الشعر والشكل
بقلم: د. علاء عبدالهادى


من الواضح أن هوية العمل الشعري تكمن علي وجه التحديد في أن هناك شيئا ما يكون مقدما‏'‏ ليفهم‏',‏ أي أنه يطالبنا بأن نفهم ما يقوله‏,‏

 

 أو ما يقصده‏.'‏ فالعمل الشعري يعلن تحديا ينتظر منا التصدي له‏.‏ وهو يتطلب ردا لا يمكن أن يمنحه إلا الشخص الذي قبل هذا التحدي فحسب‏',‏ وأظن أنني لا أعدو الحق لو قلت إن أول عتبة نصية تشد انتباه القاريء إلي المقروء هي عنوان النص الخارجي‏,‏ وطريقة كتابته‏,‏ وفي هذا ما يدل علي أن سؤال النوع بعامة‏,‏ والنوع الشعري بخاصة‏,‏ هو سؤال قد يسبق القراءة‏,‏ وعلي الرغم من نقص كفاية عتبة العنوان النوعي للنص‏,‏ أو شكل كتابته‏,‏ لإثبات شعرية النص‏,‏ فإنهما صحيحان دائما إذا ما توافر بعد ذلك في المقروء ما أسميناه‏'‏ المعني الشعري‏'‏ الدال علي شعرية النص‏.‏ وتظل طريقة الكتابة‏,‏ أو عتبة العمل الأولي‏,‏ وعنوانها علي غلاف الكتاب الخارجي‏,‏ مشيرا أول إلي نوع النص‏..‏
يؤثر الشكل الشعري‏,‏ في طريقة قراءتنا لأبيات القصيدة‏,‏ فإذا جاء النص في إهاب شعري علي مستوي الشكل‏,‏ مقسما إلي سطور شعرية‏,‏ تشير من البداية إلي قصد كاتبه النوعي‏,‏ فإن ذلك يثير انتباه القاريء إلي الطبيعة النوعية للنص‏,‏ وإلي وجود‏'‏ معني شعري‏'‏ ما فيه‏,‏ فإذا وجده‏,‏ تمكن حينها من فهم السبب من وراء كتابة هذا النص علي هيئة الشعر‏.‏ فلشكل الكتابة الشعرية أهمية كبيرة في شد انتباه القاريء إلي نوع العمل الأدبي‏.‏
يجعلنا‏'‏ الشكل الشعري نهتم بالأبيات في لحظة‏,‏ وننبر مقاطع بأعينها‏,‏ لا تنبر في أصلها عندما تكون في إطار نثر غير شعري‏',‏ مثلما يجبرنا نظام التشطير في الكتابة علي الالتفات إلي‏'‏ المعني الشعري‏',‏ وذلك عبر الفراغات التي يضمها كل سطر‏,‏ أو عبر الفراغات التي قد تفصل سطرا شعريا عن آخر‏,‏ أو مقطعا شعريا عن آخر‏,'‏ ولكي يكتسب النص وظيفة شعرية‏,‏ يتحتم أن يكون ماثلا في وعي القارئ توقع الشعر‏,‏ والاعتراف بإمكانية أن يكون‏,‏ كما يتحتم أن تتوافر في النص ذاته تلك‏'‏ العلامات‏'‏ المعنية التي تتيح إمكانية الاعتراف بشعرية النص‏,‏ والحد الأدني من انتقاء هذه‏'‏ العلامات‏'‏ هو الذي نستقبله بصفته‏'‏ الخواص الأساسية المميزة‏'‏ للنص الشعري‏'‏ كما يذهب إلي ذلك الناقد الروسي يوري لوتمان‏.‏ ويري لوتمان أنه من النتائج المهمة لهذا قدرتنا علي رصد عدد من قوانين العلاقة بين البنية الشعرية والبنية اللغوية العامة‏,‏ من خلال الشكل الكتابي للنص‏,‏ ففي أية لغة طبيعية لا يمثل الشكل الكتابي‏_‏ أسلوبا‏,‏ أو نظاما تعبيريا خاصا‏,‏ بل يطرح نفسه بصفته تسجيلا تحريريا للصورة الشفوية للغة‏'‏ فحسب‏.‏ علي عكس الكتابة في النص الشعري المعاصر‏.‏
وقد أثرت طرائق الكتابة الشعرية المعاصرة علي بني النص الشعري‏,‏ بما اقترحته هذه الكتابة من إمكانات جديدة من الوصل والقطع بين أجزاء القصيدة علي المستويات الدلالية‏,‏ والنوعية‏,‏ والشكلية‏,‏ ذلك لأن عالم الشكل أكثر دقة وانتظاما ودلالة من نظرتنا الآلية العابرة إليه‏.‏ أما الحضور القوي للشكل في النصوص الشعرية المعاصرة فيرجع إلي اهتمام مجموعة مهمة من الشعراء في العالمين الغربي‏,‏ والعربي‏,‏ بطرائق الكتابة الشعرية‏,‏ وشكول حضور النص فوق فضاء الصفحة‏,‏ فضلا عن اهتمامهم بالتوظيف الشعري الدلالي للفراغات بين المقاطع والأسطر‏,‏ واستخدام الدوائر والمربعات والمثلثات وغيرها‏,‏ وتوظيف الصورة‏,‏ والفن التشكيلي‏,‏ والعلامات‏...‏ إلخ‏.‏ الأمر الذي شكل نقطة انطلاق جديدة أكدت أن اتجاهات الشعرية العربية الآن قد انتقلت من مركز الشفاهة‏/‏ السمع‏,‏ إلي مركز جديد هو القراءة‏/‏ البصر‏,‏ وفي هذا ما يشير‏-‏ من جهة أخري‏-‏ إلي تحول القصيدة المعاصرة‏,‏ في عدد من تجلياتها العربية والعالمية‏,‏ إلي نص شعري تشكل فضاءه الكلي مقاطع مختلفة‏,‏ لكل منها أسلوبه المختلف‏,‏ لكنها في مجموعها‏,‏ وتركيبها‏,‏ تبني لحمة النص الشعري‏,‏ فالكل أكبر من مجموع اجزائه‏,‏ وهذا ما يربط حضور الشعر بشعرية الخطاب في كليته لا بشعرية كل جملة فيه‏.‏
إن اقتران السطر الكتابي بالبيئة الشعرية‏,'‏ هو اقتران له وظيفة شعرية معاصرة في حقيقة الأمر‏,‏ ويحظي بقيمة كبيرة إلي درجة أنه عند الحدود القصوي من التعتيم التعبيري يبقي التوزيع الكتابي للشعر إلي أسطر معلما وحيدا من معالم انتماء النص إلي حقل الشعر‏'.‏ في هذا الخصوص‏,‏ يري لوتمان أن هناك منطقا لغويا لهذه الحدود‏;‏ فليست البداية بداية‏,‏ والنهاية نهاية‏,‏ وفق موقع كل منهما فحسب‏,‏ بل هما كذلك بسبب علاقة شكلية ودلالية بينهما من خلال سياق النص كله‏,‏ ومعناه‏.‏
يستطيع النص الشعري أن يعطي دلالات مختلفة إذا ما تغيرت العلاقات الفضائية والمكانية بين سطوره ومقاطعه‏,‏ وهذا درس يمكن أن يجربه كل شاعر لا يقتنع برؤيتي‏.‏ لا أتكلم هنا عن الشكل والمضمون‏,‏ ولكنني أتكلم عن شكل المضمون‏,‏ ومضمون الشكل‏,‏ بصفتهما جديلة واحدة‏,‏ ذلك بعد أن أصبح الاهتمام بشكل الدال‏,‏ واشتغاله فوق فضاءالصفحة ذا أهمية تعبيرية خاصة في النصوص الشعرية المعاصرة‏.‏
هناك علاقة تبرز وتنمحي‏,‏ في تدفق النص‏;‏ علاقة محسوسة بين الأثر المادي الظاهر في تشكيل البنية النصية‏,‏ والأثر الذهني أو الدلالي‏,‏ أو الصوتي‏'‏ العلامة الصوتية‏'‏ للدال‏,‏ فكما أن المفردة‏/‏ الدال‏,‏ لها بصمة صوتية‏,‏ تستدعي أثرا ذهنيا علي المستوي الجزئي‏,‏ فإنها تقبل أيضا أن تتأثر دلالاتها إذا ما تغير شكلها الكتابي‏,‏ أو موضع اشتغالها الفضائي علي الصفحة‏.‏ وهو جانب قادر علي استثارة استجابات تقع في خارج نطاق المادة المطبوعة المعتاد‏,‏ وهذا ما أبعد النص الشعري‏-‏ تدريجا‏-‏ عن التصاقه بالشفاهة‏,‏ بعد أن أصبحت التأثيرات الطباعية والمرئية مصدرا جديدا للطاقة التعبيرية للنص‏,‏ مضيفة إلي قدرات القصيدة الكثير‏..‏
كما أصبح الاهتمام بالوظيفة التأثيرية لشكل المقطع الشعري ملمحا حديثا في القصيدة المعاصرة‏,‏ وهذا ما يفسر الاهتمام في الكتابة الشعرية المعاصرة بشكل الدال فوق الصفحة البيضاء‏,‏ بالفراغ‏,‏ بصفته فضاء للدلالة‏,‏ كما أضحي تنظيم الشكل الكتابي للشعر من أهم تجليات هذه الخاصية من خواص النص الشعري المعاصر‏,‏ هكذا وضع شكل النص الشعري الجديد أدوات توصيل الشعر وتلقيه موضع التساؤل‏,‏ وكان من تجليات هذا قيام محاولات جادة لتفكيك مركزية المعني‏/‏ الكلام‏,‏ عبر استغلال الفضاء النصي بطرائق‏,‏ يرتبط الشكل فيها مع المعني من جهة‏,‏ ومع الخط بصفته رسما قادرا علي الانحراف بالدال من جهة أخري‏,‏ لاستنطاق البياض‏,‏ ولسلب حياده‏.‏ إن استخدام الشكل الشعري في الكتابة علي نحو وظيفي‏,‏ ليس سهلا كما يبدو‏,‏ بالإضافة إلي أن النص الشعري المركب من التفاتات نوعية مختلفة‏,‏ يحتاج في الكتابة الشعرية المعاصرة إلي انتباه تأليفي فائق‏,‏ فهناك مقاطع شعرية تقوي إذا اتحدت‏,‏ وهناك مقاطع أخر تضعف إن تجاورت‏.‏ لذا كان وعي الشاعر مهما في نحت الشكل النهائي للنص‏,‏ ونص شعري مكتوب علي هذا النحو يكون وحلا‏,‏ لا يستطيع الشاعر أن يشكله دون أن ينال منه‏,‏ دون أن يصيب أسلوبه الإبداعي المعتاد بعطب ما‏,‏ فالشاعر لا يخرج دائما سليما من قصيدته‏,‏ علي رأي‏'‏ رينيه شار‏'(1988-1907).‏ يمثل هذا التعدد الهائل علي مستوي الأساليب الشعرية المستخدمة الآن واقعا حديثا يرغم الكاتب علي الاختيار‏,‏ ويجعل من الشكل سلوكا جماليا‏,‏ يبتعث أبعادا جديدة من خلال توظيف الكتابة بصفتها بعدا جماليا من جماليات النص الشعري المعاصر‏..‏
 

 

المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 119 مشاهدة
نشرت فى 6 يونيو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,687,148