هضم و تمثيل المعرفة مثل الغذاء و الدواء
العرب اونلاين – نبيل حاجى نائف* : يعرف الباحثون “الوجبة الفكرية” بانها عبارة عن منتج محسوس ذو بعد معرفى أو ثقافى أو فنى او كلها معاً، إن هذه الأنواع من الوجبات كانت وما زالت من الوجبات المطلوبة بشكل كبير، ويعمل الكثيرون فى إنتاجها وتسويقها لأن لها زبائنها. وإنتاج وتسويق هذه الوجبات أصبح يشمل مجالات وأنواع كثيرة وكل نوع من الوجبات يساعد فى نمو نوع معين من البنيات الفكرية أو الاجتماعية، أو الاقتصادية أو السياسية، ويحدث أحاسيس مرغوبة لدى متناوله “متلقيه”.
لقد نمت واتسعت وتنوعت بشكل كبير هذه الوجبات الفكرية التى تتعامل مع الفكر.
فهناك الوجبات الفكرية الشائعة والمنتشرة مثل انتشار الأكلات أو الأزياء الشعبية، وهى تنتشر فى مجموعات معينة، وتختلف من مجموعة لأخرى، ويحدث ما يشبه توارثها وانتقالها بالمحاكاة والتقليد.
وهناك الوجبات الفكرية- شبه الموروثة وهى تقريباً مفروضة – وهى تابعة لبنيات فكرية معينة، دينية، أو عقائدية، أو ثقافية.
وهناك كافة الفنون التى تقدم وجباتها عن طريق الأفكار واللغة أو بواسطة الصوت والصورة والمواد الأخرى.
ويراعى فى الوجبة الفكرية أن تكون ممتعة ومفيدة وتتلاءم مع طرق تناول وتذوق وهضم مستهلكها.
وتقييم الوجبات الفكرية يكون بناء على نوعية وكمية وجدة الأحاسيس والإفادة التى تحدثها، ويجب أن تراعى الدوافع والأحاسيس الموروثة والعادات المكتسبة للشخص المقدمة إليه، فمرجع تقييم الوجبة الفكرية هو الأفكار والأحاسيس التى تحدثها، وهذا له علاقة مع ما هو موجود سابقاً من أفكار وعقائد وعادات، ولا يمكن إحداث أحاسيس لدى إنسان ما إذا لم تتوفر لديه عناصر وآليات حدوثها، فالشعر مثلاً لا يمكن لكل إنسان تذوقه والشعور بالأحاسيس التى ينتجها، وكذلك الكثير من فنون الموسيقى والأدب…..
تناول الوجبات الفكرية
إن لكل إنسان قدراته الخاصة على تناول الوجبات أكانت المادية منها أو الفكرية، وبالنسبة للوجبات الفكرية والثقافية، فهناك من يتناول الأفكار المروية – المسموعة- فقط ، وهناك من يتناول الأفكار المكتوبة والمحكية، ولكل إنسان قدراته التى تسمح له بتناول وجبات فكرية ذات أنواع وخصائص معينة، ولكل إنسان قدراته على هضم وتمثل الوجبات الفكرية، وله دوافعه لتناولها.
وقدرات الذين يتناولون الوجبات الثقافية المقروءة هى خاصة بكل منهم، فهناك من يقرأ الممتع فقط أو يقرأ المفيد فقط، أو يقرأ فى كل مجال، وكل من يقرأ، يقرأ بما يناسب دوافعه وقدراته، وكذلك يكون هضمه وتمثله لما يقرأ متناسباً مع مقدراته ودوافعه، فمنهم من يقرأ فى الدين والعقائد فقط، أو الشعر أو القصة القصيرة، ومنهم من يقرأ الروايات والمسرحيات، ومنهم من يقرأ فى السياسة، ومنهم من يقرأ فى العلوم أو الفلسفة وعلم النفس …، ومنهم قارئ الصحف فقط .
وهناك قراء الكتب المميزون، فقراءة الكتب – وليس القصص والروايات وباقى فنون الأدب، ودون أن يكون ذلك مفروضاً- ليست بالأمر السهل فهى تستلزم قدرات ودوافع مميزة معينة.
فقراء الكتب هم فى طليعة المثقفين وهم الذين يدخلون عالم الفكر بشكل واسع وهم من يعرفون تذوق الوجبات الفكرية الدسمة التى لا يستطيع الكثيرون تذوقها أو تناولها، فالدخول إلى عالم الفكر يكون بقراءة الكتب والمقالات الثقافية والعلمية وبهضم وتمثل ما يقرأ.
ونحن نعلم أن بقراءة أى كتاب يتم استيعاب جزء صغير أو كبير من الأفكار المتضمنة فيه، ويكون ذلك حسب قدرات القارئ، وحسب مستوى و صعوبة الكتاب، فبعض الكتب تحتاج إلى أكثر من قراءة لاستيعاب الأفكار الأساسية المتضمنة فيها، ودوماً القراءة الثانية تزيد كمية الفهم والتمثل .
فالكتب المدرسية والجامعية تحتاج لعدة قراءات لاستيعاب أكبر كمية من الأفكار الموجودة فيها، والقدرة على الاستيعاب الأفكار المقروءة تزداد وتنمو بالقراءة المستمرة .
” هضم الكتاب”، ” تمثله”، ” التهمه”: ليست هذه الاستعارة التى تلجأ لها اللغة اليومية” ومنذ أقدم الأزمنة” استعارات بريئة. فتكرارها يوحي، كما الترجمة، بأن التهام كتاب ينطوى على أبعاد، كتملك النص المقروء وتهديمه وتحويله.
والقراءة، كالترجمة، بمعنى أنها تمثل نص آخر أو أجنبى وإكماله معاً.
ولقد أوضح أندريه جيد ذلك : قرأت هذا الكتاب، وبعد أن قرأته طويته، ووضعته فوق رف المكتبة.
ولكن فى هذا الكتاب كلام لا يمكننى أن أنساه. لقد دخل فى نفسى عميقاً إلى حد أننى لا أميزه عن ذاتي. بعده ما عدت كما كنت قبل أن أعرفه.
والقراءة ليست قراءة الكتب فقط، فهى استقبال الرسالة وفك رموزها والتعرف على مضمونها أو فهمها حسب قدرات القارئ، ونحن نقول قرأ فى السماء فى النجوم “قرأ الطالع”، ونقول قرأ خطوط اليد قرأ فى الفنجان، ونقول قرأ فى الزهور أى عرف لغة الزهور، ونقول قرأ الشيفرة أى فك رموزها، ونقول قرأ تعابير الوجه وحركات الجسم، ونقول قرأ جيولوجية الأرض وفك رموزها وعرف دلالاتها. . . الخ، أننا نقرأ الرسائل أو الدلالات التى تؤثر بنا والتى تهمنا ويستطيع عقلنا إنارتها بفك رموزها، ونفهم أو نفسر ما نقرأ حسب ميولنا وقدراتنا الحسية والعقلية، لذلك لكل منا قراءاته الخاصة به لهذا الوجود.
و”نحن نسعى لتأويل الرموز المقروءة عندما تتناقض أو تختلط مع بعضها، ولكى نستطيع توفيق ودمج ما نقرأه مع ما اكتسبناه من معارف ومفاهيم ومعاني”.
الوجبات التى يقدمها التلفزيون
لقد أخذ التلفزيون الآن – أى نقل الأفكار والأحاسيس بالصوت والصورة- الدور الأول فى تقديم الوجبات الفكرية سواء كانت ثقافية أو فنية، وأصبح التلفزيون وبمساعدة الفيديو والكومبيوتر والإنترنيت المصدر الأول لنقل وتقديم الوجبات الفكرية والثقافية والفنية، فالقدرات الهائلة المتاحة لنقل المعلومات والأفكار والأحاسيس بواسطة الصوت والصورة، والمترافقة مع القدرات التكنولوجية والفكرية والعلمية والفنية التى مكنت من إنتاج البرامج المتنوعة، سمحت بتمثيل وتصوير ونقل كم هائل من الأفكار والأحاسيس وفى كافة المجالات الثقافية والعلمية والفنية، وقد تم ذلك بسهولة وسرعة كبيرة، فهذه القدرات سمحت بتمثيل ونقل أعقد وأصعب البنيات الفكرية والحسية، وقد ترافق ذلك مع اتساع وعمومية النشر لأكبر عدد من الناس، وللصغار والكبار، وللرجال والنساء، والمتعلم والأمى .
إن هذا قلص كثيراً من دور الكتاب وكان تأثيره كبيراً عليه، فوجبة الكتاب أصبحت ثقيلة جداً مقارنة بالوجبات التى تقدم عن طريق الصوت والصورة، وقل عدد الذين يتناولونها، بينما بقى الإقبال على الصحف والمجلات كما هو لأنها من الوجبات السهلة والبسيطة والتى تلبى رغبة آنية- وهذا راجع للعمل والتكنولوجيا المبذولين فى تحضيرها- وهى تستخدم الصورة بشكل كبير.
وقد دخل التلفزيون فى كافة المجالات بما فيها مجال الكتاب فهناك برامج تقدم مضمون الكتب وتناقشها، وكذلك تقدم المدارس الفكرية والمذاهب الفلسفية، وتقدم بشكل خاص الأفكار والتعاليم الدينية والسياسية والعلمية والثقافية، وبفاعلية وجودة عالية.
لقد أصبح ما ينقل بالصوت والصورة هو الذى يكون الرأى العام المتشابه وشبه الموحد، فهو ينقل ويسجل أو يصور فى أذهان كافة المتلقين، لقد صار التلفزيون يقدم تغذية فكرية وحسية شبه موحدة لكافة المتلقين وهذا ما وحد كثيراً الرأى لديهم، وبالتالى قام بتوحيد الأهداف والغايات الأساسية لأغلب المتلقين، فقد أصبحت التغذية الفكرية والحسية متشابهة وهذا يفرض تشابه التوجهات والنمو لدى المتلقين.
ولكن ما يبث وينشر يشكل كماً هائلاً وكل متلق يتلقى جزءاً يسيراً مما يبث وهذا يبقى الفروق واسعة بين المتلقين، صحيح أن هناك الكثير من الأخبار الهامة تكون متشابهة وشبه موحدة ولكن يظل الكثير مما ينشر مختلفاً ومتنوعاً بشكل هائل فيظل أمام المتلقى خيارات كثيرة متاحة فيما يريد أن يتلقاه.
ومثلما أن هناك خلف كل كتاب يصدر يوجد المؤلف والناشر والموزع والقدرات التجارية والتكنولوجية والسياسية، كذلك هناك خلف ما يحضر وما يبث بالصوت والصورة توجد القدرات الفكرية الفنية والتجارية والسياسية والتكنولوجية، فالسينما والبرامج والكومبيوتر والإنترنيت، والقوى والقدرات العلمية والتكنولوجية والسياسية والتجارية والعقائدية، كلها خلف ما يقدمه التلفزيون، وهذا أكبر بشكل كبير مما يقدم للمقروء- للكتاب-، فوراء التلفزيون الحكومات والشركات الكبيرة…، فهى تقرر ما يقدم من توجيهات سياسية وعقائدية وتجارية وعلمية وثقافية وفنية، فهناك بعض البرامج التى فاقت الكتاب فيما تقدمه من وجبات دسمة وهامة ومفيدة، مثل برنامج الكون، وتاريخ الطيران، وتاريخ البترول، وكان يا ما كان الحياة، وأفريقيا، والأرض، …..، والكثير الكثير من البرامج الوثائقية و غيرها، وأصبحت المدارس والجامعات وغيرها تستخدم الصوت والصورة بشكل أساسى فى التعليم والتوجيه .
إن للصورة قدرات على ترميز ونقل المعلومات أكثر من قدرات الصوت واللغة بآلاف المرات وهذا الذى أعطى للنقل بالصوت واللغة والصورة مجتمعة هذه القدرات الهائلة فى ترميز ونقل المعلومات والتأثيرات وتحقيق تقديم الوجبات الفكرية والحسية، وفى كافة المجالات .
إننا بواسطة الصوت والصورة نستطيع ترميز ونقل كم هائل من الأفكار والأحاسيس، وذلك نتيجة الإشراط القوى الذى نملكه و باقى آليات عمل الدماغ، فالكثير من الأفكار والأحاسيس والانفعالات نستطيع ترميزها ونقلها للآخرين بواسطة الصوت واللغة والصورة . فقد كانت اللغة المحكية والإشارات والتعبيرات تقوم بذلك، ثم قامت اللغة المكتوبة بذلك وكانت أقل كفاءة، والآن نقوم بذلك بالصوت والصورة واللغة بالإضافة إلى القدرات الفنية والتكنولوجية المتطورة.
الوجبة الثقافية وتمثلها
إن أى نص- كلام- مقروء أو مسموع مقدم هو بمثابة وجبة ثقافية- فكرية أو فنية-، وتمثل وهضم هذه الوجبة مثله مثل تمثل أى وجبة أخرى، فهناك:
أولاً الرغبة والدافع لتناولها.
وثانياً القدرة على فهم و استيعاب- هضم وتمثل – هذه الوجبة.
وثالثاً نتائج هذا الهضم وكميته، النتائج الفكرية والحسية والمادية- أى النتائج الفزيولوجية والعصبية التى حدثت فى الدماغ-.
وكما فى كل وجبة يجب أن تقدم بشكل مناسب يشجع على تناولها، وأن تكون مقدمة للذين يستطيعون تناولها وهضمها ويرغبون بذلك، وكل نص لغوى مقروء أو مسموع يؤثر بمتلقيه حسب خصائص وطبيعة هذا المتلقي، بالإضافة لخصائص هذا النص، أى أن كل نص لا يؤثر بكافة متلقيه بنفس الطريقة، بل حسب خصائص كل منهم، فيمكن أن يفيد البعض ولا يفيد البعض الآخر ويمكن أن يمتع البعض ولا يمتع البعض الآخر، ويمكن أن يعجب البعض ولا يعجب البعض الآخر.
وكذلك يمكن أن نعتبر تقديم أى نص هو بمثابة تواصل مع المقدم لهم وتأثير باتجاه واحد، أو باتجاهين إذا كان هناك رد ونقاش، وتقديم أى نص يخضع لنظرية و قوانين وآليات الاتصال كما ذكرنا .
والفرق الهام بين النص الفكرى العلمى والنص الأدبى الفنى هو نتيجة الهضم والتمثل لكل منهما، ففى النص العلمى أو الفلسفى يجب أن يتطابق أو يتشابه ما يتم تمثله من قبل المتلقى مع ما يفكر فيه ويقصده مقدم النص، أما فى النص الأدبى الفنى فالمهم هو الأحاسيس والانفعالات والأفكار التى يحدثها النص لدى متلقيه ولا يهم كثيراً التطابق بين ما يفكر به ويقصده منتج النص، وما يحدثه لدى متلقى النص، فالمهم هو ما يعزفه النص من أفكار وأحاسيس ومشاعر لدى المتلقي، فالتذوق الجمالى والفنى والحسى هو الهدف الأساسى للنص الأدبي، وفى النص العلمى والفلسفى والعقائدى الأحاسيس والمشاعر أيضاً لها دور، فالتذوق الفكرى والفلسفى مطلوب أيضاً لما يحدث من أحاسيس، والأفكار العلمية والفلسفية والعقائدية إن لم تعزف أحاسيس ومعانى مرغوبة فى النهاية لا تحقق تقبلاً وانتشاراً بين متلقيها، فالمطلوب هو المفيد والممتع معاً.
إذاً الأدب يقدم أمتع وأعمق وأوسع الوجبات الفكرية والحسية، وإنه يحقق الفهم العميق للحياة، وكذلك الإحساس بها، بالإضافة إلى أنه يسهل فهم الوجود بكافة أشكاله.
فهذا الفن يعزف غالبية الأحاسيس والعواطف والانفعالات والأفكار وبأفضل وأسهل طريقة وبحدود واسعة جداً، ويقدم وجبات لا تخضع كثيراً للإشباع السريع كوجبات الطعام والشراب والجنس وغيرها، وهذا يفسر الإقبال الذى ليس له نظير على وجبات هذا الفن.
مثال على تذوق الأدب . لقد تذوق أحد القراء، ” فاوست ” لغوته، فوجدها كما يلي:
خفة الدم والفكاهة
الشجن والحزن والإحباط والمأساة
الحكمة والفكر النير
الهزل وعدم الجدية
الإلغاز
الإيقاع النغمى والوزن الشعري
الوفاء والجد
الشك
السحر والخيال والرومانسية
السخرية
لذلك كانت بالنسبة له وجبة فنية أدبية رائعة لأنها استطاعت أن تعزف مشاعر وأفكار وانف عالات كثيرة ومتنوعة وفى تناغم وانسجام .
إن لكل فرد قدراته الذاتية على تذوق الوجبات الأدبية، و يجب توفر قدرات خاصة فكرية وحسية وانفعالية لتذوق الأعمال الفنية الأدبية مثل “فاوست”.
تذوق الرياضيات
أننا جميعاً نتذوق الطعام والشراب وكافة الأحاسيس الجسدية اللذيذة والجميلة، وكذلك جميعنا يتذوق الموسيقى والكثير من الفنون الأخرى وأغلبنا يتذوق الأدب، ولكن القليل منا من يتذوق الأحاسيس و اللّذات الفكرية والفلسفية والروحية، والقليل القليل من يتذوق الّلذات الفكرية الرياضية، وهذا راجع إلى التعامل مع الرياضيات على أنها أفكار مجردة ضعيفة الاتصال مع الواقع العينى الحسى الملموس المعاش، لقد أهمل السعى إلى ربط الرياضيات بالواقع بشكل واضح وجلى وأهمل تحميلها الأحاسيس الجمالية والأحاسيس اللذيذة، وكان إذا تم ذلك وصفت الرياضيات بالتناسق والتناظر اللذين هما أسس الجمال، ولكن ظل الإحساس بهذا التناظر والتناسق ضعيفاً وصعب التذوق وغير واضح للأغلبية.
إن الذين استطاعوا تذوق الّلذات الفكرية الرياضية وخبروا وعرفوا هذه اللّذات غالبيتهم لم يسعوا إلى تعليم أو تعريف غيرهم بهذه الّلذات الفكرية، فقد كان هذا صعباً فى أغلب الأحيان لأنه يتطلب قدرات ورغبات غير متوفرة لدى غالبيتهم لكى يستطيعوا تعليم تذوق الرياضيات، وهذه القدرات هى التمكٌن من التفكير الرياضى وتذوقه والقدرة على إيجاد الروابط التى تسمح بربط التفكير الرياضى المجرد بالواقع والأحاسيس، أى القدرة على نقل و شرح الأفكار الرياضية وجعلها قابلة للإحساس والتذوق.
فالسعادة أو اللذة التى يشعر بها من يبرهن على نظرية هندسية باكتشافه التناظر والدقة المطلقة عندما يجد أن الحل مبنى على ترابط واقع فكرى مطلق الدقة والصحة ولا يمكن أن يكون إلا كذلك وأى حل آخر غير صحيح بشكل واضح وحتمي، فهذه الدهشة والتعجب- وهى لذة من نوع خاص- التى يشعر بها هى نتيجة هذه الرابطات والدقة والحتمية التى اكتشفها، ويمكن أن نشبه هذا بما يشعر به أغلبنا عند سماعه نكتة جميلة- مع ملاحظة أن تذوق النكتة يحتاج إلى قدرات عقلية متطورة-، فالتعجب و المفاجأة والإدهاش بالإضافة للدقة وحتمية الصحة أو حتمية الخطأ هو ما يميز الأحاسيس الناتجة عن التفكير الرياضى .
عندما كان عشاق الرياضيات و متذوقوها يتنافسون ويتراهنون على الوصول إلى حل “المعادلة من الدرجة الثالثة “المستعصي، ويبذل كل منهم مئات وآلاف الساعات فى التفكير للوصول إلى الحل ويجد دوما الطرق مسدودة، ثم يتوصل أحدهم إلى الحل، فهذا الذى توصل إلى الحل شعر وأحس حتماً بشعور هائل بنشوة الفوز وبالتالى السعادة والرضا، إنه تذوق التفكير الرياضى فى أعلى مستوياته وهو الوصول إلى الحل الصعب – و من الحلول الصعبة التى تم الوصول إلى حلها حساب محيط الدائرة ومساحة الدائرة والكثير غيرها، لقد طلب الرياضي” فيرما” أن يضع على قبره أنه أوجد الرقم 34 بعد الفاصلة لحساب “البي”، لقد كان يعتبر ما أنجزه عملاً خارقاً يعتز به ويستحق إعلانه بفخر لأنه بذلك استطاع الوصول إلى دقة عالية جداً لحساب “البي” التى يحسب محيط أو مساحة الدائرة وحجم الكرة بناء عليها.
لقد كان الفيثاغورثيون من متذوقى الرياضيات وقد قدسوا الرياضيات لأنهم عرفوها و تذوقوها. فتذوق الأفكار الفلسفية والروحية والعلمية والرياضية هو من ألذ وأقوى وأمتع الأحاسيس .
إن صانع أو منتج أى وجبة بحاجة إلى مستهلك هذه الوجبة، فأكبر عبقرى فى الأدب أو فى الموسيقى أو فى الرسم أو فى الطبخ أو أى فن آخر هو بحاجة إلى الذى يتناول وجبته ويستطيع هضمها وتذوقها، ولن تطلب وجبته إذا لم يوجد من يسعى لاستهلاكها ويكون قادراً على هضمها و تذوقها ويشعر ويدرك عبقرية إنتاجه .
لذلك فإن أنواع وطبيعة المتلقين أو المستهلكين هى التى تحدد و تقرر أى الوجبات تسوق وتنتشر، فالفنان مهما كان مبدعاً ولكن لا يسوق إنتاجه هو مبدع غير مؤثر ويبقى مهملاً- يمكن أن يأتى من يتذوق إنتاجه بعد زمن، أو يسوق إنتاجه فى مكان آخر- .
لذلك يجب على أى مبدع إذا أراد أن لا يهمل إنتاجه، وأن ينجح فى تسويقه ونشره، أن يقدم ما يمكن أن يقبل ويهضم ويتم تذوقه من قبل المقدم لهم.
وهناك تشابه كبير بين مبادئ وآليات الاتصال وآليات تسويق الوجبات، فالوجبة هى بمثابة رسالة إلى الزبون أو المستهلك ولا يكفى تقديمها له فيجب:
أولاً أن يريدها أو يقبل بتناولها، وأن يعتبر نفسه قادر على تناوله.
وثانياً يجب أن يكون قادر على دفع الجهد والمال مقابل تناولها.
وبالنسبة للرسالة إن كانت نص أدبى أو علمى يكون الدفع مقابلها نقود أو شيء آخر إذا كانت مرغوبة لما تحدث من لذة الفكرية، وكذلك بذل الجهد والوقت فى تناولها وهضمها، وهذا دفع من نوع آخر.
وهذا معناه أنه يجب تحضير متلقى الرسالة – أو الوجبة- لكى يقبل باستلامها ويدفع مقابلها، وهنا يظهر دور الإعلان والدعاية، ويظهر تأثير المعرفة التى تسمح لنا بتحديد إلى من نوجه رسائلنا أو وجباتنا ويقبلوا باستلامها والدفع مقابل ذلك.
لذلك إن أى رسالة أو نص أو وجبة مهما كانوا مفيدين أو ممتعين لا يمكن تسويقهم إذا لم يقبل المرسل لهم باستلامهم ويقبل أن يدفع مقابلهم.
والآن أصبح هناك من يملك المهارة والقدرة التى تمكنه من تسويق أغلب الوجبات الفكرية والفنية وبغض النظر عن طبيعتها، فقد أصبح الآن للتسويق علم يتحكم به وبغض النظر عن قيمة أو نوع السلعة المراد تسويقها، فالتأثير الإعلامى المتاح الآن فى التسويق يمكٌن مستخدميه من تسويق أغلب السلع سواء كانت فكرية أو فنية أو مادية.
وصار بالامكان خلق أو تكوين دوافع ورغبات وحاجات لأغلب السلع التى نريد تسويقها، أى بالإمكان تسويق أى نوع من الوجبات مهما كانت مناسبة أو غير مناسبة لمستهلكيها أو مشتريها، وذلك بخلق الدافع أو الحاجة إلى هذه الوجبات بطريق من الطرق الكثيرة المتاحة فى التحكم بدوافع المستهلكين وجذبهم إليها، وهذا صار له تأثيراته الكبيرة على الكثير من البنيات الاجتماعية .
وجبة الأفكار والمعلومات التى يستطيع عقل الإنسان تناولها وهضمها.
إننا ننظر إلى الانفجار الإعلامى نظرة غير واقعية فنتكلم عن كم المعلومات والمعارف الهائل ودقة بعضها العالية جداً وتوفرها فى أى مجال نظرى أم عملي، ولكننا ننسى قدراتنا الجسمية والعقلية التى تسمح لنا بالتناول والهضم والتمثل – المحدود جداً- لهذا الكم الهائل من المعلومات.
إن استطاعتنا للتعامل مع هذا الكم من المعارف والأفكار هزيلة جداً جداً، فنحن نظن أننا قادرين على التعامل مع هذه المعارف، ولا ننتبه إلى قدرات جسمنا وعقلنا وذاكرته المحدودة جداً، وغير الدقيقة.
لذا فإن أصعب مهمة تواجهنا هى اختيار المجال الذى سوف يمتص أو يستهلك قدراتنا الفكرية- أى استطاعتنا على التناول والهضم والتمثل الفكري- .
فنحن كأفراد لن ولا نستطيع التعامل إلا مع كمية صغيرة جداً جداً مما هو موجود من معارف، وبقول آخر إننا نملك القليل من القدرات التى نستطيع بها تناول وامتلاك كمية المعارف.
فالمشكلة الأساسية هى ماذا نختار وكيف نختار صرف قدراتنا للحصول على أفضل وأمتع ما يمكن لنا.
* كاتب سورى فى العلوم الانسانية
<!-- You can start editing here. -->
ساحة النقاش