فى البدء كان النهر، ثم المجرى والمصب، ومن بعد جاء المصرى، ليشمه النيل بصفات وطباع، يحفر داخل جيناته بعضاً منه، ويرسم بخطوط من ماء بروفايل لشخصيته، يؤثر عليه وفيه، ويكتب خريطة لصفات لا يحملها إلى المصرى.
فى دراسة عن شخصية المواطن المصرى، يحلل الدكتور محمد المهدى، استشارى الطب النفسى، شخصية المصرى وتأثير النيل عليها بقوله: «ترك النيل بصماته على شخصية المصرى فى صورة ميل إلى الوداعة والطمأنينة والهدوء وطول البال والدعابة والمرح والتفاؤل والوسطية وحب الحياة .
وهى الصفات التى لا يدركها الباحث بوضوح إلا عند المقارنة بين المصرى وبين صفات من يعيشون فى بيئات مهددة مليئة بالعواصف والنوّات على سواحل البحار والمحيطات الهائجة، أو من يعيشون فى بيئة صحراوية أو جبلية شديدة القسوة والفقر والجفاف، أو من يعيشون فى غابات مليئة بالحيوانات المفترسة يتوقعون الخطر فى كل لحظة، أو من يعيشون فى القطبين تحت العواصف الثلجية ويلبسون ثياباً ثقيلة تحد من حركتهم وتلقائيتهم وتخنقهم تحت ثقلها».
ويقول جوستاف لوبون فى كتابه «الحضارة المصرية القديمة»: «إذا كان المصرى قد شعر بالسأم من سهوله الوضاءة المشرقة، فإنه قد جهل الآلام المفزعة التى تنشأ على شواطئ البحار الموحشة، وفى خلال الشفق الأحمر تحت السماء المتقلبة الغادرة».
وكما أعطى النيل المصرى طبيعة سمحة بسيطة، منحه أيضاً شعورا زائدا بالطمأنينة والسكينة وصل به فى بعض الأحيان إلى حالة من الكسل والتواكل والسلبية والتسليم بالأمر الواقع والميل إلى الاستقرار الذى يصل أحيانا إلى حالة من الجمود.
فالشخصية المصرية مثل الطبيعة المصرية لا تتغير بسهولة أو بسرعة، بل تميل إلى الاستقرار والوداعة والمهادنة وتثبيت الوضع القائم كلما أمكن والتصادق معه وقبوله. وهذه الصفات خدمت إلى حد كبير كل من حكموا مصر على مدار التاريخ حيث كان ميل المصرى للوداعة والطمأنينة والاستقرار يفوق ميله للثورة والتغيير، وربما يكمن هذا العامل وراء الحالة المزمنة من الحكم الاستبدادى على مدار التاريخ المصرى، فقد كان الحاكم يبدأ بسيطاً متواضعاً ثم بطول المدة واستقرار الأوضاع تتمدد ذاته على أرض الوادى الخصيب وسط أناس طيبين مسالمين وادعين.
يذكر ابن خلدون فى مقدمته: «إن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح، والخفة، والغفلة عن العواقب». وهو ما يفسر، حسب «المهدى»، أن المصريين كانوا يحكمون بواسطة حكام أجانب معظم مراحل تاريخهم، وكانوا يقبلون ذلك سماحة أو طيبة أو غفلة أو تهاونا أو رغبة فى الراحة والاستقرار. وحين كانت تشتد بهم الخطوب نتيجة عسف الحاكم الأجنبى المستبد والمستغل، كانوا يستعينون بالنكات اللاذعة والسخرية لتخفيف إحساسهم بالمرارة مما يعانون، وكان سلاح السخرية يؤجل الثورة وربما يجهضها لأنه يعمل على تنفيس الغضب الكامن.
وهى الطبيعة التى فرضها نهر النيل وأرساها فى الشخصية المصرية بسبب الطبيعة الزراعية المستقرة على شاطئيه حتى أصبحت هذه الحالة جزءاً من صفاتهم الأصيلة لقرون طويلة وتحولت مع الوقت إلى حالة من فرط الاستقرار، يمكن أن نطلق عليها وصف «الجمود»، على اعتبار أنه «ليس بالإمكان أبدع مما كان»، «اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفوش».
وبسبب الطبيعة الزراعية التى فرضها النيل على الشخصية المصرية اتسمت علاقة المصرى بالوقت بالتراخى وفرط الطمأنينة، فالمصرى القديم تعود على أن يبذر البذرة ثم ينتظر نموها بعد فترة غالبا تطول لشهور وليس مطلوبا منه شىء غير بعض الرعاية البسيطة حيث إن خصوبة الأرض نتيجة ما يجلبه النيل من طمى وسهولة الرى تجعل عملية الزراعة أكثر بساطة وأقل عناء. وهو ما أعطى للمصرى إحساسا بالطمأنينة وامتداد الزمن فلا داعى للعجلة حيث إن الأمور ستأخذ وقتها مهما حاولنا استعجالها، وهذا الشعور الممتد بالزمن يجعل مسألة الالتزام بالمواعيد عملية صعبة لدى كثير من المصريين.
وهذا بالطبع يختلف عن المجتمعات الصناعية التى تشعر بقيمة الوقت وتسارعه فالوقوف أمام الآلة يستلزم يقظة وانتباها، كما أن آلية العمل الصناعى بما فيه من ارتباطات دقيقة تفرض على المجتمع التزاماً شديداً بالوقت.
ويرجع معظم المفكرين والباحثين العلاقة السلبية للمصريين بالسلطة على مر العصور وتعرضهم على طول تاريخهم لفترات استعمار واستبداد وقهر وتسلط إلى نهر النيل، خاصة أن الحاكم فى مصر يتحكم فى ماء النيل، العنصر الأساسى فى عملية الزراعة، ففى مجتمع النهر عادة يصبح الحكم مركزيا، يتحكم فى شريان الحياة لسائر الناس، وهذا عكس المجتمع الرعوى الذى يعتمد على المطر وبالتالى تكون حركته وإرادته فردية ومستقلة نسبيا ويحكمه نشاط المطر الذى لا يتحكم فيه فرد محدد.
|
ساحة النقاش