جرا..!
وحين نتأمل واقع التعليم الجامعي في مصر فإن التقييم يقودنا إلي رصد الملامح العامة التالية. التعليم الجامعي الحكومي يئن تحت وطاة أعداد غفيرة وغير معقولة من الطلاب, تتجاوز الإمكانات المتاحة لضمان حد أدني من الجودة التعليمية. يتم الدفع بهذه الأعداد كل عام دون رؤية واضحة لخطة التنمية في المجتمع ولا لضرورات ربط سياسة القبول في الجامعات بظروف ومتطلبات هذه التنمية. وكانت النتيجة المعروفة التي نحصدها اليوم بعد عقود طويلة من هذا التخطيط العشوائي أو اللا تخطيط علي الإطلاق هي التدني الملحوظ في مستوي خريجي التعليم الحكومي وبطالة متفاقمة في أوساط خريجي الجامعات. وما يقال عن برامج وهيئات ضمان الجودة التعليمية أمر يحتاج إلي مراجعة وتقييم. هذا أقل ما يمكن قوله وأكثره تهذيبا!
المفارقة الأكبر في فلسفة التعليم الجامعي الحكومي أنه لم يعد تعليما مجانيا في واقع الأمر, علي الأقل في جزء كبير منه. فقد اتجه الطلاب أمام ظواهر التكدس والازدحام واختناق المدرجات والقاعات وقلة عدد أعضاء هيئة التدريس( معدل عدد أعضاء هيئة التدريس نسبة إلي عدد الطلاب يقل في مصر ثلاث مرات عن المعدل في اليابان علي سبيل المثال) إلي اللجوء للدروس الخصوصية والاستغناء عن المحاضرات والمراجع العلمية بشراء مذكرات وملخصات تكاد تصبح في بعض الكليات والتخصصات الأداة الأساسية للتحصيل الدراسي. وبهذا فقد التعليم الجامعي الحكومي أهم ما كان يميزه وهو المجانية بعد أن فقد جزءا كبيرا من جودته وانضباطه.
وما يثير الدهشة والتساؤل هو التغير المستمر في السياسات الحكومية بتغير أشخاص وزراء التعليم العالي بحيث أصبح افتقاد الرؤية الواضحة وتناقض الإصلاحات التعليمية السمة الأبرز للمشهد التعليمي في مصر خلال السنوات العشرين الماضية. وبوسعي أن أزعم- بل أصرخ بأعلي الصوت- أنه لا حل لإنهاء لعبة الإصلاحات المتغيرة المتناقضة إلا بإنشاء مجلس وطني للتعليم في مصر ليس علي غرار المجلس الأعلي الحالي الذي يبدو شكليا بلا سلطات فعلية تمكنه من معالجة مكامن الخلل الحقيقي ووضع رؤية إصلاحية استراتيجية ذات مدي بعيد تكون قابلة للتنفيذ. هذا المجلس الوطني للتعليم يجب أن يكون ولو لمرحلة انتقالية تحت سلطة رئيس الدولة أو رئيس الحكومة لضمان قوة صلاحياته من ناحية وتأكيد رمزية الأهمية القصوي التي يجب أن تعطي لملف التعليم في مصر من ناحية اخري. كل ما نرجوه من مثل هذا المجلس الوطني للتعليم أمران بسيطان وكبيران في الوقت ذاته. الأمر الأول تحقيق الانسجام المفتقد حاليا وبشدة بين رؤي وخطط الوزارات المعنية بالتعليم الجامعي سواء في مدخلاته أم في مخرجاته وهي تتمثل بصفة أساسية في وزارات التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي والقوي العاملة والصناعة والتنمية والمالية من ناحية وبين سياسات ربط التعليم بخطة التنمية في الدولة من ناحية أخري. الأمر الثاني أن يكون لمثل هذا المجلس القدرة علي اتخاذ إصلاحات جذرية لمنظومة التعليم في مصر, وهي إصلاحات قد لا يقدر أو يرغب وزير تعليم أن يتخذها بمفرده لسبب أو لآخر.
ولعل علل التعليم الحكومي يمكن إيجازها في ثلاثة هي افتقاد وضوح الرؤية, وتدني الجودة التعليمية, وتواضع الموارد المالية اللازمة لعمليات الاصلاح والتطوير. ومن الصعب معالجة علة واحدة إذا أهملنا العلتين الأخريين. ربما يكون بيد الحكومة أن تمتلك رؤية واضحة للتعليم, وقد يمكنها بجهد كبير أن تعالج مسألة تدني الجودة التعليمية ولو علي المدي المتوسط لا القصير. لكن ستبقي الحكومة عاجزة عن تدبير الموارد المالية الكفيلة بتطوير التعليم وتحديث مؤسساته ما لم يكن هناك فكر خلاق يدبر لنا هذه الموارد. ولن يقدر لمثل هذا الفكر الخلاق أن ينجح ما لم يبدأ من استنهاض المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص ورجال الأعمال وخلق مفهوم المشاركة في التعليم والأفراد والمؤسسات عن طريق الاكتتاب مثلا. وبدون ذلك سنبقي نراوح مكاننا. وإذا كانت الحكومة قد خصصت للتعليم48 مليار جنيه في الموازنة الجديدة للدولة أي ما يعادل9 مليارا دولار أمريكي تقريبا فلنا أن نتخيل أن دولة مثل كوريا الجنوبية التي لا يتجاوز عدد السكان فيها50 مليون نسمة قد أنفقت علي التعليم( إحصاءات2005)4,4% من إجمالي الناتج المحلي أي ما يعادل54 مليار دولار أمريكي أي ستة اضعاف ما ينفق علي التعليم في مصر.
إن الفارق بين دولار واحد ننفقه علي التعليم مقابل تسعة دولارات تنفقها كوريا حين نأخذ بعين الاعتبار التفاوت في عدد السكان بين البلدين يكاد يكون هو الفارق ذاته بين جودة التعليم في مصر وجودة التعليم في كوريا الجنوبية التي ظهرت ثمان من جامعاتها كأفضل جامعات العالم في تصنيف قائمة شنغهاي. فالأمر المؤكد أن التمويل يظل قضية قضايا إصلاح التعليم في مصر.. فهل يعتبر استقلال الجامعة حلا لسؤال التمويل وغيره من أسئلة المستقبل التعليمي في مصر ؟
المزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش