شعب التوارث عزل خورشيد باشا واختار محمد علي حاكما رغم أنف السلطان المستشار لبيب حليم يروي قصة كفاح المصريين ضد الظلم: منذ أن عرف أرسطو الديمقراطية بأنها نظام للحكم تتركز سلطته العليا في يد الشعب، أصبحت الديمقراطية الشغل الشاغل لمعظم أنظمة الحكم علي مر العصور وفي مختلف البقاع، وبالرغم من أن الديمقراطية بدأت مع فجر التفكير الحضاري للإنسان فإنها مازالت تجد من العقبات ما يسد الطريق أمامها، خاصة أن الإنسان غير الناضج فكريا يهتم دائما بالاستمتاع بالجانب الأول منها وهو الحرية، علي حين يحاول باستمرار التهرب من الجانب الآخر لها وهو المسئولية، والممارسة الديمقراطية بدون مسئولية تتحول الي فوضي شاملة، وبدون حرية تتحول الي سجن ديكتاتوري، وفي كلتا الحالتين تنتفي الديمقراطية تماما، من هنا كان التحام الحرية بالمسئولية في المجتمع الديمقراطي، ومن هنا أيضا كانت الصعوبات التي تعوق تطبيقها علي الوجه المنشود، لذلك فالديمقراطية هي أصعب أشكال الحكم، ومازالت هذه الصعوبة موجودة برغم أن الديمقراطية كانت قد أرست تقاليدها منذ ما يزيد علي ألفين وخمسمائة سنة في اليونان القديمة. منذ ذلك الحين ظل البشر يحاولون الوصول الي النظام المثالي للحكم، النظام الذي يكفل لهم الحرية والمساواة، ويشيع الرفاهية والسعادة في حياتهم، لكن الديمقراطية كانت تبدو مثل لمحات مضيئة لا تلبث أن تتلاشي في أفق الصراع الوحشي الرهيب، ظل الحال هكذا حتي مطلع القرن العشرين عندما تحول العالم الي وحدة إنسانية بفعل ثورة تكنولوجيا الاتصالات. من هنا كان الصدي الذي يحدث عند بقية شعوب العالم، إذا ثار الشعب من أجل تحقيق الديمقراطية والحرية والمساواة والحوالة الاجتماعية، فلم تعد المسافات بعازل بين مختلف الشعوب، لذلك اصطبغت الديمقراطية بالصبغة العالمية حتي بلغت حد البديهية الإنسانية التي لا يختلف حولها اثنان، وإذا اختلفنا ففي التفاصيل وأساليب التطبيق التي قد تختلف من مجتمع لآخر طبقا لظروفه المحلية والموضوعية، وأحيانا أخري يكون الاختلاف نتيجة لأهداف خفية أولأغراض ذاتية، أما جوهر الديمقراطية في حد ذاته فلا يمكن أن يكون محل جدل أو مساجلة!! موقعة مرج دابق وإذا كان في تاريخ الشعوب كما في تاريخ الأفراد، نقط سوداء وحوادث لها أسوأ الآثار في مجري حياتها فإن موقعة مرج دابق التي هزم فيها الجيش المصري بقيادة السلطان قنصوه الغوري بواسطة الجيوش العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول في أغسطس سنة 1516 تعتبر أعتم نقطة سوداء في تاريخ مصر زادتها قتامة هزيمة الجيوش المصرية في موقعة الريدانية في 22 يناير سنة 1517 ميلادية. فمنذ هذا التاريخ ضعفت مكانة مصر في الشرق، وعمل سلاطين آل عثمان علي إضعاف البلاد في شتي مرافق الحياة، ولم تقتصر شرورهم علي مصر بل شملت سائر أنحاء البلاد العربية وليس بغريب أن يتقرر مصير مصر والعالم العربي قرب مدينة حلب، ويرجع خطورة هذا التاريخ عندي الي أنه عزل شعب مصر عن حكم بلاده بضعة قرون من الزمان، وأورثنا تلك التفرقة الممقوتة في شعب مصر بين الفلاحين وغير الفلاحين!! نقط سوداء حقيقة إن زمام الحكم كان قد آل الي غير المصريين حتي قبل أن يجثم الاحتلال العثماني علي صدر مصر، فقد نشأ في مصر تقليد غريب كان الحكم بمقتضاه لطائفة من الفرسان، ينشأون صغارا وهم مماليك يشتريهم الأمراء الكبار، ويربونهم علي طريقة خاصة من التعليم والتدريب حتي يصيروا فرسانا مهرة، ويحذقوا فنون الحكم علي الأساليب المتوارثة، حتي إذا بلغوا مبلغ الرجال تدرجوا في مناصب الدولة المختلفة، وكان يختارون من بينهم حاكم مصر!! ومن المسلم به أن هؤلاء المماليك لم يكونوا مصريي المولد، ولكنهم اتخذوا مصر وطنا، ولم يكن لهم وطن غيرها، وكثيرا ما عملوا علي رفعتها وعلو شأنها، ويكفيهم فخرا أنهم وقفوا في وجه الغزاة الذين أرادوا بمصر سوءا، فصدوا غزاة الغرب الذين جاءوا للاستعمار تحت شعار الدين، وهزموا جبابرة التتار الذين دكوا دار الخلافة في بغداد، ولم يصمد في وجوههم إلا الجيش المصري بقيادة المماليك. وعمل الظاهر بيبرس علي إحياء الخلافة العباسية في القاهرة، وترتب علي ذلك أن فوض الخليفة العباسي الجديد الملك الظاهر بيبرس في حكم الديار المصرية والبلاد الشامية، والديار بكرية والحجاز واليمنية والفراتية وما يتجدد من الفتوحات غورا ونجدا.. فلما آل أمر مصر الي العثمانيين عمل السلطان سليم الأول علي أن تظل كلمة تركيا هي العليا في مصر باستمرار، وتفتق ذهنه عن توزيع السلطة بين جهات متنافرة، حتي لا تتاح لإحداها أن تستأثر بالحكم، وتهدد سلطان تركيا في مصر، هذا فضلا عن سلبه مقومات الفن والحضارة من مصر بصفة عامة، والقاهرة بصفة خاصة مما تفصله كتب التاريخ. وصدر »القانوتنامة« سنة 1925 مبينا نظام الحكم الذي استحدثه الفاتح العثماني، وبمقتضي هذا النظام وزعت السلطة في مصر بين هيئات ثلاث: الوالي: وهو عثماني يعينه السلطان لمدد قصيرة، لا تزيد علي سنة واحدة، حتي لا تتاح له مهلة لتمكين سلطانه ونفوذه في البلاد، وكان الوالي يتلقي أوامره من الباب العالي مباشرة، وهوالذي يحاسبه عن كيفية الحكم في البلاد، وكان للوالي نائب يسمي »كتخدا« أو »كخيا«. الديوانان: كان هناك ديوانان الأكبر والأصغر، الأكبر كان مجلسا استشاريا، يبدي رأيه في المسائل المهمة، وكان له أن يوقف أوامر الوالي، أويستأنفها لدي الباب العالي أحيانا، وله الحق في طلب عزل الوالي. وكان يرأس هذا المجلس نائب الوالي أما أعضاؤه فيشملون أمين السجلات الملكية وأمين المالية وممثلي وحدات الجيش، وأمير الحج، وفقيه المذاهب الأربعة، وبعض العلماء. أما الديوان الأصغر فقد أنشئ فيما بعد، وكان يجتمع للنظر في المسائل العادية ويتكون من الكخيا وأمين السجلات وأمين المالية ومن مندوب واحد عن كل وجاقة من الوجاقات. البكوات: وكان عددهم 24، ويتولون حكم البلاد، يعينهم الوالي بموافقة الديوان الأكبر، وكانوا يعينون أولا من ضباط الجيش ثم صاروا يختارون من بين المماليك، وكان أهمهم حاكم القاهرة!! هذا النظام كان يكفل تحقيق الغرض الذي أنشئ من أجله، وهو إضعاف السلطة في مصر لصالح السلطان العثماني، ولهذا لم يكن غريبا معه أن تنحط جميع مرافق الحياة في ظل الحكم التركي الطويل، إذ أصبح هم الولاة جمع أكبر قدر ممكن من المال قبل مغادرة البلاد، وكان سبيلهم الي ذلك التعذيب والإرهاب مما أورث لغتنا اصطلاح »الكرباج التركي«!! الكرباج وزادت المصائب بضعف الدولة التركية، وزيادة الاضطرابات في البلاد، إذ حاول المماليك الاستئثار بالحكم مرة أخري كما كان شأنهم قبل الحكم العثماني، ونجح بعضهم في أن يعيد الي البلاد بغص سيرتها الأولي.. وحفظ لنا التاريخ أسماء الأمراء: إسماعيل بن إيواظ الذي حكم البلاد قرابة 13 عاما، ومحمد بن قطامش، وعثمان بك ذو الفقار، والأميرين إبراهيم ورضوان اللذان حكما البلاد ثماني سنوات مستقرة، ولكن أكبرهم جميعا علي بك الكبير الذي استقل بمصر وكاد يخلص مصر من نير الاستعمار التركي، وكاد ينجح لولا أن لعبت الخيانة دورها، إذ استطاعت الدولة العثمانية أن تغري قائده محمد بك أبي الدهب علي خيانة بلده وسيده، مقابل أن يكون حاكما علي مصر من قبلها فأعادت بذلك سلطتها الاسمية علي مصر. وإذا استثنيت تلك الفترات القصيرة، التي تمثل في نظري بريق الشهب في ظلمة الليل البهيم أجد أن العهد التركي كان أكبر كارثة مرت بمصر في تاريخها الطويل، فقد أهملت الحكومات باستمرار شتي مرافق الحياة، ولولا أن احتفظ الأزهر بقبس الثقافة المصرية مشتعلا، لحاق بالبلاد العربية جميعا شر مستطير، وأهم ما يعنيني في هذا العهد هو انعزال الشعب عن شئون الحكم، كان شعب مصر منذ أول الفتح العثماني منحي عن التدخل في أمور السياسة بوجه عام، إلا إذا عددنا بعض الأعضاء المصريين في الديوان الذي كان ينعقد بين حين وحين في القلعة للإشارة علي الباشا في أمر يطلب فيه المشورة أو للتفاوض في شأن من الشئون المهمة أو لتلقي أوامر السلطان العثماني إذا هو أرسل فرمانا في أمر من أمور الدولة، وإنه ليكون من المغالاة أن أقول: إن مثل هذا النظام يمكن أن أسميه نظاما شوريا أو أنفيه تقديرا للمصريين أو إشراكا لممثلي الشعب في شئون الدولة. وأصبح مستقرا في الأذهان أن أمر الحكم لا يصلح له الفلاحون وصارت العلاقة بين جمهور الشعب وبين حكامه، علاقة حذر وريبة وخوف مما لا نزال نلمس آثاره جميعا حتي اليوم. ولكن المشاركة في شئون الحكم شيء، والرضوخ للظلم شيء آخر، فقد حفظت لنا كتب التاريخ انتفاضات مهمة للشعب المصري في مواجهة حكامه المستبدين من المماليك والعثمانيين علي حد سواء، من ذلك علي سبيل المثال: 1 ـ أن المصريين قد أصابهم سنة 1702 ميلادية غبن من وراء تزييف النقود، فاجتمعوا ودخلوا الجامع الأزهر، وشكوا أمرهم الي العلماء، وألزموهم بالركوب معهم الي الديوان، فأمر الباشا باجتماع عام يحضره الأمراء والقاضي التركي وقواد فرق الجيش ونقيب الأشراف وكبار العلماء، ونظر المجتمعون في الأمر، واستقر رأيهم علي خطة محددة تحفظ مصلحة الناس وتزيل وجه شكواهم. 2 - ولما آل الحكم الي الطاغيتين إبراهيم ومراد استشري الفساد، فلم يجد الشعب مناصا من الكفاح ذودا عن حقوقه، وتحكمي لنا كتب التاريخ أن خصومة قامت بين فرد من أفراد الشعب وبين أمير من كبارالأمراء حول وقف من الأوقاف، فحكم القضاء ضد الأمير، فأبي واستكبر ورفض أن ينصاع لحكم القضاء، فهب الشعب، وعلي رأسه عالم فاضل هو الشيخ الدردير، فأغلق الناس حوانيتهم لينظروا مآل النضال بين الحق والقوة. وأوشك الأمر أن يؤدي الي فوضي شاملة، لولا أن جزع عقلاء الأمراء من ذلك الاضطراب، وأشفقوا من تلك الحال، فاجتمعوا وتشاوروا ثم أرسلوا الي الأمير المعاند، فلاموه علي وقفته، وأمروه بالنزول علي ما أراد القانون فأذعن وهو كاره. ولم يرض العلماء أن يدعوا الأمر يفلت من أيديهم بغير حق مسجل يكتسبونه للناس فطلبوا أن تكتب لهم وثيقة بالحق المكتسب وكتب لهم صلح رسمي به شروط علي الأمراء، وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه العرف. 3 - وفي سنة 1795، اشتدت وطأة أحد الأمراء علي أهل بلبيس في تحصيل الأموال، فالتجأ الفلاحون الي الشيخ الشرقاوي ليحميهم، فبدأ الشيخ بمخاطبة مراد إبراهيم، فلما لم يجد لمسعاه أثرا في إصلاح الحال بالطريق السلمي، دعا الي الثورة. ووجد الشيخ الشرقاوي النفوس مستعدة لدعوته، فاجتمع له كثير من أهل القاهرة ومن أهل الأطراف، وأوشك الأمر أن يؤدي الي ثورة دموية مدمرة، وقضت القاهرة ثلاثة أيام في اضطراب وخوف، والناس مصرون علي أن يقف الحكام عند حد العدل والحق أو يواصلوا الجهاد، وإن أدي الي إراقة الدماء، وبذل الأموال والأنفس، فرأي كبار الأمراء أن الأمر يوشك أن ينتهي الي اضطراب لا قبل لهم به فنزل الباشا الي بيت إبراهيم بك، واجتمع الأمراء هناك وأرسلوا الي المشايخ، فحضرالشيخ السادات والسيد النقيب والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير.. ودار الكلام بينهم، وطال الحديث وانحط الأمر علي أن الأمراء تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وانعقد الصلح علي شروط منها أن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم الي أموال الناس، وأن يسيروا في الناس سيرة حسنة. وكان القاضي حاضرا بالمجلس فكتب حجة عليهم بذلك »فرمق« عليها الباشا وختم عليها إبراهيم بك وأرسلها الي مراد بك فختم عليها أيضا، وانجلت الواقعة ورجع المشايخ وحول كل منهم وأمامه وخلفه جملة من العامة. الاحتلال الفرنسي بالرغم من الوثيقة التي وقعها الطاغيتان إبراهيم دواد، فإنهما لم يرعويا عن غيهما، بل عادا إلي سيرة الفساد والتخريب، حتي فاجأتهما القوات الفرنسية التي نزلت قرب الإسكندرية في 3 يوليه سنة 1798 وانتظر الشعب ماذا يفعل حكامه من المماليك والعثمانيين!! ولكن هؤلاء لم يستطيعوا ثباتا، ونجح الفرنجة لأول مرة في احتلال مصر، علي أنه إذا كان الشر أحيانا ينطوي علي بعض جوانب الخير، فإن الاحتلال الفرنسي قد فتح بابا لا نهاية له لبلورة القوي الكامنة في شعب مصر، التي حجبها كابوس الاحتلال العثماني وطغيان المماليك.. ذلك أن الاحتلال الفرنسي لمصر، قد أدي إلي نتيجتين هامتين: الأولي: تنحصر في اعتماد الشعب علي نفسه في تحرير بلده، فإذا كانت جيوش المماليك، والعثمانيين قد ولت الأدبار، وانها - ما كان لها من هيبة في أعين الفلاحين، فإن الشعب المصري وجد نفسه وجها لوجه أمام أجانب لا يمتون إليه بصلة، فكافحهم بقدر ما تسمح به ظروفه، وثار في وجه الفرنسيين مرتين: الأولي في أكتوبر سنة 1798، والثانية في مارس سنة 1800. وبالرغم من فشل الثورة الأولي، ومن الانتقام الذي أنزله بونابرت بالمصريين فان الشعب المصري عامة لم يتردد في انتهاز الفرصة سنة 1800 للوقوف في وجه الدخلاء، فنادوا علي عمر مكرم، وهتفوا باسمه.. واجتمع في قلوب الشعب عامة عوامل تدفعه وتذكي حماسته.. فلم يكن إلا أن صاح السيد عمر صيحته، ورددها جماعة من الزعماء أمثال السيد أحمد المحروقي حتي هبت الثورة المصرية الكبري التي دامت تضطرب في القاهرة سبعة وثلاثين يوما، ودخلت في أثنائها قلوب المصريين في بوتقة الانصطهار ليتكون منها شعب جديد، يتقارب فيه الأمير من العامي، ويمتزج فيه الكبير بالصغير، وتنبع من غمرات ذلك أمة حديثة، يحس فيها الفرد بأنه للمجموع، ويحس فيها المجموع بأنه من الأفراد. وإذا كانت الثورتان قد فشلتا عسكرياً، فقد كان لهما آثار سياسية بعيدة المدي، ويكفي أن الشعب المصري قد أحس بوجوده، واستعاد ثقته بنفسه بحيث يمكن اعتبار هاتين الثورتين فاتحة خير لكفاح الشعب المصري في العصر الحديث. استمالة المصريين الثانية: فترجع إلي الخطة التي سار عليها الفرنسيون في استمالة المصريين إلي جانبهم، فقد حاول نابليون بونابرت وحلفاؤه من بعده، أن يجعلوا للمصريين رأيا في حكم بلادهم، فأنشأوا لأول مرة مجالس منتخبة من بين المصريين، وبدأ نابليون تلك المحاولة بإنشاء الديوان العام الذي يتكون من 180 عضوا يمثلون مختلف الأقاليم وكان يمثل كل أقليم ثلاثة من رجال الفقه، وثلاثة من التجار، وثلاثة من الفلاحين، وشيخ البلد وشيخ من العربان، وكانت مهمة هذا المجلس التداول في شئون الحكم، وإبداء الرأي للقائد الفرنسي في مختلف الشئون. وقد أعيد تنظيم هذا المجلس في ديسمبر سنة 1798، وأنقص أعضاؤه إلي ستين عضواً، وأنشئ بجواره ديوان صغير يضم 14 عضواً لينظر في المسائل الجارية، وقد روعي في تكوين الديوان التمثيل الطائفي فكان من بين أعضائه ثمانية أعضاء من المسلمين، وعضوان لكل من الأقباط والسوريين والأوروبيين. وبالتالي فان هذه المحاولات الجادة من جانب الفرنسيين لإشراك المصريين في تسيير أمور بلادهم، والفشل الذريع الذي مني به كل من الأتراك والعثمانيين، وإطلاع المصريين علي ثمرات التقدم العلمي لدي الفرنسيين.. كل ذلك قد أعاد الثقة إلي أبناء الشعب في أنفسهم وقضي علي أسطورة المماليك والفلاحين!! محمد علي!! وما أن جلا الفرنسيون عن مصر، حتي رجع إليها العثمانيون وفلول المماليك، وعاد الجميع إلي سيرتهم الأولي من الطغيان والاستبداد، ولم يلقوا بالا إلي التطور العميق الذي ولده الاستعمار الفرنسي القصير في نفوس أفراد الشعب المصري. وبدأت المعركة سافرة بين العثمانيين والمماليك، كل يتربص بالدوائر بصاحبه حتي يخلو له الجو، ولم يقم أي من الطرفين وزنا للشعب المصري، ولم يدرك حقيقة التطور الذي حدث في نطاق الشعب إلا أحد الضباط الألبانيين المغمورين، عمل بالرغم من أميته، علي الاستفادة من هذا الوضع لصالحه الخاص، ووفق في ذلك إلي أبعد مدي متصور. إذ نجح في إقامة الأسرة المالكة العلوية، التي ارتبط تاريخها بتاريخ مصر الحديثة. كان خورشيد الوالي الذي عينه الباب العالي لحكم مصر قد جلب أخلاطا من الجنود الأرناؤوط لحماية نفسه، فأعملوا في الناس السلب والنهب، وهتك الأعراض والقتل، فسار أهل القاهرة إلي العلماء، واجتمعوا في رحاب الأزهر، وتداولوا في أمرهم، فظن خورشيد ان محمد علي هو الذي يوقد نار الفتنة، فأستصدر قراراً من السلطان بنقله إلي جدة واليا عليها. وقبل أن ينفذ محمد علي الأمر اجتمع الناس ألوفا بجوار بيت القاضي بالقرب من الأزهر في يوم الاثنين 13 مايو سنة 1805، واجتمع زعماء الشعب في داخل البيت، واستقر رأيهم علي اختيار محمد علي واليا علي مصر بإرادتهم، وقام إليه عمر مكرم والشيخ الشرقاوي فألبساه الكرك والقفطان، وقاما مقام الشعب في تشريعه وخلع حكم البلاد عليه، وقبل محمد علي أن يتسلم ذلك التشريف منهما وهما نائبان عن الشعب المصري. ولما ذهب رسل الشعب إلي الوالي العثماني خورشيد، قال لهم قولته المشهورة: لقد ولاني السلطان ولن يعزلني الفلاحون!!، ولكن الشعب حاصر السلطان ومن معه من الجند في القلعة، وقاتلوهم قتالاً عنيفاً لمدة شهرين حتي اضطر السلطان لأن يرضخ لإرادة الفلاحين مكرها، فأرسل من قبله رسولا يحمل فرمانا بتنحية خورشيد وتولية محمد علي. وقرئ المرسوم الذي يحمله المرسوم علي الناس في 18 يوليه سنة 1805، وهكذا لم يكن عمل السلطان إلا تصديقاً علي ما ارتآه الشعب.. ويحكي لنا التاريخ ان الوالي خورشيد لما أشتد عليه حصار المصريين، طلب ان يرسل إليهم رسولا من قبله لمناقشتهم، فلما قبلوا، أرسل إليهم جماعة من قبله كانا رئيسهم أحد اتباعه من الأرناؤوط، واسمه عمر بك وقابلهم جماعة من المصريين الثائرين، كان علي رأسهم عمر مكرم، وانعقد الاجتماع في بيت حسن باشا الأرناؤوط وسأل عمر بك - رسول خورشيد - قائلاً: كيف تثورون علي من ولاه السلطان عليكم، وقد قال الله يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعو الرسول وأولي الأمر منكم«؟، فأجابه عمر مكرم قائلاً: ألا فأعلم أن أولي الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل؛ وهذا الحاكم الذي أرسلكم ما هو إلا رجل ظالم خارج علي قانون البلاد وشريعتها. عزل خورشيد فلقد كان لأهل مصر دائما الحق في أن يعزلوا الوالي إذا أساء ولم يرض الناس عنه، علي أنني لا أكتفي بذكر ما جرت عليه عادة البلاد منذ الأزمنة القديمة، بل أذكر لك أن السلطان أو الخليفة نفسه إذا سار في الناس سيرة الجور والظلم كان لهم عزله وخلعه. وهكذا يحكي لنا التاريخ ويؤكد ان عمل السلطان لم يكن إلا تصديقاً علي ما ارتآه الشعب، ولهذا فقد حملها السلطان في نفسه، وأراد بعد ذلك أن يعزل محمد علي لإعادة الحال إلي ما كان عليه قبل الحملة الفرنسية، فأرسل في يونيه سنة 1806 فرمانا بنقل محمد علي إلي سلانيك وتولية موسي باشا بدله. ولكن الشعب وقف بجوار محمد علي للمرة الثانية، يذود عنه، حتي اضطر السلطان للمرة الثانية إلي تجديد عهد الولاية لمحمد علي في أكتوبر سنة 1806! هكذا كان موقف الشعب من محمد علي، فماذا كان موقف محمد علي من الشعب؟!. لقد آلف الشعب أن يكون له الكلمة في أمر حكومته، وأن يدافع عن نفسه ضد الدخلاء، ولكن محمد علي إذا كان قد انضم إلي جانب الشعب، فإنه قد فعل ذلك لغاية في نفسه، أما وقد نال مآربه، فإنه قد بيت النية علي أن يعزل الشعب عن أمور الحكم مرة أخري!! انقلاب الحاكم حين نزلت الحملة الإنجليزية في رشيد، وذهب إليها وفد من المصريين علي رأسهم السيد عمر مكرم يعرضون المساهمة في الدفاع عن بلدهم، أخبرهم أن واجب النضال والجهاد قد سقط عنهم بعد أن صارت قوة الدولة كفيلة بالدفاع، وأن واجبهم يقتصر علي دفع نفقات الجند ومؤونة الحرب!! ولما اشتدت وطأة الضرائب علي الشعب، ولجأ إلي حقه الطبيعي في التظلم منها، ووجد محمد علي في السيد عمر مكرم مدافعاً عنيداً عن حقوق المصريين، نسي سابق أياديه، وخلعه من نقابة الأشراف ثم نفاه إلي دمياط، وبرر فعلته للسلطان بأن علماء وزعماء أبلغوه أنه أدخل في سجل الأشراف أسماء أشخاص ممن أسلموا من المسيحيين واليهود!! ولما عاد عمر مكرم إلي القاهرة محطما في يناير سنة 1819 لم يطق محمد علي بقاءه حين أحس أن الناس قد لحقهم الضر من الضرائب وأنهم قد يلجأون إليه فأمر بنفيه إلي طنطا حتي توفي هناك سنة 1837. ومما يحزن أن محمد علي أعلن في غير مواربة أنه لن يعتمد في حكم مصر إلا علي القوة، وانه لن يدخل شعب مصر في أمور الدولة مرة أخري، وضمن هذا المعني قانون »السياستنامة« الذي وضع به نظام الحكم في مصر سنة 1837!! وقد يسألني البعض: إذا كان الشعب المصري قد نجح في فرض محمد علي السلطان رغم إرادته، فلماذا لم يختر الشعب حاكماً من بين المصريين؟! هذا ما سأجيبه لك في الحلقة القادمة! |
نشرت فى 11 يونيو 2010
بواسطة azazystudy
الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
4,823,573
ساحة النقاش