‮< ‬ثورة سعد زغلول كذَّبت مقولة اللورد‮ "‬دوفريق‮": ‬كل أمة قضت دهراً‮ ‬في‮ ‬العبودية لا تصلح لها إلا اليد القوية
الحلقة الثالثة‮:‬ من سيحكم مصر؟ المستشار لبيب حليم‮ ‬يكشف أسباب عدم اختيار حاكم مصري‮ ‬قبل الثورة في‮ ‬يوم الاثنين‮ ‬13‮ ‬مايو سنة‮ ‬1805‮ ‬اجتمع ألوف الناس بجوار بيت القاضي‮ ‬بقرب الأزهر،‮ ‬واجتمع زعماء الشعب في‮ ‬داخل البيت،‮ ‬واستقر رأيهم علي اختيار محمد علي‮ ‬والياً‮ ‬علي مصر،‮ ‬وقام اليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي‮ ‬وألبساه الكرك والقفطان،‮ ‬وقام مقام الشعب في‮ ‬تشريفه وخلع حكم البلاد عليه،‮ ‬وقبل محمد علي‮ ‬علي أن‮ ‬يتسلم ذلك التشريف منهما وهما نائبان عن الشعب المصري‮.‬ واضطر السلطان أن‮ ‬يرضخ لارادة الشعب المصري،‮ ‬وارسل من قبله رسولاً‮ ‬يحمل فرمانا بتولية محمد علي،‮ ‬وقرئ المرسوم الذي‮ ‬يحمله الرسول علي الناس في‮ ‬18‮ ‬يوليه سنة‮ ‬1805،‮ ‬وحين أراد السلطان اعادة الحال الي ما كانت عليه وأرسل في‮ ‬يونيه سنة‮ ‬1806‮ ‬فرمانا بنقل محمد علي‮ ‬ثار الشعب ووقف للمرة الثانية بجوار محمد علي حتي‮ ‬اضطر السلطان الي الرضوخ لارادة الشعب وتجديد عهد الولاية لمحمد علي‮ ‬في‮ ‬اكتوبر سنة‮ ‬1806،‮ ‬فاذا كان الشعب قد نجح في‮ ‬فرض محمد علي‮ ‬علي السلطان رغم ارادته،‮ ‬فلماذا لم‮ ‬يختر الشعب المصري‮ ‬حاكماً‮ ‬من بين المصريين‮..‬؟‮!‬ ‮**‬ لا شك في‮ ‬أن الخلافة الاسلامية كانت السبب‮: ‬فالمصريون بطبعهم شعب متدين،‮ ‬والخلافة لها طابعها الديني‮ ‬المعروف،‮ ‬ولهذا دعوني‮ ‬اعترف بأن المصريين جميعاً‮ ‬كانوا‮ ‬يرون أن تعيين الوالي‮ ‬لن‮ ‬يكون شرعياً‮ ‬إلا اذا صادق عليه الخليفة،‮ ‬وإن الخليفة لا تحتمل مصادقته إلا علي والي‮ ‬من الأتراك‮.‬ واستكمل اعترافي‮ ‬وأقول‮: ‬إن صفة الخليفة الدينية كانت وراء كل الخيانات التي‮ ‬حدثت في‮ ‬كفاح مصر الحديث،‮ ‬من عهد علي بك الكبير حتي‮ ‬عهد عرابي،‮ ‬ولهذا أري أن كابوس الخلافة ظل السبب الوحيد الذي‮ ‬كان‮ ‬يعوق كل محاولة مصرية للانفصال عن الدولة العثمانية‮!!‬ علي أنه إذا كان محمد علي‮ ‬قد استبد بالحكم،‮ ‬فإن الشعب كان قد ألف بعض المجالس التي‮ ‬يستشيرها الحاكم دون إلزام،‮ ‬سواء في‮ ‬العهد العثماني‮ ‬قبل الاحتلال الفرنسي،‮ ‬أو أثناء الحملة الفرنسية،‮ ‬ولهذا فإن محمد علي‮ ‬قد لجأ الي تلك المجالس والدواوين مرة اخري،‮ ‬وحاول أن‮ ‬يضع نظاماً‮ ‬اساسياً‮ ‬للبلاد في‮ ‬سنة‮ ‬1837‭.‬ وإذا كان خلفاء محمد علي‮ ‬قد التزاموا الخطة التي‮ ‬سار عليها جدهم الأكبر،‮ ‬فانه‮ ‬يمكن أن تميز في‮ ‬مرحلة الملكية المطلقة ثلاث فترات مختلفة‮!!‬ الفترة الأولي من سنة‮ ‬1805‮ ‬الي سنة‮ ‬1863‮ ‬أي‮ ‬الفترة من عهد محمد علي‮ ‬إلي عهد اسماعيل،‮ ‬فما أن استتب الأمر لمحمد علي،‮ ‬حتي‮ ‬انشأ بجواره ديوانا‮ ‬يسمي‮ "‬ديوان الوالي‮" ‬استقل محمد علي‮ ‬بتعيين أعضائه،‮ ‬علي‮ ‬غير الخطة الي درج عليها الفرنسيون،‮ ‬وكان هذا المجلس‮ ‬يضم عالماً‮ ‬من كل مذهب من المذاهب الأربعة،‮ ‬وينعقد برئاسة الوالي‮ ‬او نائبه‮.‬ كما درج محمد علي‮ ‬علي دعوة مديري‮ ‬الدواوين والأعيان الي الاجتماع في‮ ‬شكل جمعية عمومية للنظر في‮ ‬المسائل الهامة‮.‬ علي أن محمد علي‮ ‬أراد أن‮ ‬يضع لمصر نظاماً‮ ‬أساسياً،‮ ‬ضمنه قانون‮ "‬السياستامة‮" ‬الصادر سنة‮ ‬1837‮ ‬والذي‮ ‬يمكن اعتباره مع شيء من التجاوز أول دستور لمصر في‮ ‬هذا العهد،‮ ‬اما النظام الذي‮ ‬وضعه هذا القانون فيقوم علي‮ ‬الأسس التالية‮:‬ لجنة المشورة‮: ‬وكانت تتكون من مديري‮ ‬الدواوين العامة والكبراء الذين‮ ‬يعينهم الوالي،‮ ‬وكانت هذه اللجنة تعقد في‮ ‬موعد‮ ‬يضرب مرة في‮ ‬كل سنة،‮ ‬فيتباحث أعضاؤها فيما تحتاج الحكومة الي النهوض به من المشروعات الكبري،‮ ‬ثم‮ ‬يقدمون قراراتهم بصدد هذه المشروعات الي الوالي،‮ ‬وهذا المجلس كان‮ ‬يقوم علي أساس التعيين،‮ ‬وكانت مهمته استشارية بحتة‮.‬ مهام الإدارة‮: ‬حصر محمد علي‮ ‬مهام الادارة في‮ ‬سبعة دواوين عامة،‮ ‬وهي‮: ‬ديوان الوالي،‮ ‬ديوان الايرادات،‮ ‬ديوان الجهادية،‮ ‬ديوان البحر،‮ ‬ديوان المدارس،‮ ‬ديوان الأمور الإفرنجية والتجارة المصرية،‮ ‬ديوان الفابريكات،‮ ‬وإذا كان هناك تشابه بين هذه الدواوين وبين الوزارات في‮ ‬الوقت الحاضر فإنها تختلف عنها اختلافاً‮ ‬بيناً،‮ ‬من حيث خضوع جميع الموظفين مباشرة للوالي،‮ ‬فكأن تلك الدواوين بمثابة المجالس الفنية تبدي‮ ‬فقط الرأي‮ ‬في‮ ‬المسائل الداخلة في‮ ‬اختصاصها‮.‬ ضمانات المصريين‮: ‬بالرغم من سلطات الوالي‮ ‬المطلقة،‮ ‬ومن عسفه الذي‮ ‬أدي الي هرب كثير من المواطنين وهجرتهم خارج البلاد،‮ ‬فإن النظام الأساسي‮ ‬في‮ ‬مصر كان‮ ‬يحتوي‮ ‬علي بعض الضمانات،‮ ‬وإن كان اعمال هذه الضمانات من الناحية العملية متروكا لحسن تصرف الحكام تحت رقابة الوالي‮!!‬ وترجع هذه الضمانات الي مصدرين‮: ‬المصدر الأول‮: ‬قانون السيستنامة ذاته،‮ ‬وقد تضمن بعض الضمانات حيث اوجب علي المديرين ومرؤوسيهم معاملة الناس بالعدل،‮ ‬وتحقيق شكاياتهم وتظلماتهم،‮ ‬ومنع الاعتداء عليهم،‮ ‬كما حرم علي الموظفين‮ - ‬كبارهم وصغارهم‮ - ‬استخدام الفلاحين قهراً‮ ‬في‮ ‬زراعة أراضيهم،‮ ‬أو أن‮ ‬يتعرضوا للفلاح بشيء‮ ‬غير المطالب الأميرية‮.‬ أما المصدر الثاني‮ ‬والأهم لحقوق المواطنين في‮ ‬مواجهة الوالي،‮ ‬فهو فرمان الخط الشريف الصادر سنة‮ ‬1839،‮ ‬وتنقسم هذه الضمانات الي قسمين‮: ‬الأول‮: ‬قسم‮ ‬يضمن المساواة المدنية ويشتمل علي المساواة في‮ ‬التوظيف،‮ ‬في‮ ‬الالتحاق بالمدارس الحكومي،‮ ‬في‮ ‬الخدمة العسكرية،‮ ‬امام القانون،‮ ‬امام القضاء‮.‬ والثاني‮ ‬يضمن الحرية الفردية،‮ ‬ويتضمن حماية الأفراد،‮ ‬حرمة الملك،‮ ‬حرمة المسكن حرية التجارة والعمل والصناعة‮.‬ تلك هي‮ ‬الخطوط العامة التي‮ ‬استنها محمد علي،‮ ‬والتي‮ ‬لم‮ ‬يخرج عليها كثيراً‮ ‬خليفتاه من بعده‮: ‬عباس الأول الذي‮ ‬عرف برجعيته الشديدة،‮ ‬واستبداده التام،‮ ‬وانحيازه الي الأتراك في‮ ‬كل شيء،‮ ‬كما سجل التاريخ عليه نشر الجهل بين المصريين،‮ ‬ولم تختلف سياسة سعيد باشا كثيراً‮ ‬عن سياسة عباس الأول فيما‮ ‬يتعلق بنظام الحكم،‮ ‬وإن كان سعيد قد انتهج سياسة اكثر تسامحاً‮ ‬في‮ ‬معاملة المصريين‮.‬ الفترة الثانية وهي‮ ‬عهد اسماعيل واوائل عهد توفيق،‮ ‬أي‮ ‬الفترة من سنة‮ ‬1836‮ ‬حتي‮ ‬سنة‮ ‬1882،‮ ‬فاذا كان محمد علي‮ ‬فشل في‮ ‬الاستقلال بمصر استقلالا تاماً‮ ‬عن تركيا،‮ ‬فإن حروبه الكثيرة والانتصارات الباهرة التي‮ ‬أحرزها جيش مصر،‮ ‬والهزائم المريرة التي‮ ‬ألحقها بالجيش العثماني،‮ ‬فقد خلقت لمصر وضعاً‮ ‬دولياً‮ ‬خاصا،‮ ‬اكتسب صفة قانونية بمقتضي‮ ‬المعاهدات التي‮ ‬جعلت ولاية مصر محصورة في‮ ‬أسرة محمد علي،‮ ‬وقيدت حق الباب العالي‮ ‬في‮ ‬عزل والي‮ ‬مصر،‮ ‬فلم‮ ‬يكن في‮ ‬مقدوره أن‮ ‬يفعل ذلك إلا إذا توافر شرطان‮:‬ الأول‮: ‬أن‮ ‬يكون الوالي‮ ‬قد أخل بالفرمانات أو الأوامر الشاهانية‮.‬ الثاني‮: ‬أن توافق علي العزل الدول التي‮ ‬وقعت علي معاهدة لندن سنة‮ ‬1840‭.‬ وبهذا أصبح لمصر استقلال داخلي‮ ‬فلما آل الامر الي اسماعيل،‮ ‬عمل بكافة الطرق علي زيادة هذا الاستقلال،‮ ‬فحصل علي لقب جديد‮ ‬يميزه عن سائر ولاة الأقاليم العثمانية،‮ ‬وهو لقب خديوي،‮ ‬كما نجح في‮ ‬تغيير نظام وراثة الحكم الذي‮ ‬كان مسلماً‮ ‬به من أيام محمد علي‮ ‬فجعله محصوراً‮ ‬في‮ ‬ذريته‮.‬ وفضلاًعن ذلك فإن اسماعيل كان‮ ‬يميل الي التقليد ومظاهر العظمة،‮ ‬وكان كثير التشبه بمحمد علي،‮ ‬فأنشأ جيشاً‮ ‬كبيراً،‮ ‬وسلحه تسليحاً‮ ‬حسنا،‮ ‬لكن عيوب الحكم المطلق أخذت تظهر بشكل واضح‮: ‬فلم‮ ‬يكن ثمة عدل ولا قانون،‮ ‬ولا قضاء‮ ‬ينتصف للمظلوم،‮ ‬ولا حرية ولا مساواة،‮ ‬ولا ضمانات قانونية تكفل للناس حقوقهم وحياتهم،‮ ‬وكان الضرب بالكرباج‮ ‬يتخذه الحكام وسيلة لتحصيل الأموال او اداة للقسوة والتعذيب‮.. ‬وكانت السخرة مضروبة علي البلاد،‮ ‬ولم تكن مقصورة علي المنافع والأعمال العامة،‮ ‬بل كانت تستخدم لاستصلاح أطيان ذوي‮ ‬السلطة والجاه والحكام والأمراء‮.‬ ولم تكن المظالم مقصورة علي طبقة دون أخري،‮ ‬بل كانت عامة‮ ‬يعانيها العامة والخاصة،‮ ‬ولم‮ ‬يكن‮ ‬ينجو من شرها إلا من كانت تشملهم رعاية أولي‮ ‬الأمر،‮ ‬علي أن هذه الرعاية لم تكن مضمونة بالبقاء،‮ ‬بل كثيراً‮ ‬ما تنقلب‮ ‬غدراً‮ ‬لغير ما سبب سوي أهواء الطغاة وتقلباتهم‮.‬ وحروب اسماعيل الكثيرة،‮ ‬ومظاهر البذخ والترف التي‮ ‬اندفع عليها علي حساب الشعب،‮ ‬وكثرة هداياه للباب العالي‮ ‬ورجاله حتي‮ ‬يمكنه تحقيق مآربه،‮ ‬كل ذلك أثقل كاهل الشعب بالضرائب،‮ ‬ولم تكن الحريات العامة مصونة من الناحية العملية بالرغم من النص عليها في‮ ‬الفرمانات الشاهانية‮!!‬ وزاد الطينة بلة،‮ ‬أن اسماعيل باشا،‮ ‬بعد أن نضب معين الشعب من الضرائب،‮ ‬لجأ الي الاستدانة،‮ ‬ففتح للتدخل الأجنبي‮ ‬بابا كان الأوروبيون‮ ‬يترقبونه منذ بدء اتصالهم بمصر،‮ ‬فاستغلوا الفرصة أسوأ استغلال‮.‬ كل ذلك أدي الي قيام الحركة الدستورية،‮ ‬فبدأت متواضعة أول الامر،‮ ‬إذا تمخضت عن لائحة تأسيس مجلس شوري النواب الصادرة في‮ ‬22‮ ‬أكتوبر سنة‮ ‬1866،‮ ‬ولكن الأحداث تتابعت بعد ذلك حتي‮ ‬انتهت الي اللائحة الاساسية الصادرة في‮ ‬7‮ ‬فبراير سنة‮ ‬1882،‮ ‬والتي‮ ‬تعد بحق أول دستور شعبي‮ ‬يضع نظاماً‮ ‬عصرياً‮ ‬لمصر الحديثة،‮ ‬ولو قدر لهذا الدستور أن‮ ‬يعيش لتغير تاريخنا كله،‮ ‬ولكن الاستعمار كان له بالمرصاد،‮ ‬فأطاح الدستور وبالاستقلال،‮ ‬وعطل تقدم مصر عشرات السنين‮!!‬ علي أنه مهما‮ ‬يكن من أمر هذه الفترة،‮ ‬فإنها قد تركت في‮ ‬مصر أثرين هامين‮: ‬أولاً‮: ‬العودة الي نظام المجالس المنتخبة،‮ ‬الثاني‮: ‬ظهور نظام الوزارة المسئولة‮!!‬ المجالس المنتخبة تحققت العودة الي نظام المجالس المنتخبة بمقتضي‮ ‬قانونين‮: ‬الأول‮: ‬هو اللائحة التأسيسية لمجلس شوري النواب وانتخاب اعضائه الصادر في‮ ‬22‮ ‬أكتوبر سنة‮ ‬1866‮ ‬و"نظامنامة‮" ‬المجلس الصادر في‮ ‬22‮ ‬أكتوبر سنة‮ ‬1866،‮ ‬والثاني‮: ‬اللائحة الأساسية الصادرة في‮ ‬7‮ ‬فبراير سنة‮ ‬1882‭.‬ وكل ما‮ ‬يحمد لنظام‮ ‬1886‮ ‬أنه أعاد مبدأ الانتخاب،‮ ‬اما فيما وراء ذلك فإنه نظام لا‮ ‬يمس مبدأ الحكم المطلق،‮ ‬ويجعل الكلمة الأخيرة لإرادة الخديوي،‮ ‬كان هذا المجلس‮ ‬يتكون من أعضاء منتخبين وفقا لتعداد الاقاليم،‮ ‬كانت وظيفته المداولة في‮ ‬المنافع الداخلية والتصورات التي‮ ‬تراها الحكومة أنها من خصائصه‮!!‬ ويروي‮ ‬التاريخ أن الخديو في‮ ‬حفلة افتتاح المجلس،‮ ‬ذكر للأعضاء أن التقاليد البرلمانية تجري‮ ‬علي أن‮ ‬يجلس مؤيدو الحكومة في‮ ‬الجانب الأيمن،‮ ‬والمعارضون في‮ ‬الجانب الأيسر،‮ ‬فاندفع الفريق الذي‮ ‬كان‮ ‬يجلس في‮ ‬الجانب الأيسر مصادفة الي المقاعد اليمني‮ ‬معلنين ولاءهم لولي‮ ‬النعم‮!!‬ أما اللائحة الأساسية الصادرة في‮ ‬فبراير سنة‮ ‬1882‮ ‬فهي‮ ‬بمثابة دستور أعده شريف باشا وقدمه الي مجلس النواب وصادق الخديو عليه،‮ ‬ويمتاز هذا الدستور بأنه كان ثمرة مجلس منتخب،‮ ‬كان‮ ‬يمثل الأمة تمثيلاً‮ ‬صحيحاً،‮ ‬وقد أخذ هذا الدستور بالنظام النيابي‮ ‬البرلماني‮.‬ والمعروف أنه لما ساءت حالة مصر المالية نتيجة لسنة الخديو اسماعيل،‮ ‬شكلت في‮ ‬سنة‮ ‬1878‮ ‬لجنة تحقيق لفحص الحالة المالية وقدمت تقريرها للخديوي،‮ ‬وكان أبرز ما فيه وجوب تكوين وزارة مسئولة‮!!‬ ولم‮ ‬يكن أمام الخديوي‮ ‬إلا قبول هذه التوصيات،‮ ‬فأصدر في‮ ‬28‮-‬8‮- ‬1878‮ ‬أمره بانشاء مجلس النظار،‮ ‬وجاء في‮ ‬ذلك الخطاب‮:‬ ‮(‬إنني‮ ‬اطلعت علي التغييرات التي‮ ‬حصلت في‮ ‬أحوالنا الداخلية والخارجية الناشئة عن تقلبات الأحوال،‮ ‬وأردت في‮ ‬وقت مباشرتكم لمأمورية تشكيل هيئة النظارة الجديدة،‮ ‬أن أؤكد لكم ما توجه قصدي‮ ‬إليه،‮ ‬وثبت عزمي‮ ‬عليه من إصلاح الإدارة وتنظيمها علي قواعد مماثلة للقواعد المرعية في‮ ‬إدارات ممالك أوروبا،‮ ‬وأريد عوضاً‮ ‬عن الانفراد بالأمر المتخذ الآن قاعدة في‮ ‬الحكومة المصرية،‮ ‬سلطة‮ ‬يكون لها إدارة عامة علي المصالح تعادلها قوة موازنة من مجلس النظارة،‮ ‬بمعني أني‮ ‬أروم القيام بالأمر من الآن فصاعداً‮ ‬باستعانة مجلس النظارة والمشاركة معه‮).‬ وهذا الخطاب من الأهمية لأنه وضع الأسس التي‮ ‬تقوم عليها السلطة التنفيذية،‮ ‬فقد انتهت لأول مرة في‮ ‬مصر السلطة الشخصية المطلقة للوالي،‮ ‬وانتقلت الي مجلس الوزراء،‮ ‬وأقر هذا الخطاب قاعدة العمل الجماعي‮ ‬في‮ ‬السياسة العامة،‮ ‬وألزم كل وزير بتنفيذ القرارات الصادرة من مجلس الوزراء بعد مصادقة الخديوي،‮ ‬وجعل رئاسة المجلس لوزير من الوزارة،‮ ‬صارت الوزارة تسمي باسمه‮!!‬ الفترة الثالثة دخل الانجليز مصر مساء‮ ‬3‮ ‬سبتمبر‮ ‬1882،‮ ‬وباحتلال الانجليز لمصر،‮ ‬أضحي وضعها القانوني‮ ‬شاذاً،‮ ‬فهي من الناحية الدولية مازالت معتبرة ولاية عثمانية،‮ ‬ومن الناحية الفعلية هي‮ ‬بلاد محتلة‮!!‬ ومن الناحية الدستورية كان دستور سنة‮ ‬1882‮ ‬لا‮ ‬يزال نافذا،‮ ‬ولكن السلطة بيد الخديو تحركه أيدي‮ ‬المستعمرين،‮ ‬ولكن انجلترا لم تطق بقاء الدستور،‮ ‬فرأي اللورد‮ "‬دوفريق‮" ‬إلغاء هذا الدستور،‮ ‬واقترح علي البلاد نظاما ضمنه تقريره الذي‮ ‬أعده في‮ ‬هذا الشأن،‮ ‬وجاء فيه‮:‬ ‮(‬إن هذا النظام الذي‮ ‬يقترحه لمصر،‮ ‬يجب أن‮ ‬يؤسس علي القاعدتين المسلم بهما عند الدول الحديثة‮: ‬الاستقلال الذاتي،‮ ‬والحكم الدستوري،‮ ‬أما الأول‮: ‬فليس في‮ ‬مقدور مصر الحصول عليه آجلاً،‮ ‬أما الثاني‮ ‬فلا‮ ‬يعقل أن تتمتع به إلا تدريجيا،‮ ‬إذا لا فائدة من منحها دستوراً‮ ‬علي الورق فإن ذلك قلما‮ ‬يوصل الي الغاية المنشودة،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن أن النظام الدستوري‮ ‬لا‮ ‬يستقر في‮ ‬أرض إلا إذا نما فيه ببطء،‮ ‬وتدرج مع الزمن،‮ ‬خصوصا في‮ ‬بلد كمصر،‮ ‬ليس فيه أثر للحرية الشخصية،‮ ‬ولا للحرية الدستورية،‮ ‬فإن الاستبداد لا‮ ‬يميت بذور هذه الحرية فحسب،‮ ‬بل‮ ‬يجعل الأرض التي‮ ‬يحل بها‮ ‬غير صالحة للإنبات،‮ ‬كل أمة قضت دهراً‮ ‬طويلاً‮ ‬في‮ ‬الرق والعبودية تكون اليد القوية أصلح لها من الحكم الدستوري‮ ‬اللين،‮ ‬علي أن ذلك لا‮ ‬يستوجب اليأس وفتور الهمة،‮ ‬فإنه وإن تكن الهيئات الاجتماعية في‮ ‬الشرق لم تقم الي الآن الا بقوة الاستبداد،‮ ‬فلا‮ ‬يغرب عن البال أن الخلف مازال‮ ‬يقتفي‮ ‬أثر السلف في‮ ‬عقد مجالس المشاورة في‮ ‬القري،‮ ‬وأن اصول الانتخاب،‮ ‬لم تزل مرعية ومعروفة في‮ ‬انتخاب مشايخ البلاد‮.‬ فإذا شيدنا صروح النظام النيابي‮ ‬علي الأسس الموجودة الآن،‮ ‬وسعينا في‮ ‬توسيع نطاقها بقدر ما‮ ‬يلاءم حاجات البلاد،‮ ‬نكون قد أقمنا نظاما ثابت الدعائم،‮ ‬وطيد الأركان،‮ ‬وهذا النظام‮ ‬ينحصر في‮ ‬إعطاء الأهالي‮ ‬حرية تامة في‮ ‬انتخاب نواب عنهم،‮ ‬وهذه هي‮ ‬الخطوة الأولي التي‮ ‬يمكن بها أن‮ ‬يتمتع الأهالي‮ ‬بالمزايا التي‮ ‬يراد منحهم إياها،‮ ‬فينتخب كل مركز أو كل قرية مندوبا ناخبا عنها‮ ‬يمثلها في‮ ‬الانتخابات العليا،‮ ‬وبذلك تكون آراء الأهالي‮ ‬قد انحصرت في‮ ‬هؤلاء المنتخبين‮.‬ وحينئذ‮ ‬يدعي‮ ‬الوكلاء المذكورون في‮ ‬كل مديرية لانتخاب اعضاء مجلس‮ ‬يشترك في‮ ‬المدير في‮ ‬ادارة مديريته،‮ ‬وهذا هو الحجر الثاني‮ ‬في‮ ‬بناء النظام المراد احداثه،‮ ‬ثم‮ ‬يأتي‮ ‬الحجر الثالث في‮ ‬بناء النظام الجديد وهو ايجاد مجلس عام‮!!‬ وعلي أساس التوجيهات السابقة صدر في‮ ‬أول مايو سنة‮ ‬1883‮ ‬القانون النظامي‮ ‬الجديد أعقبه صدور قانون نظامي‮ ‬آخر سنة‮ ‬1913‮!!‬ صنع الأول علي أساس التوجيهات التي‮ ‬رسمها اللورد دوفريق،‮ ‬وأول ما‮ ‬يمتاز به هذا الدستور هو تعدد المجالس،‮ ‬ومزج التعيين بالانتخاب،‮ ‬وجعل اختصاص المجالس استشاريا‮!!‬ ولما عين اللورد كتشر مندوبا ساميا لجأ الي تعديل هذا النظام فألغي القانون النظامي‮ ‬الصادر سنة‮ ‬1883،‮ ‬وأحل محل القانون النظام الجديد بمقتضي‮ ‬القانون رقم‮ ‬29‮ ‬لسنة‮ ‬1913،‮ ‬كما أصدر في‮ ‬اول‮ ‬يوليو سنة‮ ‬1913‮ ‬قانون الانتخاب الجديد‮.‬ والواقع ان القانون النظامي‮ ‬الجديد ليس الا طبعة مبسطة من القانون القديم،‮ ‬وكل ما استحدثه هو ما‮ ‬يلي‮:‬ 1‮- ‬عدل عن فكرة تعدد المجالس،‮ ‬وعاد الي تقليد المجلس الواحد‮.‬ 2‮- ‬استبقي‮ ‬فكرة الجمع بين التعيين والانتخاب،‮ ‬مع توسيع مجال الانتخاب قليلاً‮.‬ 3‮- ‬جمع المجلس الجديد بين اختصاصات مجلس شوري القوانين والجمعية العمومية‮!!‬ والمعروف ان الجمعية التشريعية انعقدت مرة واحدة في‮ ‬22‮-‬1‮-‬1914‮ ‬وظلت تباشر عملها حوالي‮ ‬خمسة أشهر تقريبا،‮ ‬وانتهي دور انعقادها الأول في‮ ‬17‮ ‬يونيه سنة‮ ‬1914،‮ ‬وكان المفروض أن‮ ‬يبدأ دور الانعقاد الثاني‮ ‬في‮ ‬أول نوفمبر من ذات العام،‮ ‬ولكن الحوادث توالت علي مصر،‮ ‬وشاء القدر ألا تنعقد الجمعية التشريعية مرة اخري‮!‬ الحماية‮!!‬ سافر الخديو عباس الي الآستانة في‮ ‬صيف‮ ‬1914،‮ ‬وأثناء اقامته هناك اعلنت الحرب العالمية الاولي،‮ ‬ولم‮ ‬يعد الخديو الي مصر فور إعلان الحرب كما كان‮ ‬يقتضيه الواجب،‮ ‬وقبل ان‮ ‬يحل دور انعقاد الجمعية التشريعية أصدر حسين رشدي‮ ‬رئيس الوزراء أمراً‮ ‬عالياً‮ ‬في‮ ‬18‮ ‬أكتوبر‮ ‬1914‮ ‬بتأجيل دور انعقاد الجمعية‮.‬ وفي‮ ‬5‮ ‬نوفمبر سنة‮ ‬1914‮ ‬اعلنت بريطانيا الحرب علي تركيا،‮ ‬وفي‮ ‬19‮ ‬ديسمبر سنة‮ ‬1914‮ ‬أعلنت الحماية علي مصر،‮ ‬كما أعلنت خلع الخديو عباس،‮ ‬وولت علي مصر حسين كامل بلقب جديد هو لقب سلطان مصر‮.‬ ولم‮ ‬يعمر حسين كامل طويلاً،‮ ‬فقد توفي في‮ ‬9‮ ‬أكتوبر سنة‮ ‬1917‮ ‬وخلفه السلطان فؤاد،‮ ‬ولما كان نظام الجمعية التشريعية لايزال قائما علي الأقل من الناحية النظرية فقد صدرت عدة مراسيم بتأجيل انعقاده،‮ ‬ثم صدر مرسوم بتأجيل اجتماع الجمعية الي‮ ‬أجل‮ ‬غير مسمي،‮ ‬وبهذا المرسوم أوقفت الحياة النيابية وأعلنت الأحاكم العرفية،‮ ‬وفقد المصريون استقلالهم كما فقدوا أيضا حرياتهم الشخصية‮.‬ كان الانجليز والفرنسيون وحلفاؤهم في‮ ‬الحرب العالمية الأولي‮ ‬يحملون شعار الدفاع عن حريات الشعوب وعن النظام الديمقراطي‮ ‬في‮ ‬مواجهة الملكيات المستبدة،‮ ‬وازدادت الشعوب المغلوبة علي أمرها اقتناعا بهذه الدعوة البراقة حينما اعلنت الهدنة مقرونة بتصريحات الرئيس الامريكي‮ ‬وودور ولسون عن حق الشعوب في‮ ‬تقرير مصيرها‮.‬ فسارع المصريون الي تكوين الوفد المصري‮ ‬برياسة سعد زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية،‮ ‬ونص علي أن الغرض من تكوين هذا الوفد هو السعي‮ ‬بالطرق السلمية لتحقيق استقلال مصر استقلالا تاماً‮.‬ وفي‮ ‬13‮ ‬نوفمبر‮ ‬1918‮ ‬توجه سعد زغلول وعلي‮ ‬شعراوي‮ ‬وعبد العزيز فهمي‮ ‬الي دار الحماية طالبين السماح لوفد مصري‮ ‬بالسفر الي أوروبا للدفاع عن قضية البلاد أمام مؤتمر فرساي‮ ‬فرفض الطلب،‮ ‬وهنا أيقن المصريون بضرورة النضال في‮ ‬سبيل الظفر بمطالبهم،‮ ‬ولما أحس الانجليز بما‮ ‬يتهيأ له المصريون،‮ ‬أقدموا علي نفي‮ ‬سعد زغلول ومعه اسماعيل صدقي‮ ‬ومحمد محمود وحمد الباسل الي مالطة‮.‬ وكان هذا العمل من جانب المحتلين هو الفتيل الذي‮ ‬فجر الثورة،‮ ‬ولجأت انجلترا الي كل وسائل العنف والارهاب لإخماد ثورة المصريين،‮ ‬فلم‮ ‬يجد ذلك نفعاً،‮ ‬وانقشعت الغشاوة عن عيون الانجليز الذين ظنوا أن المصريين قد ألفوا الذل والعبودية وأدركوا لأول مرة مدي عمق الثورة‮.‬ والحقيقة أن ثورة‮ ‬1919‮ ‬كانت ثورة شعبية لأول مرة،‮ ‬ويرجع إليها الفضل في‮ ‬انصهار جميع عناصر الشعب المصري‮ ‬في‮ ‬عنصر واحد لتحقيق‮ ‬غرض واحد‮.‬ أعترف أن الفكرة المصرية استقامت بقيام ثورة‮ ‬1919،‮ ‬وأن الحركة الوطنية بلغت نضجها الكامل،‮ ‬فقد كان الاستقلال الذي‮ ‬طالب به زعماء الثورة استقلالا سياسياً‮ ‬كاملاً‮ ‬مستنداً‮ ‬الي الوعي‮ ‬القومي‮ ‬في‮ ‬أقوي مظاهرة،‮ ‬وليس الي الوعي‮ ‬الديني،‮ ‬وكان مطلباً‮ ‬لا صلة له بدولة الخلافة‮.‬ من هنا كان طابع الثورة الواضح في‮ ‬تقوية الكيان المصري،‮ ‬واظهار الشعب بمظهر الوحدة السياسية المتكاملة فكان الاخاء بين الهلال والصليب،‮ ‬لم‮ ‬يعد الجهاد الوطني‮ ‬جهاداً‮ ‬دينياً،‮ ‬ولم‮ ‬يعد هذا الجهاد مقصوراً‮ ‬علي المسلمين بحسبانهم مسلمين ضد الانجليز بحسبانهم جنساً‮ ‬يدين بدين آخر،‮ ‬وإنما أصبح جهاد المصريين بحسبانهم شعبا له جنسيته وتقاليده‮.‬ تطورت الحوادث بعد ذلك سراعاً‮ ‬من مفاوضات وملاينة الي قبض ونفي‮ ‬مرة أخري،‮ ‬ولكن تلك المحاولات تحطمت علي صخرة الارادة الشعبية،‮ ‬فاضطرت انجلترا الي أن تصدر تصريح‮ ‬28‮ ‬فبراير سنة‮ ‬1922‮ ‬الذي‮ ‬اعترفت فيه باستقلال مصر،‮ ‬مع احتفاظ انجلترا بحق الدفاع عن مصر ضد كل اعتداء أجنبي،‮ ‬وحماية المصالح الأجنبية،‮ ‬وتأمين المواصلات البريطانية‮.‬ وإذا كان هذا التصريح اعترافاً‮ ‬من جانب واحد،‮ ‬وكان هذا التصريح الذي‮ ‬اقترن بعدة تحفظات جعلت هذا الاستقلال ظاهرياً‮ ‬فقد استنكره الشعب المصري،‮ ‬وكان من الضروري‮ ‬من ناحية اخري الاتفاق علي التحفظات التي‮ ‬صاحبت هذا التصريح مع ممثلين للشعب المصري،‮ ‬فكان من المتعين ايجاد نظام نيابي‮ ‬حديث‮ ‬يضمن رضاء الامة،‮ ‬وفي‮ ‬هذه الظروف صدر دستور سنة‮ ‬1923‮ ‬فكيف صدر هذا الدستور؟ وهذا ما سأجيب عنه في‮ ‬الحلقة القادمة‮.‬
 
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 173 مشاهدة
نشرت فى 17 يونيو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,797,167