إن الحمد لله نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونتوب إليه، ونعوذبالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله ؛ فلا مضل له، ومن يضلل ؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمد عبدالله ورسوله، أما بعد,,
فأول مسئوليات الإنسان هي : مسئوليته عن نفسه، ومن ثم فحري به أن يعنى بتربيتها وإصلاحها؛ لذا كان لابد من الحديث عن التربية الذاتية.
ماذا نعني بالتربية الذاتية ؟
عندما نتحدث عن التربية الذاتية, أو عن دور الشاب في تربية نفسه, فإننا نقصد بها: ذلك الجهد الذي يبذله الشاب من خلال أعماله الفردية، أو من خلال تفاعله مع برامج عامة, وجماعية ؛ لتربية نفسه, فهي تتمثل في شقين:
الأول : جهد فردي بحت يبذله الشاب لنفسه .
الثاني :جهد فردي يبذله من خلال تفاعله مع برامج عامة .
لماذا التربية الذاتية؟
عندما نطالب الشاب بأن يدرك مسئوليته عن تربية نفسه، وأن يقوم بجهد في تربية نفسه، فلماذا هذه المطالبة؟ وما المبررات, والمسوغات للحديث عن هذه التربية الذاتية؟ إننا نقول لكل شاب، بل نقول لكل مسلم صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى: لابد أن تتحمل مسئوليتك في تربية نفسك، فالذي يدفعنا لذلك مبررات عدة، منها:
أولاً: مبدأ المسئولية الفردية: إن المسلم بل كل إنسان في هذه الحياة مسئول مسئولية فردية, يقول- جل وعلا- : ] وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَل ْمِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَان َذَا قُرْبَى ( 18 ) [ سورة فاطر، ويقول سبحانه ] كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( 38 )[ سورة المدثر . و في نصوص القرآن الكريم, و السنة النبوية تجد التأكيد الواضح على أن كل فرد مسئول مسئولية خاصة عن نفسه، حتى ذاك الفرد الذي يتعرض إلى الإضلال من خلال الضغط الذي يمارسه عليه غيره، سواء أكان ضغطاً نفسياً أم ضغطاً اجتماعيّاً -أيّاً كان مصدر هذا الضغط- لا يعفيه ذلك من المسئولية، و تجد في القرآن الكريم في آيات عدة : نماذج من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين الذين اتَّبَعوا, وبين الذين اتُّبِعوا، أو بين الذين استضعفوا, والذين استكبروا، فيأتي المستضعفون يطالبون أولئك المستكبرين الذين كانوا سبباً في إضلالهم أن يتحملوا عنهم جزءاً من العذاب ] فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَل ْأَنتُم مُّغْنُون َعَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ( 21 )[ سورة إبراهيم ،] رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ( 38 )[ سورة الأعراف .وقال صلى الله عليه وسلم:" [ مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا ] رواه مسلم, و الترمذي, و أبو داود, و الدارمي, و أحمد . وفي الحديث الآخر:[ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ] رواه مسلم, و الترمذي, و النسائي, و ابن ماجه, و الدارمي, و أحمد .
فهذا فلان من الناس اتبع زميله, أو صديقه, أو أباه، وسار وراءه حتى قاده إلى طريق الضلالة والانحراف سيأتي يوم القيامة هذا الذي أضله يحمل وزر نفسه ووزر من أضله ] لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ( 25 ) [ سورة النحل, و لن يعفي هذا المستضعف من المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى : ] إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّار ِ ( 47 ) [ سورة غافر, أليس هذا وحده دال على المسئولية الفردية للإنسان ؟ أرأيتم هذا القطيع الهائل الذي يسير وراء مشايخ أهل الضلال والخرافة، أو وراء غيرهم من أصحاب البدع والانحراف : كم يظن أولئك أنهم يحسنون صنعاً؟ وكم يظن هؤلاء أن أسيادهم وعلماءهم وأئمتهم يقودونهم إلى الطريق المستقيم الذي لا طريق سواه، إنهم ممن قال الله تعالى فيهم ] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ( 103 ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( 104 )[ سورة الكهف.
لنأخذ مثالاً من السيرة يجلي لنا هذه الصورة تجلية واضحة : فحين نقض بنو قريظة العهد في غزوة الأحزاب، سار إليهم الرسول r بأمر الله سبحانه وتعالى حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فحكم عليهم سعد رضي الله عنه : أن تقتل مقاتلتهم, وأن تسبى ذراريهم، فكانوا يكشفون عن عوراتهم ؛ فمن وجدوه قد أنبت ؛ قتلوه . فهل قتل ذاك الشاب الذي لايزال في العقد الثاني من عمره ظلما ً؟ كلا لم يقتل ظلماً, وقد شهد عليه الصلاة والسلام على هذا الحكم بأنه : حكم الله من فوق سبع سماوات، إن هذا الشاب ولد في بيئة تربيه على الكفر والضلال، أبوه يهودي وأمه يهودية، وسائر أقاربه وجيرانه كذلك، ومع ذلك فهو يتحمل المسئولية عن نفسه؛ لأنه كان عليه أن يبحث عن طريق الهداية، وما كان ربك ليظلم أحداً سبحانه وتعالى, وهو أحكم الحاكمين . فإذا كان هذا الشاب الذي عاش في هذا المجتمع الغارق في الانحراف, و تمارس تجاهه كل وسائل التضليل، وتطمس عليه الحقائق ؛ لم يكن معذوراً, فغيره من باب أولى.
ثانياً: الحساب الفردي يوم القيامة: إن من لوازم المسئولية الفردية أن كل إنسان سوف يحاسب يوم القيامة حساباً فرديّاً، قال عز وجل:] وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( 48 )[ سورة البقرة ,وفي آية أخرى يقول عز وجل : ] إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ( 93 ) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ( 94 ) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ( 95 ) [ سورة مريم, فكل إنسان سيقدم على الله فرداً وحيداً، وسيحاسب محاسبة فردية؛ فلابد أن يتحمل مسئولية نفسه في تربية نفسه وتزكيتها, وقيادتها إلى طريق الخير, والاستقامة. وقال صلى الله عليه وسلم :[ مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ] رواه البخاري، ومسلم، وأحمد. فلابد أن يصير المسلم إلى هذا الموقف .
ثالثاً: الإنسان أعلم بنفسه: إن الإنسان أعلم بمداخل النفس، وأعلم بجوانب الضعف والقصور فها، ومن هاهنا : فهو الأقدر على التعامل مع نفسه, فهو أعلم بها من سائر البشر، وحينئذ فهو أقدر من غيره على علاج جوانب القصور في نفسه.
رابعاً: البرامج الجماعية تفتقر إلى تفاعل الفرد معها: تتاح للإنسان مناسبات وفرص جماعية تحقق له قدراً كبيراً من الاستفادة، لكنه لا يمكن أن يستفيد منها ما لم يتفاعل معها، قال عز وجل :] أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا... ( 17 ) [ سورة الرعد, فالماء النازل من السماء واحد، لكن الأودية تتفاوت فيما تحمله منه؛ فكل واد يحمل على قدر سعته، وهكذا القلوب تتفاوت بما تتلقاه من وحي الله جل وعلا، وتتفاوت في أثر هذا الوحي عليها كما تتفاوت هذه الوديان.
وشبه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الذي أتى به, و أقسام الناس في الاستفادة منه, تشبيهاً قريباً من ذلك، فقال:[ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتْ الْمَاءَ قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْضِ ] رواه البخاري، ومسلم، وأحمد .
وفي القرآن الكريم نماذج من نتاج تخلف التربية الذاتية : ] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّه ِشَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10 ) [ سورة التحريم, لقد كانت هاتان المرأتان زوجتين لنبيين من أنبياء الله، ولابد أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام بذلا معهما جهداً في دعوتهما إلى الدخول في دين الله تعالى، ولكن حين لم يكن منهما مبادرة ذاتية ؛ لم تنتفعا بذلك الجهد, وتلك الدعوة.
وبذل الرسول صلى الله عليه وسلم جهده مع عمه أبي طالب حتى عند موته، وحين لم يكن من أبي طالب مبادرة ذاتية ؛ لم يستفد من الجهد الذي بُذل معه. وفي عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك فئة من المنافقين يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة، ويشهدون معه مجالس الخير، ويذهبون معه في السفر والإقامة، ويشهدون معه بعض الغزوات؛ فيعيشون مع النبي صلى الله عليه وسلم كما يعيش معه سائر أصحابه، يتلقون من نفس القنوات التربوية التي يتلقى منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بل لعل بعض المنافقين كانوا أكثر حضوراً لمجالسه صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه، ومع ذلك لم ينتفعوا بشيء من ذلك أبداً. فهب اليوم أن شابّاً وجد في مجتمع تربوي في القمة : فهو في بيت محافظ, وعند أستاذ وشيخ يعتني به، لكنه لم يتفاعل, ولم توجد منه مبادرة ذاتية، فلن يستفيد من هذه البيئة، بل ربما أصبحت وبالاً عليه.
خامساً: تجاوز سلبيات المربي: إن البشر أيّاً كانوا لا يخلون من سلبيات وجوانب من القصور، فهذا أستاذ لي, أثق فيه وألازمه, وأحضر مجلسه, وربما أصاحبه في سفر وذهاب وإياب وأرى فيه قدوة ظاهرة أمامي, وأتمنى أن أكون مثله, أو أن أسير على خطاه ….أيعني ذلك أن سالم من القصور والضعف؟ كلا, فقد يكون لديه نوع من قسوة القلب، أو سوء الخلق, وعدم حسن التعامل مع الآخرين، و قد يكون إنساناً متعجلاً .... لابد أن تكون فيه صفة سلبية وجوانب قصور.
وحينما يكون الشاب مجرد ظل لغيره ؛ فإنه سيحمل سلبيات من يربيه، بالإضافة إلى سلبياته هو، فحينما يكون الشاب متصفا بصفة سلبية : كالكسل مثلاً، ويوجد ويتربى في بيئة يكثر فيها الهزل، فإنه سيجمع بين الصفتين .... وهكذا في سائر الأمراض جوانب القصور.
وحين يعتني بتربية نفسه تربية ذاتية، فإنه سيتجاوز كثيراً من سلبيات من يربونه، لتبقى لديه سلبياته وجوانب قصوره الشخصية.ولا نزال نسمع شكوى كثير من الشباب اليوم، وتبريرهم لجوانب من القصور لديهم بأنهم نشأوا في أوساط تعاني من الضعف التربوي، أو تربوا على أيدي مربين قصروا في تربيتهم، و إذا كان لبعض تلك الشكاوى نصيب من الصحة، فكثير منها إنما هو هروب من تحميل النفس المسئولية.
إن هذه المسوغات تؤكد على أهمية الاعتناء بالتربية الذاتية، وحين نعود إلى واقعنا اليوم نجد الوقوع في الإفراط والتفريط في هذه القضية، فتجد بعض الشباب يؤدي جهداً للآخرين : من خلال درس يلقيه، أو خطبة في المسجد، أو من خلال المشاركة في المركز الصيفي، تجد هذا الشاب ينشغل بالأمور الدعوية –ونعم ما انشغل به- لكنه يهمل نفسه وينساها، فيجد بعد فترة أن زملاءه وأقرانه قد فاقوه وأنه قد قصر في حق نفسه .... هذه صورة.
والصورة المقابلة : هي صورة ذاك الشاب الذي يرفض أن يقدم، و أن يعمل، و أن يعطي الآخرين من وقته بحجة أنه يريد أن يربي نفسه، وهذا هو الآخر قد جانب الصواب، فلابد من التوازن، لابد أن يقوم الشاب بمسئوليته فيخصص جزءاً نفيساً من وقته يعلم غيره, ويربي غيره, ويفيد غيره, ويسهم في حفظ وقت غيره، ومع ذلك لا ينسى حظ نفسه، فيعتني بتربية نفسه, وتعليمها, وإصلاحها.
جوانب التربية الذاتية:
اتضح لنا مما سبق أهمية التربية الذاتية، وحاجتنا للاعتناء بها، ولكن ما الجوانب التي ينبغي أن يعنى الشخص بتربية نفسه عليها؟ وسنشير هنا إشارة موجزة إلى أهم هذه الجوانب :
الجانب الأول: الصلة بالله عز وجل: وهذا أهم الجوانب وآكدها، فكل مابعده إنما هو ثمرة ونتيجة له، ومن وسائل تحقيق ذلك: عناية الإنسان بالفرائض واجتناب المعاصي، ومحاسبة النفس على ذلك ومبادرتها بالعلاج حين التقصير، وبعد ذلك استزادته من النوافل كنوافل الصلاة، ونوافل الصدقة والصيام, والتلاوة, والذكر.
الجانب الثاني : العلم الشرعي: ووسائل تحصيله لا تخفى علينا إما من خلال الدراسة النظامية، أو من خلال مجالس العلم, وحلقاته المقامة في المساجد، أو من خلال الأنشطة الشبابية حيث تقام فيها دروس علمية، أو من جانب البحث الفردي الذي يبذله صاحبه : من خلال القراءة والإطلاع، أو من خلال الاستماع للأشرطةوالدروس العلمية .
الجانب الثالث : التربية على العمل: إن الإنسان في حياته الخاصة حين يريد إتقان نشاط أو حرفة معينة، كالسباحة، أو قيادة السيارة - على سبيل المثال- حين يريد ذلك ؛ فإنه لايقتصر على الجانب النظري، وعلى سؤال من يجيدونها، بل يعتني بالتدريب والممارسة . والمهارات الدعوية كذلك فهي تُتقن من خلال التدريب والممارسة .
وسائل التربية الذاتية:
الوسيلة الأولى: الصلة بالله عز وجل: كما أن الصلة بالله عز وجل من الجوانب التي ينبغي أن يعنى بها المرء في تربيته لنفسه، فهي وسيلة من وسائل تربية النفس, وبالإضافة إلى ماذكرنا : من الاعتناء بالفرائض والبعد عن المعاصي، والاجتهاد في النوافل, لابد من من السعي لتطهير القلب من التعلق بغير الله عز وجل؛ فصلاح القلب مناط تربية الصلة بالله عز وجل، بل هو مناط النجاة يوم القيامة، قال الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام :] وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ( 87 ) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ( 88 ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 89 )[ سورة الشعراء, في هذه الآيات يدعو إبراهيم عليه السلام ربه أن يأتي يوم القيام بقلب سليم، وفي الآية الأخرى وصفه تبارك وتعالى بأنه جاء ربه بقلب سليم :] وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ( 83 ) إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 84 )[ سورة الصافات .
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن منزلة القلب, وأن الجسد كله يصلح بصلاحه، ويفسد بفساده ,فقال :[إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ] رواه البخاري, ومسلم، وابن ماجه، والدارمي، وأحمد .وحين تصلح حال الإنسان مع الله، وتقوى صلته بربه ؛ تستقيم سائر أموره.
الوسيلة الثانية: القراءة والمطالعة : وهذا أيضاً عنصر مهم من عناصر التربية الذاتية، فأنت تقرأ في كتب الرقائق ما يرقق قلبك ويزيل قسوته، وتقرأ في كتب الأخلاق والآداب ما يصلح سلوكك، وتقرأ في كتب أهل العلم مايزيدك علماً، وتقرأ في تراجم العلماء مايزيدك حماسة للعلم والدعوة والبذل لدين الله عز وجل. والقراءة توسع أفق الإنسان، وتفكيره، وتزيد من قدرته على حل المشكلات، فالقراءة تنمي كافة الجوانب, وإن كان يتبادر إلى الذهن أنها قاصرة على الجانب العلمي وحده.
الوسيلة الثالثة: حفظ الوقت والاعتناء به: ويتأكد هذا الأمر في حق من اشتغلوا بدعوة غيرهم وتربيتهم؛ فهذا العمل يأخذ زبدة أوقاتهم، لكن الاعتناء بتنظيم الوقت, والحزم مع النفس في ذلك مما يعينهم على أن يوفروا لأنفسهم قدرا من الوقت ؛ فيستثمروه في تربية أنفسهم والرقي بها . إن استغلال الوقت : مهارة وقدرة يحتاج الشاب أن يربي نفسه عليها، وليست مجرد اقتناع من الإنسان بأهمية الوقت.
الوسيلة الرابعة: التفاعل مع البرامج العامة: هناك برامج عامة يتلقاها الشاب مع إخوانه، كالدرس العلمي, والمحاضرة, وخطبة الجمعة, واللقاءات الجماعية …إلى غير ذلك، وهذه البرامج تحتاج منه إلى التفاعل معها، من خلال التركيز والاستيعاب، و أخذ النفس بالعمل والتطبيق بعد ذلك، وقد سبقت الإشارة إلى طوائف ممن كانوا يحضرون أعلى المجالس وأشرفها: مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا لا يستفيدون من ذلك، بل كانت وبالاً عليهم.
الوسيلة الخامسة: الجماعية :لابد من الجماعية في التربية الذاتية، وكيف يكون ذلك؟ ذكر الأستاذ محمد قطب حديثاً جميلاً في كتابه : منهج التربية الإسلامية, حيث يقول :"وينبغي أن نذكر بصفة عامة أن التنمية النفسية الصحيحة لا تتم في كيان فرد يعيش بمفرده في عزلة عن الآخرين, وفي هذه الفترة بالذات – وهو يتحدث عن فترة الشباب الباكر – كيف يتدرب الإنسان على الأخوة إذا لم يمارس الأخوة بمشاعرها؟ مع الإخوة الذين يربطهم به هذا الرباط؟ كيف يتدرب على التعاون إذا لم يقم بهذا الفعل مع أفراد آخرين؟ كيف يتعود أن يؤثر على نفسه إذا لم يكن هناك إلا نفسه؟ إن الوجود في الجماعة هو الذي ينمي هذه المشاعر وهذه الألوان من السلوك، والشاب الذي يعيش في عزلة عن الآخرين _ وإن حاول أن يستقيم على المنهج السليم _ تنمو بعض جوانب نفسه, وتظل جوانب أخرى ضامرة؛ لأنها لا تعمل".
إن بعض الشباب يقول: علي أن أنعزل لوحدي؛ لأهتم بتربية نفسي، وهذا غير صحيح فالجماعية مهمة للتربية الذاتية لأمور:
أولاً: هناك أمور جماعية لا يمكن أن تؤديها إلا من خلال الجماعة، كمشاعر الأخوة, والتعاون والإيثار, والصبر على جفاء الآخرين.
ثانياً: من خلال الجماعة تجد القدوة الصالحة, وهي مهمة للتربية .
ثالثا ً: من خلال الجماعة تجد القدوة السيئة, وهي أيضاً مهمة للتربية؛ فحين ترى فرداً سيء الخلق تدرك كيف يخسر الآخرين، ومن ثم تدرك شؤم سوء الخلق، وترى إنساناً كسولاً فتدرك أثر الكسل والتفريط، إذاً أنت تحتاج إلى القدوة السيئة لترى هذا النموذج ؛ فتجتنبه.
رابعاً: اكتشاف أخطاء النفس، وترويضها؛ فالإنسان الذي يعيش في عزلة يكون في الأغلب إنساناً حاداً في تعامله مع الآخرين، مثاليّاً في أحكامه, وفي المشروعات التي يطرحها, وعندما ينتقد الآخرين وعندما يوجههم، فهو مهما امتلك من القدرات تبقى لديه جوانب قصور واضحة، من خلال العزلة والسياج الذي فرضه على نفسه، ومن هنا نقول لابد من الجماعة في التربية الذاتية.
الوسيلة السادسة: الثقة بالنفس : وذلك بأن يشعر الشاب أنه قادر على أن يرقى بنفسه إلى درجات الكمال البشري، أما الكمال المطلق فلا يمكن أن يصل إليه البشر إطلاقاً، فالذي لايثق بنفسه لا يمكن أن يرتقي بها. ولابد مع الثقة بالنفس من مقت النفس في جنب الله عز وجل حتى تتجنب طرفي الإفراط والتفريط، فالثقة بالنفس تعني : أن يعلم الإنسان أنه قادر على أن يفعل هذا الشيء، وأن يتحمل المسئولية حين تقع عليه، لكن ذلك لا يعني أن يصاب بغرور وإعجاب، بل ينبغي أن يعلم أنه مقصر, ومذنب, ومخطئ. وحين أجمع بين الأمرين؛ سيدفعني ذلك إلى بذل الجهد, والمشاركة الدعوية؛ ليكون في ذلك تكفيراً لذنبي، ورفعة لدرجاتي عند الله عز وجل.
الوسيلة السابعة: محاسبة النفس : وذلك بأن يحاسب الإنسان نفسه قبل العمل, وأثناءه, وبعده، وأن يداوم على محاسبة نفسه في كافة جوانب حياته؛ فالمحاسبة هي التي تُعرِّف الإنسان بعيوب نفسه وجوانب ضعفها، وهي التي تعينه على علاجها.
الوسيلة الثامنة: العزلة الشرعية :ونعني بالعزلة الشرعية : أن يكون للشاب حظ من الوقت يخلو فيه بنفسه، ويقبل فيه على الله عز وجل، يقول ابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين تعليقاً في قوله صاحب المنازل في درجات الإيثار قال:" ألا يقطع عليك طريق السي,ر والطلب إلى الله جل وعلا, مثل : أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله؛ فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار؛ فيكون مثلك : كمثل رجل سائرٍ على الطريق لقيه رجل, فاستوقفه, وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق الساعي إلى الله جل وعلا . فإيثارهم عليه عين الغب,ن وما أكثر المؤثرين على الله غيره، وما أقل المؤثرين الله على غيره، وكذلك إيثار ما يفسد على المسلم وقته قبيحٌ أيضاً مثل : أن يؤثر في وقته, ويفرق قلبه في طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع همه وأمره إلى الله؛ ليفرق عليه قلبه بعد جمعيته ويشتت خاطره، وهذا أيضاً إيثارٌ غير مشروع. وكذلك الإيثار باشتغال القلب, والفكر في مهمات الخلق ومصالحهم التي لا تتعين عليك، على الفكر النافع واشتغال القلب بالله ونظائر ذلك لا تخفى، بل هو حال الخلق والغالب عليهم، وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ومحاسبة نفسك مع الله فلا تؤثر به إنما تؤثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم" . إذاً فمهما كنت في ميدان من ميادين الخير: ميدان أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، أو تعليم علم، أو جهاد في سبيل الله، فلابد أن يكون لك نصيب -ولو كان يسيراً - تخلو فيه مع الله عز وجل، فتتلو فيه كتاب الله عز وجل وتتدبره، وتقوم الليل أو تصوم، فهذا زاد لك يعينك على هذا العمل الذي تفرغت له.
التربية الذاتية ومفاهيم خاطئة:
لاشك أن الإنسان حينما يفكر في موضوع معين,ويعتني به, ويتفاعل معه، قد يكون لديه خلل أو فهم خاطئ نتيجة مبالغته في النظرة إلى هذا الموضوع، ومن هنا كان لابد أن نشير إلى بعض المفاهيم الخاطئة التي قد تتبادر للذهن من خلال سماع هذا الموضوع، أو من خلال تفكيرنا بحاجتنا إلى التربية الذاتية :
أولاً: استقلال النفس: فقد يشعر بعض الشباب أننا الآن حشدنا الأدلة والمؤيدات في إقناعه بتربية نفسه، فيقول:ما دمت أدرك عيوبي أكثر من غيري، وما دمت مسئولاً مسئولية فردية، فأنا لست بحاجة إلى الآخرين .... لست بحاجة إلى أن أحضر إلى مجالس العلم فبإمكاني أن أحصله بنفسي.... ولست بحاجة إلى مشاركة الشباب الصالحين في برامجهم .... إلى غير ذلك, وهذا خطأ : فالناس بحاجة إلى التعليم، وبحاجة إلى التربية, وقديماً قيل:" من كان أستاذه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه" فمن أراد أن يتعلم العلم من خلال الكتب وحدها لا يمكن أن يبلغ الغاية، ومن أراد أن يربي نفسه في هذا العصر وسط هذا الزخم الهائل من الشهوات والفتن من ظن أنه يستطيع أن يستقل بنفسه فهذا ظن كاذب، فلابد له من رفقة صالحة يعينونه على طاعة الله، وكان صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عباس : ( أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ) فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفيد من لقائه بجبريل _ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق _ فغيره من باب أولى.
إذاً فحديثنا عن التربية الذاتية وأهميتها : لا يعني إطلاقاً استقلال الشاب، فمع تأكيدنا على التربية الذاتية, وأهميتها فنحن نؤكد أيضاً على الجماعية، كما ذكرنا أن من وسائل التربية الذاتية : الجماعية، وذكرنا أن الإنسان الذي يعيش في وسط فردي بحت يكون شاذا في سلوكه, ونشاطه, وأخلاقه, ومن جلوسك معه تعلم أنه لا يخالط الآخرين.
ثانياً: التفريط في الدعوة: ومن المفاهيم الخاطئة للتربية الذاتية: التفريط في الأعمال الهامة بحجة تربية النفس، فبعض الناس يقول : أريد أن أتفرغ لكي أربي نفسي, وأتعلم, وأستزيد من العلم، ثم بعد ذلك يمكنني أن أقوم بالدعوة إلى الله عز وجل . إن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم لا يسمح لنا بهذا التباطؤ والتأخر، وأهل الشر يبذلون جهوداً جبارة في سبيل نشر باطلهم .
وهب أننا قلنا للشباب جميعاً : يجب أن تتفرغوا للعلم, وحفظ القرآن, وللإبداع فيه, ثم تنزلون إلى الميدان، فمن سيتولى تربية هؤلاء الشباب؟ ومن سيقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ومن سينفق على المحتاجين والضعفاء؟ ومن سيقوم بالجهاد في سبيل الله؟
إن الشاب الذي تفرغ حينما يتخرج بعد ذلك سيحتاج إلى طريقة للتعامل مع وقته، وإلى تضحية لم يكن اعتاد عليها, فيكون من الصعب عليه أن يعمل هذه الأعمال .... لا يعرف كيف يتحدث مع الآخرين .... لا يعرف كيف يواجه المشكلات .... وكم تصدى النبي r للناس حتى أثر على عبادته صلى الله عليه وسلم فكان في آخر حياته يصلي جالساً كما تقول عائشة حين حطمه الناس ) وهكذا المصلحون, والعلماء, وغيرهم من الناس الذين تصدوا لدعوة الناس.والأمر يحتاج إلى اعتدال، فلايسوغ أن نهمل الدعوة, والإصلاح بحجة تربية أنفسنا، وفي المقابل لا يسوغ أن نهمل أنفسنا، فلنؤت كل ذي حق حقه, والله أعلم .
( من محاضرة التربية الذاتية للشيخ محمد الدويش )
نشرت فى 23 يونيو 2010
بواسطة azazystudy
الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
4,791,633
ساحة النقاش