< ثورة سعد زغلول كذَّبت مقولة اللورد "دوفريق": كل أمة قضت دهراً في العبودية لا تصلح لها إلا اليد القوية الحلقة الثالثة: من سيحكم مصر؟ المستشار لبيب حليم يكشف أسباب عدم اختيار حاكم مصري قبل الثورة في يوم الاثنين 13 مايو سنة 1805 اجتمع ألوف الناس بجوار بيت القاضي بقرب الأزهر، واجتمع زعماء الشعب في داخل البيت، واستقر رأيهم علي اختيار محمد علي والياً علي مصر، وقام اليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي وألبساه الكرك والقفطان، وقام مقام الشعب في تشريفه وخلع حكم البلاد عليه، وقبل محمد علي علي أن يتسلم ذلك التشريف منهما وهما نائبان عن الشعب المصري. واضطر السلطان أن يرضخ لارادة الشعب المصري، وارسل من قبله رسولاً يحمل فرمانا بتولية محمد علي، وقرئ المرسوم الذي يحمله الرسول علي الناس في 18 يوليه سنة 1805، وحين أراد السلطان اعادة الحال الي ما كانت عليه وأرسل في يونيه سنة 1806 فرمانا بنقل محمد علي ثار الشعب ووقف للمرة الثانية بجوار محمد علي حتي اضطر السلطان الي الرضوخ لارادة الشعب وتجديد عهد الولاية لمحمد علي في اكتوبر سنة 1806، فاذا كان الشعب قد نجح في فرض محمد علي علي السلطان رغم ارادته، فلماذا لم يختر الشعب المصري حاكماً من بين المصريين..؟! ** لا شك في أن الخلافة الاسلامية كانت السبب: فالمصريون بطبعهم شعب متدين، والخلافة لها طابعها الديني المعروف، ولهذا دعوني اعترف بأن المصريين جميعاً كانوا يرون أن تعيين الوالي لن يكون شرعياً إلا اذا صادق عليه الخليفة، وإن الخليفة لا تحتمل مصادقته إلا علي والي من الأتراك. واستكمل اعترافي وأقول: إن صفة الخليفة الدينية كانت وراء كل الخيانات التي حدثت في كفاح مصر الحديث، من عهد علي بك الكبير حتي عهد عرابي، ولهذا أري أن كابوس الخلافة ظل السبب الوحيد الذي كان يعوق كل محاولة مصرية للانفصال عن الدولة العثمانية!! علي أنه إذا كان محمد علي قد استبد بالحكم، فإن الشعب كان قد ألف بعض المجالس التي يستشيرها الحاكم دون إلزام، سواء في العهد العثماني قبل الاحتلال الفرنسي، أو أثناء الحملة الفرنسية، ولهذا فإن محمد علي قد لجأ الي تلك المجالس والدواوين مرة اخري، وحاول أن يضع نظاماً اساسياً للبلاد في سنة 1837. وإذا كان خلفاء محمد علي قد التزاموا الخطة التي سار عليها جدهم الأكبر، فانه يمكن أن تميز في مرحلة الملكية المطلقة ثلاث فترات مختلفة!! الفترة الأولي من سنة 1805 الي سنة 1863 أي الفترة من عهد محمد علي إلي عهد اسماعيل، فما أن استتب الأمر لمحمد علي، حتي انشأ بجواره ديوانا يسمي "ديوان الوالي" استقل محمد علي بتعيين أعضائه، علي غير الخطة الي درج عليها الفرنسيون، وكان هذا المجلس يضم عالماً من كل مذهب من المذاهب الأربعة، وينعقد برئاسة الوالي او نائبه. كما درج محمد علي علي دعوة مديري الدواوين والأعيان الي الاجتماع في شكل جمعية عمومية للنظر في المسائل الهامة. علي أن محمد علي أراد أن يضع لمصر نظاماً أساسياً، ضمنه قانون "السياستامة" الصادر سنة 1837 والذي يمكن اعتباره مع شيء من التجاوز أول دستور لمصر في هذا العهد، اما النظام الذي وضعه هذا القانون فيقوم علي الأسس التالية: لجنة المشورة: وكانت تتكون من مديري الدواوين العامة والكبراء الذين يعينهم الوالي، وكانت هذه اللجنة تعقد في موعد يضرب مرة في كل سنة، فيتباحث أعضاؤها فيما تحتاج الحكومة الي النهوض به من المشروعات الكبري، ثم يقدمون قراراتهم بصدد هذه المشروعات الي الوالي، وهذا المجلس كان يقوم علي أساس التعيين، وكانت مهمته استشارية بحتة. مهام الإدارة: حصر محمد علي مهام الادارة في سبعة دواوين عامة، وهي: ديوان الوالي، ديوان الايرادات، ديوان الجهادية، ديوان البحر، ديوان المدارس، ديوان الأمور الإفرنجية والتجارة المصرية، ديوان الفابريكات، وإذا كان هناك تشابه بين هذه الدواوين وبين الوزارات في الوقت الحاضر فإنها تختلف عنها اختلافاً بيناً، من حيث خضوع جميع الموظفين مباشرة للوالي، فكأن تلك الدواوين بمثابة المجالس الفنية تبدي فقط الرأي في المسائل الداخلة في اختصاصها. ضمانات المصريين: بالرغم من سلطات الوالي المطلقة، ومن عسفه الذي أدي الي هرب كثير من المواطنين وهجرتهم خارج البلاد، فإن النظام الأساسي في مصر كان يحتوي علي بعض الضمانات، وإن كان اعمال هذه الضمانات من الناحية العملية متروكا لحسن تصرف الحكام تحت رقابة الوالي!! وترجع هذه الضمانات الي مصدرين: المصدر الأول: قانون السيستنامة ذاته، وقد تضمن بعض الضمانات حيث اوجب علي المديرين ومرؤوسيهم معاملة الناس بالعدل، وتحقيق شكاياتهم وتظلماتهم، ومنع الاعتداء عليهم، كما حرم علي الموظفين - كبارهم وصغارهم - استخدام الفلاحين قهراً في زراعة أراضيهم، أو أن يتعرضوا للفلاح بشيء غير المطالب الأميرية. أما المصدر الثاني والأهم لحقوق المواطنين في مواجهة الوالي، فهو فرمان الخط الشريف الصادر سنة 1839، وتنقسم هذه الضمانات الي قسمين: الأول: قسم يضمن المساواة المدنية ويشتمل علي المساواة في التوظيف، في الالتحاق بالمدارس الحكومي، في الخدمة العسكرية، امام القانون، امام القضاء. والثاني يضمن الحرية الفردية، ويتضمن حماية الأفراد، حرمة الملك، حرمة المسكن حرية التجارة والعمل والصناعة. تلك هي الخطوط العامة التي استنها محمد علي، والتي لم يخرج عليها كثيراً خليفتاه من بعده: عباس الأول الذي عرف برجعيته الشديدة، واستبداده التام، وانحيازه الي الأتراك في كل شيء، كما سجل التاريخ عليه نشر الجهل بين المصريين، ولم تختلف سياسة سعيد باشا كثيراً عن سياسة عباس الأول فيما يتعلق بنظام الحكم، وإن كان سعيد قد انتهج سياسة اكثر تسامحاً في معاملة المصريين. الفترة الثانية وهي عهد اسماعيل واوائل عهد توفيق، أي الفترة من سنة 1836 حتي سنة 1882، فاذا كان محمد علي فشل في الاستقلال بمصر استقلالا تاماً عن تركيا، فإن حروبه الكثيرة والانتصارات الباهرة التي أحرزها جيش مصر، والهزائم المريرة التي ألحقها بالجيش العثماني، فقد خلقت لمصر وضعاً دولياً خاصا، اكتسب صفة قانونية بمقتضي المعاهدات التي جعلت ولاية مصر محصورة في أسرة محمد علي، وقيدت حق الباب العالي في عزل والي مصر، فلم يكن في مقدوره أن يفعل ذلك إلا إذا توافر شرطان: الأول: أن يكون الوالي قد أخل بالفرمانات أو الأوامر الشاهانية. الثاني: أن توافق علي العزل الدول التي وقعت علي معاهدة لندن سنة 1840. وبهذا أصبح لمصر استقلال داخلي فلما آل الامر الي اسماعيل، عمل بكافة الطرق علي زيادة هذا الاستقلال، فحصل علي لقب جديد يميزه عن سائر ولاة الأقاليم العثمانية، وهو لقب خديوي، كما نجح في تغيير نظام وراثة الحكم الذي كان مسلماً به من أيام محمد علي فجعله محصوراً في ذريته. وفضلاًعن ذلك فإن اسماعيل كان يميل الي التقليد ومظاهر العظمة، وكان كثير التشبه بمحمد علي، فأنشأ جيشاً كبيراً، وسلحه تسليحاً حسنا، لكن عيوب الحكم المطلق أخذت تظهر بشكل واضح: فلم يكن ثمة عدل ولا قانون، ولا قضاء ينتصف للمظلوم، ولا حرية ولا مساواة، ولا ضمانات قانونية تكفل للناس حقوقهم وحياتهم، وكان الضرب بالكرباج يتخذه الحكام وسيلة لتحصيل الأموال او اداة للقسوة والتعذيب.. وكانت السخرة مضروبة علي البلاد، ولم تكن مقصورة علي المنافع والأعمال العامة، بل كانت تستخدم لاستصلاح أطيان ذوي السلطة والجاه والحكام والأمراء. ولم تكن المظالم مقصورة علي طبقة دون أخري، بل كانت عامة يعانيها العامة والخاصة، ولم يكن ينجو من شرها إلا من كانت تشملهم رعاية أولي الأمر، علي أن هذه الرعاية لم تكن مضمونة بالبقاء، بل كثيراً ما تنقلب غدراً لغير ما سبب سوي أهواء الطغاة وتقلباتهم. وحروب اسماعيل الكثيرة، ومظاهر البذخ والترف التي اندفع عليها علي حساب الشعب، وكثرة هداياه للباب العالي ورجاله حتي يمكنه تحقيق مآربه، كل ذلك أثقل كاهل الشعب بالضرائب، ولم تكن الحريات العامة مصونة من الناحية العملية بالرغم من النص عليها في الفرمانات الشاهانية!! وزاد الطينة بلة، أن اسماعيل باشا، بعد أن نضب معين الشعب من الضرائب، لجأ الي الاستدانة، ففتح للتدخل الأجنبي بابا كان الأوروبيون يترقبونه منذ بدء اتصالهم بمصر، فاستغلوا الفرصة أسوأ استغلال. كل ذلك أدي الي قيام الحركة الدستورية، فبدأت متواضعة أول الامر، إذا تمخضت عن لائحة تأسيس مجلس شوري النواب الصادرة في 22 أكتوبر سنة 1866، ولكن الأحداث تتابعت بعد ذلك حتي انتهت الي اللائحة الاساسية الصادرة في 7 فبراير سنة 1882، والتي تعد بحق أول دستور شعبي يضع نظاماً عصرياً لمصر الحديثة، ولو قدر لهذا الدستور أن يعيش لتغير تاريخنا كله، ولكن الاستعمار كان له بالمرصاد، فأطاح الدستور وبالاستقلال، وعطل تقدم مصر عشرات السنين!! علي أنه مهما يكن من أمر هذه الفترة، فإنها قد تركت في مصر أثرين هامين: أولاً: العودة الي نظام المجالس المنتخبة، الثاني: ظهور نظام الوزارة المسئولة!! المجالس المنتخبة تحققت العودة الي نظام المجالس المنتخبة بمقتضي قانونين: الأول: هو اللائحة التأسيسية لمجلس شوري النواب وانتخاب اعضائه الصادر في 22 أكتوبر سنة 1866 و"نظامنامة" المجلس الصادر في 22 أكتوبر سنة 1866، والثاني: اللائحة الأساسية الصادرة في 7 فبراير سنة 1882. وكل ما يحمد لنظام 1886 أنه أعاد مبدأ الانتخاب، اما فيما وراء ذلك فإنه نظام لا يمس مبدأ الحكم المطلق، ويجعل الكلمة الأخيرة لإرادة الخديوي، كان هذا المجلس يتكون من أعضاء منتخبين وفقا لتعداد الاقاليم، كانت وظيفته المداولة في المنافع الداخلية والتصورات التي تراها الحكومة أنها من خصائصه!! ويروي التاريخ أن الخديو في حفلة افتتاح المجلس، ذكر للأعضاء أن التقاليد البرلمانية تجري علي أن يجلس مؤيدو الحكومة في الجانب الأيمن، والمعارضون في الجانب الأيسر، فاندفع الفريق الذي كان يجلس في الجانب الأيسر مصادفة الي المقاعد اليمني معلنين ولاءهم لولي النعم!! أما اللائحة الأساسية الصادرة في فبراير سنة 1882 فهي بمثابة دستور أعده شريف باشا وقدمه الي مجلس النواب وصادق الخديو عليه، ويمتاز هذا الدستور بأنه كان ثمرة مجلس منتخب، كان يمثل الأمة تمثيلاً صحيحاً، وقد أخذ هذا الدستور بالنظام النيابي البرلماني. والمعروف أنه لما ساءت حالة مصر المالية نتيجة لسنة الخديو اسماعيل، شكلت في سنة 1878 لجنة تحقيق لفحص الحالة المالية وقدمت تقريرها للخديوي، وكان أبرز ما فيه وجوب تكوين وزارة مسئولة!! ولم يكن أمام الخديوي إلا قبول هذه التوصيات، فأصدر في 28-8- 1878 أمره بانشاء مجلس النظار، وجاء في ذلك الخطاب: (إنني اطلعت علي التغييرات التي حصلت في أحوالنا الداخلية والخارجية الناشئة عن تقلبات الأحوال، وأردت في وقت مباشرتكم لمأمورية تشكيل هيئة النظارة الجديدة، أن أؤكد لكم ما توجه قصدي إليه، وثبت عزمي عليه من إصلاح الإدارة وتنظيمها علي قواعد مماثلة للقواعد المرعية في إدارات ممالك أوروبا، وأريد عوضاً عن الانفراد بالأمر المتخذ الآن قاعدة في الحكومة المصرية، سلطة يكون لها إدارة عامة علي المصالح تعادلها قوة موازنة من مجلس النظارة، بمعني أني أروم القيام بالأمر من الآن فصاعداً باستعانة مجلس النظارة والمشاركة معه). وهذا الخطاب من الأهمية لأنه وضع الأسس التي تقوم عليها السلطة التنفيذية، فقد انتهت لأول مرة في مصر السلطة الشخصية المطلقة للوالي، وانتقلت الي مجلس الوزراء، وأقر هذا الخطاب قاعدة العمل الجماعي في السياسة العامة، وألزم كل وزير بتنفيذ القرارات الصادرة من مجلس الوزراء بعد مصادقة الخديوي، وجعل رئاسة المجلس لوزير من الوزارة، صارت الوزارة تسمي باسمه!! الفترة الثالثة دخل الانجليز مصر مساء 3 سبتمبر 1882، وباحتلال الانجليز لمصر، أضحي وضعها القانوني شاذاً، فهي من الناحية الدولية مازالت معتبرة ولاية عثمانية، ومن الناحية الفعلية هي بلاد محتلة!! ومن الناحية الدستورية كان دستور سنة 1882 لا يزال نافذا، ولكن السلطة بيد الخديو تحركه أيدي المستعمرين، ولكن انجلترا لم تطق بقاء الدستور، فرأي اللورد "دوفريق" إلغاء هذا الدستور، واقترح علي البلاد نظاما ضمنه تقريره الذي أعده في هذا الشأن، وجاء فيه: (إن هذا النظام الذي يقترحه لمصر، يجب أن يؤسس علي القاعدتين المسلم بهما عند الدول الحديثة: الاستقلال الذاتي، والحكم الدستوري، أما الأول: فليس في مقدور مصر الحصول عليه آجلاً، أما الثاني فلا يعقل أن تتمتع به إلا تدريجيا، إذا لا فائدة من منحها دستوراً علي الورق فإن ذلك قلما يوصل الي الغاية المنشودة، فضلاً عن أن النظام الدستوري لا يستقر في أرض إلا إذا نما فيه ببطء، وتدرج مع الزمن، خصوصا في بلد كمصر، ليس فيه أثر للحرية الشخصية، ولا للحرية الدستورية، فإن الاستبداد لا يميت بذور هذه الحرية فحسب، بل يجعل الأرض التي يحل بها غير صالحة للإنبات، كل أمة قضت دهراً طويلاً في الرق والعبودية تكون اليد القوية أصلح لها من الحكم الدستوري اللين، علي أن ذلك لا يستوجب اليأس وفتور الهمة، فإنه وإن تكن الهيئات الاجتماعية في الشرق لم تقم الي الآن الا بقوة الاستبداد، فلا يغرب عن البال أن الخلف مازال يقتفي أثر السلف في عقد مجالس المشاورة في القري، وأن اصول الانتخاب، لم تزل مرعية ومعروفة في انتخاب مشايخ البلاد. فإذا شيدنا صروح النظام النيابي علي الأسس الموجودة الآن، وسعينا في توسيع نطاقها بقدر ما يلاءم حاجات البلاد، نكون قد أقمنا نظاما ثابت الدعائم، وطيد الأركان، وهذا النظام ينحصر في إعطاء الأهالي حرية تامة في انتخاب نواب عنهم، وهذه هي الخطوة الأولي التي يمكن بها أن يتمتع الأهالي بالمزايا التي يراد منحهم إياها، فينتخب كل مركز أو كل قرية مندوبا ناخبا عنها يمثلها في الانتخابات العليا، وبذلك تكون آراء الأهالي قد انحصرت في هؤلاء المنتخبين. وحينئذ يدعي الوكلاء المذكورون في كل مديرية لانتخاب اعضاء مجلس يشترك في المدير في ادارة مديريته، وهذا هو الحجر الثاني في بناء النظام المراد احداثه، ثم يأتي الحجر الثالث في بناء النظام الجديد وهو ايجاد مجلس عام!! وعلي أساس التوجيهات السابقة صدر في أول مايو سنة 1883 القانون النظامي الجديد أعقبه صدور قانون نظامي آخر سنة 1913!! صنع الأول علي أساس التوجيهات التي رسمها اللورد دوفريق، وأول ما يمتاز به هذا الدستور هو تعدد المجالس، ومزج التعيين بالانتخاب، وجعل اختصاص المجالس استشاريا!! ولما عين اللورد كتشر مندوبا ساميا لجأ الي تعديل هذا النظام فألغي القانون النظامي الصادر سنة 1883، وأحل محل القانون النظام الجديد بمقتضي القانون رقم 29 لسنة 1913، كما أصدر في اول يوليو سنة 1913 قانون الانتخاب الجديد. والواقع ان القانون النظامي الجديد ليس الا طبعة مبسطة من القانون القديم، وكل ما استحدثه هو ما يلي: 1- عدل عن فكرة تعدد المجالس، وعاد الي تقليد المجلس الواحد. 2- استبقي فكرة الجمع بين التعيين والانتخاب، مع توسيع مجال الانتخاب قليلاً. 3- جمع المجلس الجديد بين اختصاصات مجلس شوري القوانين والجمعية العمومية!! والمعروف ان الجمعية التشريعية انعقدت مرة واحدة في 22-1-1914 وظلت تباشر عملها حوالي خمسة أشهر تقريبا، وانتهي دور انعقادها الأول في 17 يونيه سنة 1914، وكان المفروض أن يبدأ دور الانعقاد الثاني في أول نوفمبر من ذات العام، ولكن الحوادث توالت علي مصر، وشاء القدر ألا تنعقد الجمعية التشريعية مرة اخري! الحماية!! سافر الخديو عباس الي الآستانة في صيف 1914، وأثناء اقامته هناك اعلنت الحرب العالمية الاولي، ولم يعد الخديو الي مصر فور إعلان الحرب كما كان يقتضيه الواجب، وقبل ان يحل دور انعقاد الجمعية التشريعية أصدر حسين رشدي رئيس الوزراء أمراً عالياً في 18 أكتوبر 1914 بتأجيل دور انعقاد الجمعية. وفي 5 نوفمبر سنة 1914 اعلنت بريطانيا الحرب علي تركيا، وفي 19 ديسمبر سنة 1914 أعلنت الحماية علي مصر، كما أعلنت خلع الخديو عباس، وولت علي مصر حسين كامل بلقب جديد هو لقب سلطان مصر. ولم يعمر حسين كامل طويلاً، فقد توفي في 9 أكتوبر سنة 1917 وخلفه السلطان فؤاد، ولما كان نظام الجمعية التشريعية لايزال قائما علي الأقل من الناحية النظرية فقد صدرت عدة مراسيم بتأجيل انعقاده، ثم صدر مرسوم بتأجيل اجتماع الجمعية الي أجل غير مسمي، وبهذا المرسوم أوقفت الحياة النيابية وأعلنت الأحاكم العرفية، وفقد المصريون استقلالهم كما فقدوا أيضا حرياتهم الشخصية. كان الانجليز والفرنسيون وحلفاؤهم في الحرب العالمية الأولي يحملون شعار الدفاع عن حريات الشعوب وعن النظام الديمقراطي في مواجهة الملكيات المستبدة، وازدادت الشعوب المغلوبة علي أمرها اقتناعا بهذه الدعوة البراقة حينما اعلنت الهدنة مقرونة بتصريحات الرئيس الامريكي وودور ولسون عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. فسارع المصريون الي تكوين الوفد المصري برياسة سعد زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية، ونص علي أن الغرض من تكوين هذا الوفد هو السعي بالطرق السلمية لتحقيق استقلال مصر استقلالا تاماً. وفي 13 نوفمبر 1918 توجه سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي الي دار الحماية طالبين السماح لوفد مصري بالسفر الي أوروبا للدفاع عن قضية البلاد أمام مؤتمر فرساي فرفض الطلب، وهنا أيقن المصريون بضرورة النضال في سبيل الظفر بمطالبهم، ولما أحس الانجليز بما يتهيأ له المصريون، أقدموا علي نفي سعد زغلول ومعه اسماعيل صدقي ومحمد محمود وحمد الباسل الي مالطة. وكان هذا العمل من جانب المحتلين هو الفتيل الذي فجر الثورة، ولجأت انجلترا الي كل وسائل العنف والارهاب لإخماد ثورة المصريين، فلم يجد ذلك نفعاً، وانقشعت الغشاوة عن عيون الانجليز الذين ظنوا أن المصريين قد ألفوا الذل والعبودية وأدركوا لأول مرة مدي عمق الثورة. والحقيقة أن ثورة 1919 كانت ثورة شعبية لأول مرة، ويرجع إليها الفضل في انصهار جميع عناصر الشعب المصري في عنصر واحد لتحقيق غرض واحد. أعترف أن الفكرة المصرية استقامت بقيام ثورة 1919، وأن الحركة الوطنية بلغت نضجها الكامل، فقد كان الاستقلال الذي طالب به زعماء الثورة استقلالا سياسياً كاملاً مستنداً الي الوعي القومي في أقوي مظاهرة، وليس الي الوعي الديني، وكان مطلباً لا صلة له بدولة الخلافة. من هنا كان طابع الثورة الواضح في تقوية الكيان المصري، واظهار الشعب بمظهر الوحدة السياسية المتكاملة فكان الاخاء بين الهلال والصليب، لم يعد الجهاد الوطني جهاداً دينياً، ولم يعد هذا الجهاد مقصوراً علي المسلمين بحسبانهم مسلمين ضد الانجليز بحسبانهم جنساً يدين بدين آخر، وإنما أصبح جهاد المصريين بحسبانهم شعبا له جنسيته وتقاليده. تطورت الحوادث بعد ذلك سراعاً من مفاوضات وملاينة الي قبض ونفي مرة أخري، ولكن تلك المحاولات تحطمت علي صخرة الارادة الشعبية، فاضطرت انجلترا الي أن تصدر تصريح 28 فبراير سنة 1922 الذي اعترفت فيه باستقلال مصر، مع احتفاظ انجلترا بحق الدفاع عن مصر ضد كل اعتداء أجنبي، وحماية المصالح الأجنبية، وتأمين المواصلات البريطانية. وإذا كان هذا التصريح اعترافاً من جانب واحد، وكان هذا التصريح الذي اقترن بعدة تحفظات جعلت هذا الاستقلال ظاهرياً فقد استنكره الشعب المصري، وكان من الضروري من ناحية اخري الاتفاق علي التحفظات التي صاحبت هذا التصريح مع ممثلين للشعب المصري، فكان من المتعين ايجاد نظام نيابي حديث يضمن رضاء الامة، وفي هذه الظروف صدر دستور سنة 1923 فكيف صدر هذا الدستور؟ وهذا ما سأجيب عنه في الحلقة القادمة. |
نشرت فى 17 يونيو 2010
بواسطة azazystudy
الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
4,797,167
ساحة النقاش