فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما* قال له موسي هل أتبعك علي أن تعلمني مما علمت رشدا)[ الكهف:65 ـ66]
بقلم: د. زغلول النجار
هاتان الآيتان القرآنيتان الكريمتان جاءتا في بدايات النصف الثاني من سورة الكهف, وهي سورة مكية, وآياتها مائة وعشر(110), وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قصة أصحاب الكهف.
وهم فتية مؤمنون بربهم في زمن ساد فيه الشرك بالله, وخوفا من أن يفتتنوا في دينهم فروا من جبروت حكامهم المشتركين, ولجأوا إلي غار بجبل قريب من مدينتهم مكثوا فيه نياما لفترة امتدت إلي ثلاثمائة وتسع من السنين القمرية, ثم بعثهم الله ـ سبحانه وتعالي ـ بعد تلك المدة الطويلة بمعجزة تشهد له ـ سبحانه ـ بطلاقة القدرة علي كل شيء, ومن ذلك البعث بعد الموت.
ويدور المحور الرئيسي لسورة الكهف حول قضية العقيدة الإسلامية, ومن ركائزها الإيمان بالله ـ تعالي ـ ربا واحدا أحدا, فردا صمدا,( لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفوا أحد)( الإخلاص:4,3), ومن هناك كانت ضرورة تنزيه الله ـ تعالي ـ عن الشريك والشبيه والمنازع والصاحبة والولد, وعن غير ذلك من صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في وصف القرآن الكريم لقصة عبدالله ونبيه موسي مع الخضر
علي عادة القرآن الكريم في استعراضه للقصص فإنه يوصل قارئه مباشرة إلي الدروس المستقاة من القصة دون الدخول في تفاصيل الأسماء والأنساب والأماكن والأزمنة إلا في حدود ما يخدم الهدف من استعراض القصة ويظهر جانبا من جوانب الإعجاز فيها.
وتبدأ رواية القرآن الكريم عن هذه الواقعة يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه:( وإذ قال موسي لفتاه لا أبرح حتي أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا* فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا* فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا* قال أرأيت إذ أوينا إلي الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا* قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا علي آثارهما قصصا* فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما* قال له موسي هل أتبعك علي أن تعلمن مما علمت رشدا* قال إنك لن تستطيع معي صبرا* وكيف تصبر علي ما لم تحط به خبرا* قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا* قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتي أحدث لك منه ذكرا.
والسبب في هذا الموقف من قصة عبدالله ونبيه موسي ـ عليه السلام ـ يشرحه لنا حديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي أخرجه البخاري عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول إن موسي قام خطيبا في بني إسرائيل, فسئل أي الناس أعلم؟ قال: أنا, فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه, فأوحي الله إليه: إن لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك, قال موسي: يارب! كيف لي به قال: تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم, فأخذ حوتا فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون ـ عليه السلام ـ حتي إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما, واضطرب الحوت في الكتل فخرج منه فسقط في البحر, فاتخذ سبيله في البحر سربا, وأمسك الله عن الحوت جرية الماء, فصار عليه مثل الطاق. فلمل استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت, فانطلقا بقية يومهما وليلتهما, حتي إذا كان من الغد قال موسي لفتاه:فلما جاوزا قال موسي لفتاه آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا)( الكهف:62).
ولم يجد موسي النصب حتي جاوز المكان الذي أمره الله به, قال له فتاه:(قال أرأيت إذ أوينا إلي الصخرة فإني نسيت الحوت وما انسانية إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا)( الكهف:63).
قال: فكان للحوت سربا. ولموسي وفتاه عجبا, فقال:(ذلك ما كنا نبغ فارتدا علي آثارهما قصصا)( الكهف:64).
قال فرجعا يقصان أثرهما حتي انتهيا إلي الصخرة, فإذا رجل مسجي بثوب, فسلم عليه موسي, فقال الخضر: وأني بأرضك السلام؟ فقال: أنا موسي. قال: موسي بني إسرائيل؟ قال نعم, أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا( قال إنك لن تستطيع معي صبرا)( الكهف:67)
يا موسي! إني علي علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت, وأنت علي علم من علم الله علمك الله لا أعلمه.
فقال موسي:(... ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا)( الكهف:69)
قال له الخضر:(.. فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتي أحدث لك منه ذكرا)( الكهف:70).
فانطلقا يمشيان علي ساحل البحر, فمرت سفينة فكلماهم أن يحملوهما, فعرفوا الخضر, فحملوهما بغير نول, فلما ركبا في السفينة لم يفاجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم, فقال له موسي: قد حملونا بغير نول فعمدت إلي سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها! لقد جئت شيئا إمرا.
( قال: وقال رسول الله ـ صلي الله عليه وعلي آله: فكانت الأولي من موسي نسيانا, قال: وجاء عصفور, فوقع علي حرف السفنية فنقر في البحر نقرة أو نقرتين, فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر, ثم خرجا من السفنية فبينما هم يمشيان علي الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه, فاقتلعه بيده فقتله, فقال له موسي:(... أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا* قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا)( الكهف:75,74)
قال: وهذا أشد من الأولي( قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا* فانطلقا حتي إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض...)( الكهف:77,76)
أي مائلا فقال الخضر بيده( فأقامه) فقال موسي: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا(... لو شئت لاتخذت عليه أجرا* قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا)( الكهف:78.77)
فقال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ:وددنا أن موسي كان صبر حتي يقص الله علينا من خبرهما( أخرجه البخاري في صحيحة عن ابن عباس عن أبي بن كعب) وجاء التأويل في تفسير تلك الأحداث الثلاثة بقول القرآن الكريم علي لسان الخضر ـ عليه السلام ـ:(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا* وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقما طغيانا وكفرا* فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما* وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا)( الكهف:79 ـ82).
وهذا هو تفسير ما أشكل فهمه علي عبدالله ونبيه موسي بن عمران في مواقفه الثلاثة مع العبد الصالح المسمي بالخضر والذي أعطاه الله ـ تعالي ـ علما لم يتوفر للنبي موسي بن عمران ـ عليه السلام ـ فالسفينة إنما خرقها الخضر ليبعيبها لأنهم كانوا يمرون علي ملك من الظلمة يأخذ كل سفينة جيدة صالحة غصبا فأراد الخضر أن يصيبها بعيب مؤقت لرد ذلك الملك الغاصب عنها, وأما الغلام الذي قتله الخضر فكان سيدعو في كبره إلي الكفر بالله, وأبواه كانا مؤمنين, فأراد الله ـ تعالي ـ أن يبدلهما بغلام أتقي الله منه وأبربهما( ولايقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له). وأما الجدار المتهالك الذي أقامه الخضر كان لغلامين يتمين في المدينة, وكان تحته مال مدفون لهما, حفظه الله ـ تعالي ـ لهما بصلاح أبيهما, وفي ذلك دليل علي أن صلاح الآباء يصل للأبناء ولو بعد عدد من الأجيال, وفي الآية الكريمة دليل علي إمكان إطلاق القرية علي المدينة والعكس.
وفي قول القرآن الكريم علي لسان الخضر ـ عليه السلام ـ رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا الكهف:82.
أي أن هذا الذي فعلته في تلك المواقف الثلاثة إنما هو من رحمة الله ـ تعالي ـ بعباده, وما فعلته عن أمري, لأن الله ـ تعالي ـ أمرني به, ووقفت عليه, وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر ـ عليه السلام ـ مع دلالة ما تقدم علي ذلك من قول الحق ـ تبارك وتعالي ـ:(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما). وإن كان البعض قد ذهب إلي الاعتقاد بأنه كان وليا من الصالحين, والله ـ تعالي ـ أعلي وأعلم. وفي صحيح البخاري, عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس علي فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء والمراد بالفروة هنا الحشيش اليابس, وهو الهشيم من النبات, وقيل المراد بذلك وجه الأرض. وفي التأكيد علي حقيقة الغيب وعلي ضخامة حجم العلم اللدني الذي وهبه الله ـ تعالي ـ لهذا العبد الصالح المسمي باسم الخضر ما نقله ابن جرير عن أبي بن كعب, عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه, فقال ذات يوم: رحمة الله علينا وعلي موسي لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب, لكنه قال:(.. إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذر).
وهذا الواقعة من سيرة عبدالله ونبيه موسي ابن عمران, جاءت في سورة الكهف فقط من كل القرآن الكريم, وفي الآيات(60 ـ82) من هذه الصورة المباركة. والقرآن الكريم لم يحدد المكان الذي وقعت فيه تلك الواقعة إلا بوصف أنه عند مجمع البحرين, ولم يحدد تاريخ وقوعها هل كان في مصر, أم في شبه جزيرة سيناء, أم في شرق الأردن, وفي كل تلك المناطق مجامع للبحرين منها التقاء فرعي النيل( فرع رشيد وفرع دمياط), وفي شبه جزيرة سيناء هناك التقاء كل من خليج السويس وخليج العقبة, وفي الأردن هناك التقاء نهر الأردن بالبحر الميت, وأغلب الظن أن الواقعة تمت في شبه جزيرة سيناء أثناء التيه حول خليج العقبة وذلك لأن فتي موسي يوشع بن نون لم يرد له ذكر في جميع أحداث موسي مع فرعون مصر, ولكنه قاد بني إسرائيل بعد وفاة كل من هارون وموسي ـ عليهما السلام, ويبدو أن الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا كان في الجزء الشمالي الغربي من شبه الجزيرة العربية لأنه لم يكن هناك ملوك في مصر بجوار الفرعون, ولم يكن هناك ملوك كذلك في شبه جزيرة سيناء, ولا في شرق الأردن, كذلك لم يذكر القرآن الكريم اسم العبد الصالح الذي لقيه النبي موسي وطلب منه أن يتبعه لعله أن يعلمه مما علم رشدا, ولولا أن رسولنا ـ صلي الله عليه وسلم ـ قد سماه لنا كما سمي لنا فتي موسي ـ عليهما السلام ـ ما كان أمامنا من وسيلة إلي معرفة ذلك, ولكن الهدف من استعراض تلك الحلقة من سيرة النبي موسي مع العبد الصالح هو عدد من الدروس الأخلاقية والسلوكية التي يمكن ايجازها فيما يلي:
(1) ضرورة التواضع وعدم الاغترار بما يحصل الإنسان من العلم, لأن علم الإنسان ـ مهما اتسعت دوائره فهو علم محدود بحدود قدرات الإنسان الذهنية والحسية, وبحدود مكانه من الكون, وحدود زمانه, ومن ثم فإنه لا يشكل ذرة في علم الله المحيط بكل شيء.
(2) من هنا كانت ضرورة التفريق بين المعارف المكتسبة بواسطة حواس الإنسان وقدرات عقله, والعلم الذي يهبه الله ـ سبحانه وتعالي ـ لعبد من عباده والذي يعرفه باسم العلم الموهوب, وهو جزء من علم الله اللدني يطلع به من يشاء من عباده علي شيء من الغيب بالقدر الذي يشاء, لحكمة يعلمها هو ـ سبحانه ـ ومن هنا فإن تصرفات من يوهبون شيئا من هذا العلم اللدني قد تبدو في ظاهرها متعارضة مع المنطق العقلي نظرا لمحدودية قدرات الإنسان, ومن هنا فإنها لاتفهم إلا بعد إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة عنا.
(3) ضرورة الاستفادة عن الأمور الغائبة عنا بشيء من الأدب الذي لاجزم فيه, حتي لو كان ذلك في طلب العم الراشد من أهله.
(4) ضرورة الإيمان بالغيب ـ وهو من حقائق الوجود, وضرورة التفريق بين الغيب المرحلي الذي يمكن للإنسان الوصول إليه بشيء من البحث والمجاهدة والغيوب المطلقة التي لا يعلمها الا الله أو يطلع علي قدر منها من يرتضي من أنبيائه وأوليائه الصالحين.
(5) ضرورة الرضا بقضاء الله وقدره, لأن الله ـ تعالي ـ لا يقضي لعباده المؤمنين إلا بخير, حتي لو بدا ظاهر القضاء أو القدر في غير مصلحة الإنسان, فإن باطنه بالقطع في مصلحه.
(6) ضرورة التسليم بأن الله ـ تعالي ـ قادر علي كل شيء, وأن إرادته نافذة في كل شيء, وأنه لاراد لقضائه, ومن هنا كانت ضرورة رد الأمر في كل شيء إلي الله, فهو ـ تعالي ـ رب هذا الكون ومليكه, ومدبره أمره, وميسر كل شيء فيه.
(7) إن من واجبات العبد المؤمن تنفيذ أوامر الله ـ تعالي ـ مهما كلفة ذلك من وقت وجهد.
(8) التسليم بأن الإنسان معرض للنسيان, وبأن من الواجب إكرام الصالحين من عباد الله.
(9) اليقين بأن صلاح الوالدين يصل إلي ذراريهما إلي عدد من الأجيال المتتابعة.
(10) وهذه الدروس هي وجه من أوجه الاعجاز الاعتقادي والأخلاقي والسلوكي في كتاب الله, كما أن ذكر الواقعة هو وجه من أوجه الاعجاز الإنبائي والتاريخي في هذا الكتاب العزيز.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار
ساحة النقاش