منهجية التعليم في مقدمة ابن خلدون
محسن بـجـا
"...فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة"[i]
يعتبر ابن خلدون، في تقدير الكثيرين، أبرز مفكر اجتماعي ظهر في الفترة الفاصلة بين أرسطو ومكيافيلي. وتأتي مكانة هذا المفكر من كونه انتصب في ملتقى جميع الاتجاهات التاريخية والفلسفية والفكرية والفقهية وحتى الصوفية، وتمكن بفضل منهجيته الشمولية وموسوعيته من أن يفحص ويشرح حقبة مهمة من حقب التاريخ الإسلامي، فاستنتج من ذلك الفحص والتشريح قوانين ومقاييس لفحص وتمحيص الأخبار المروية عن تلك الحقبة واكتشف بذلك قاعدة السياسة والاجتماع.
كتب ابن خلدون فاتبع وأبدع ونقل وجدد وأول. وتحدث عن الكثير من قضايا التاريخ بل عن جلها. كتب في الجغرافيا فقسم العالم إلى سبع نطاقات، لكل نطاق مميزاته وخاصياته وكشف عن تأثير الطبيعة في السلوك البشري. وكتب في التاريخ والاجتماع البشري فوجدهما محكومين بقوانين طبيعية: طبيعة فاجتماع وعصبية ثم ملك. وكتب في السياسة فقسمها إلى ثلاثة أنماط:ملك طبيعي، سياسة عقلية وخلافة(سياسة شرعية). وكتب في العمران والاقتصاد فقسم العمران إلى بدوي وحضري، وربط الاقتصاد بقوة العمران الدالة على أن الاجتماع البشري تجاوز مراحل البداوة القاسية وانتقل إلى الحضارة المترفة. وكتب كذلك في العلوم والتعليم، فصنف العلوم إلى:علوم حكمية فلسفية، وعلوم نقلية وضعية وأكد أن التعليم ضرورة من ضرورات العمران وأنه لا يحصل إلا بحصول ملكة التعلم.
وإذا كانت الموضوعات الفكرية والتاريخية والسياسية والاجتماعية قد حظيت بقسط وافر من التحليل والدراسة من لدن الباحثين والدارسين لفكر ابن خلدون سواء العرب أو المستشرقين، فإن موضوع التعليم عند ابن خلدون لم ينل الاهتمام نفسه، بالرغم من أهمية الأفكار التعليمية الواردة في"المقدمة" وذلك بالنظر إلى قوتها وتماسكها المنطقي وكذا بالنظر إلى تميزها.وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن المنظور التعليمي عند ابن خلدون.
- ما هي مكانة الأفكار التعليمية في"المقدمة"؟
- هل يمكن الحديث عن"نظرية تعليمية" عند ابن خلدون؟
- إلى أي حد يمكن استرجاع الأفكار التعليمية الخلدونية واستحضارها وتحيينها واستلهامها في زماننا؟
يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال ثلاثة مستويات:
- المستوى التقريري
- مستوى المنظور التعليمي
- المستوى التاريخي العملي
المستوى التقريري
خصص ابن خلدون مجموعة من الفصول في "المقدمة" للتطرق لموضوع التعليم. يتعلق الأمر بالفصول التالية:
الفصل الثالث والثلاثون من الفصل الخامس:"في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب"
الفصل الأول من الفصل السادس: "في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري"
الفصل الثاني من الفصل السادس: "في أن التعليم من جملة الصنائع"
الفصل السابع والعشرون من الفصل السادس:"في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل"
الفصل الثامن والعشرون من الفصل السادس:"في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم"
الفصل التاسع والعشرون من الفصل السادس:"في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته"
الفصل الثلاثون من الفصل السادس:"في أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل"
الفصل الواحد والثلاثون من الفصل السادس:"في تعليم الولدان واختلاف المذاهب والأمصار الإسلامية في طرقه"
الفصل الثاني والثلاثون من الفصل السادس:"في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم"
الفصل الثالث و الثلاثون من الفصل السادس:"في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم"
يتضح أن التعليم في"المقدمة" موضوع مهم بالنظر إلى عدد الفصول التي أفردت له (أكثر من ثمانية فصول). وهذا يؤكد أن التعليم هو أحد اهتمامات ابن خلدون، وإن كان لا يرقى إلى مستوى الاهتمام التاريخي والاجتماعي والسياسي لدى ابن خلدون. والملاحظ أن ابن خلدون أجل الكلام عن التعليم إلى الكتاب الثالث من"المقدمة" وتحديدا إلى الفصل السادس حيث نجد التعليم مصنفا مع العلوم رغم كونه صنعة من الصنائع. فإذا كان الفصل الخامس، من التاحية المنهجية، هو الفصل المخصص للصنائع والفصل السادس هو المخصص للعلوم، فلماذا أدمج ابن خلدون التعليم (وهو صنعة) مع العلوم ولم يتحدث عنه عندما تطرق للصنائع؟ بعبارة مختصرة، إذا كان التعليم صنعة، فلماذا يحشر في فصل خاص بالعلوم؟
تكمن براعة ابن خلدون في كونه فطن لتلك الجدلية بين العلم والتعليم؛ لذلك ربط التعليم بالعلوم من حيث الهندسة العامة للكتاب رغم أن التعليم في رأيه صنعة من جملة الصنائع. فابن خلدون يعتبر أن الإنسان مفكر بطبعه وأن فكر الإنسان يرغب دائما في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممن تقدمه...فيلقن ذلك عنهم...فيكون حينئذ علمه علما مخصوصا وتتشوق نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيئ التعليم من هذا"
فالفكر يبحث عن معرفة وتحصيل ما ليس لديه بالطبيعة لذلك يلجأ إلى من يعرف، فيأخذ عنه ما يعرفه...فيحصل له العلم بالشيء. ذلك العلم المحصل الذي يفزع أهل الجيل الناشئ لأخذه عن من حصله وعرفه (من سبق له أن تعلم). العملية إذن، أخذ وعطاء، تعلم وتعليم. وهي تتم على ثلاثة مراحل:
مرحلة التعلم والتحصيل (أخذ العلم)
مرحلة حيازة علم مخصوص
مرحلة تعليمه للجيل الجديد
هذه المراحل تتكرر عبر الأجيال، ابتداء بالتعلم وانتهاء بالتعليم مرورا بحيازة العلم.
وهذا النوع من التحليل ليس غريبا عن ابن خلدون، الذي يتبنى نظرية الأدوار في تحليل وتفسير الظواهر التاريخية. فإذا كان التاريخ العام ينتقل من البداوة إلى الحضارة، وكانت الدولة تنتقل من الشباب إلى الانحطاط، وإذا كانت السلطة تتطور من الملك الطبيعي إلى الخلافة مرورا بالحكم العقلي، فإن الفكر يتطور من التعلم إلى التعليم بل إنه يتطور بالتعلم ويطور بالتعليم. والنتيجة المنطقية لهذا التحليل التعليمي هي أولية التعلم عن التعليم (أولية جدلية وليست أولية مطلقة).
التعليم صنعة
يرى ابن خلدون أن"تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه، فلكل إمام من أئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها"[3]. فالاصطلاح هو منهج تدريس العلم. وتعدد الاصطلاحات واختلافها مثل تعدد طرق الصنعة لذلك تعددت الاصطلاحات وكان العلم واحدا. وهذا ما دفع ابن خلدون إلى اعتبار التعليم صنعة. ففي الصنعات (التقليدية) تختلف طرق الصنع ويبقى المصنوع واحدا. وهكذا يقودنا هذا التحليل إلى بحث مذاهب التعليم في عموميتها عند المسلمين.
المذاهب الإسلامية في التعليم
اتفق المسلمون، بحسب ابن خلدون، على ضرورة تعليم القرآن للأبناء منذ الصبى لكي يترسخ لديهم الإيمان. لكن المسلمين اختلفوا حول كيفية تلقين القرآن إلى مذاهب لخصها ابن خلدون في أربعة مذاهب:
مذهب أهل المغرب الذي يعتمد على تحفيظ القرآن والأخذ بطرق الرسم ومسائلها.
مذهب أهل الأندلس الذي يقوم على تحفيظ القرآن والشعر وقوانين العربية وتجويد[4]الخط.
مذهب أهل إفريقية الذي يركز على تحفيظ القرآن والحديث ودراسة قوانين العلوم والوقوف على روايات وقراءات القرآن والعناية بالخط.
مذهب أهل المشرق الذي يخلط ويمازج في طريقته التعليمية بالإضافة إلى كونهم جعلوا الخط فنا مستقلا وذلك بوصفه صنعة من الصنائع.
ويخلص من عرضه للمذاهب التعليمية في الأمصار الإسلامية إلى أن أهل المغرب أقوم على رسم القرآن وحفظه، لكنهم قاصرون على تحصيل ملكة اللسان العربي الفصيح؛ لأن معظم تركيز مذهبهم هو على حفظ القرآن. وحفظ القرآن لا تنشأ عنه ملكة اللسان الفصيح؛ لأن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله والنسج على أساليبه، وحظه"الجمود في العبارات والكلام"[5]. أما أهل إفريقية فهم أفضل حالا من أهل المغرب. وفي المقابل نتج عن مذهب أهل الأندلس التفنن في العلم وكثرة رواية الشعر والتقصير في العلوم الشرعية. والملاحظ أن ابن خلدون قد كشف في هذا المحل عن الترابط بين المذهب التعليمي والبنية الثقافية لأهل ذلك المذهب.
انطلاقا من هذه الخلاصة اتجه ابن خلدون إلى بلورة مفهوم التعليم المفيد باعتباره بديلا مقبولا لتجاوز سلبيات المذاهب التعليمية السابقة.
التعليم المفيد
قبيل أن يشرع ابن خلدون في تحليل عناصر التعليم المفيد، انتقد أولا التعليم القائم على كثرة التآليف، وانتقد ثانيا نقيضه القائم على الاختصارات، ثم انتقد ثالثا ممارسة الشدة على المتعلمين.
نقد التعليم القائم على كثرة التآليف.
يعتبر ابن خلدون أن كثرة التآليف عائقة على التحصيل. ويقرر"أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته، كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعاليم وتعدد طرقها ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك"[6]. والمقصود هو تلك التآليف التي كان يستغرق فيها المتعلمون عمرهم كله من أجل حفظها ومراعاة طرقها، وهي تآليف فقهية ولغوية"كلها متكررة والمعنى واحد والتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها"[7].
إن هذا النقد يهدف إلى الاقتصار على المسائل المذهبية الأساسية في الفقه تيسيرا للتعلم واختصارا للزمن وبالتالي الوصول إلى تعليم مفيد.
نقد التعليم القائم على الاختصارات.
لا يعتبر ابن خلدون، في المقابل، أن التعليم القائم على الاختصارات هو البديل، بل يرى أن كثرة الاختصارات مخلة بالتعليم. ويعزو ذلك إلى أنها تخل بالتبليغ(البلاغة: العلاقة التواصلية بين الرسل والمتلقي، المعلم والمتعلم)، وتجعل الفهم أعسر فضلا عن أنها تستبق المراحل المنهجية وتلقي الغايات على المبتدئ في التعلم قبل أن ينضج لتلقيها وفهمها. والنتيجة أن"الملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات، إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة، فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة"[8]
نقد الشدة على المتعلمين
ينتقد ابن خلدون"العقاب البدني"المسلط على المتعلمين ولاسيما الأطفال الصغار منهم، كما يكشف عن النتائج السلبية للشدة والعسف والقهر في التعليم. فالشدة تؤدي إلى انضمار نشاط وانبساط المتعلمين وتقود بالتالي إلى الركون والكسل. ومن ثمة يحمل الصغار على الكذب والخبث. ويتوقف ابن خلدون لتحليل التوابع السلبية للشدة.
يكشف ابن خلدون على أن الخوف من القهر يدفع المتعلم حتما إلى الكذب والتظاهر بغير ما في عقله. فيقود هذا السلوك إلى تعلم المكر والخديعة اللذبن يستبطنهما المتعلم فيصيران من عوائده وأخلاقه. وإذا بلغ المتعلم هذا المستوى"فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الخلق الجميل، فانقبضت على غاياتها ومدى إنسانيتها وعاد في أسفل السافلين"[9]. والمحصلة هي أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم إذ يقود إلى انطماس المعاني الإنسانية وبروز المعاني الحيوانية.
لا يقتصر ابن خلدون على هذه الخلاصة المرتبطة بنفسية المتعلم المقهور بل يذهب أبعد، ويعمم كلامه على الأمم المقهورة قائلا:"...وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف"[10]مشتشهدا باليهود الذين وصفوا في كل العصور بالتخابث والكيد.
التعليم المفيد
يطرح ابن خلدون التعليم المفيد بوصفه بديلا تعليميا متخلصا من العناصر التي انتقدها. وهكذا فالتعليم المفيد، في نظره، ينبني على المبادئ التالية:
التدريج :[11] بحيث يلقى العلم شيئا فشيئا وقليلا قليلا، وتتم مراعاة المبادئ التالية:
إلقاء مسائل ذات صبغة عامة ومجملة من كل باب تكون هي الأصول، مع أخذ المستوى العقلي للمتعلم بعين الاعتبار ومراعاة استعداداته لقبول ذلك العلم. والهدف من هذا الإلقاء الأولي هو تحصيل المتعلم لملكة جزئية وضعيفة تساعده على ولوج العلم أو الفن المدروس وتحصيل مسائله.
في المقابل، يتوجب استبعاد المسائل القفلة وتجنب إلقاء غايات العلوم أو الفنون في بداية التعلم؛ لأن هذا الإلقاء يقود المتعلم إلى الانحراف عن قبول الفن أو العلم المدرس مما يِدي إلى التكاسل وبالتالي إلى هجران العلم.
مساعدة المتعلم بوساطة التقريب والإجمال والأمثلة الحسية.
عدم الإطالة على المتعلم في الفن أو العلم الواحد؛ لأن الإطالة تؤدي إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن أو العلم بعضها عن بعض بسبب تفرقها.
التكرار:[12] إن العمليات السابقة ترمي إلى تمكين المتعلم من تحصيل ملكة أولية، جزئية وضعيفة، تؤهله إلى فهم وتحصيل المسائل الأخرى من ذلك العلم أو الفن. وهذه تقوي الملكة وتؤهل نحو اكتساب مسائل أخرى. وهكذا تباعا. وفي نظر ابن خلدون، هذه هي المرحلة الأولى.
بعد انتهاء الإلقاء الأولي (الإجمالي)، تأتي المرحلة الثانية بحيث يرجع المعلم بالمتعلم إلى تلك المسائل التي سبقت دراستها فيرفع مستوى التعليم إلى أعلى"ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن"[13]. بهذا ترتقي الملكة الأولية وتجود. وهنا تنتهي المرحلة الثانية.
تبتدئ المرحلة الثالثة، بالرجوع بالمتعلم إلى جميع المسائل التي تمت دراستها سابقا، فيعمل المعلم على أن"لا يترك عويصا ولا مهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته"[14].
وعلى هذا الأساس، نستنسج من كلام ابن خلدون ثلاثة مراحل للتعلم: مرحلة الابتداء، ومرحلة التعمق ثم مرحلة استكمال الخبرة. ونشير هنا إلى أن ابن خلدون لم يفته أن ينبه إلى أن تحصيل ملكة قوية ليست بالضرورة مرتبطة بهذا الترتيب (التسلسل) بل يمكن تحصيل تلك الملكة دونما حاجة إلى هذه المراحل.
عدم الخلط: والمقصود به"أن لا يخلط على المتعلم علمان معا"[15]؛ لأن الخلط يترتب عليه انقسام الذهن وتوزيع التركيز. فتنشأ عن ذلك عقبات تعلمية أهمها الاستغلاق والاستصعاب. ولا يجني المتعلم بالتالي سوى الخيبة. في المقابل إذا تفرغ الفكر إلى فن واحد فقد يتمكن من التحصيل الجيد. وابن خلدون نفسه يتحدث عن هذه الفكرة بشيء من التردد:"... وإذا تفرغ الفكر إلى تعلم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله"[16].
عدم التوسع في دراسة العلوم الآلية: يصنف ابن خلدون العلوم إلى: علوم حكمية فلسفية، وعلوم نقلية وضعية. وفي تصنيف آخر يميز بين: علوم مقصودة بالذات، وعلوم آلية. الأولى مقصودة في ذاتها كالشرعيات والفقه وعلم الكلام... والثانية ليست سوى أداة لدراسة الأولى والولوج إليها مثل اللغة العربية(إنها ضرورة وطريق لبلوغ العلوم الشرعية، لكنها ليست مقصودة لذاتها كلغة بل كطريق إلى علم آخر مقصود لذاته).
ويرى في هذا السياق، أن العلوم الآلية لا ينبغي التوسع فيها وفي تدريسها؛ لأن"المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها"[17] ويتساءل مستنكرا"فإذا قضوا(المتعلمون)العمر في تحصيل الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد؟"[18]. فالسبب وراء هذا الموقف هو ضخامة الكتلة المعرفية لهذه للعلوم الأداتية رغم كونها طريقا إلى علوم هي المقصودة بالذات. فابن خلدون ينظر إلى التعليم نظرة نفعية تصبو إلى تحقيق الملكة في أقصر وقت وبأقل العلوم الضرورية دون الإبحار في عمق العلوم الأداتية.
الاهتمام بالكتابة والحساب
ركز ابن خلدون على تعليم هاتين الصنعتين لكونهما مفيدتين للعقل. فالكتابة تتضمن عملية ذهنية معقدة فيها"انتقال من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس"[19]. بعبارة أخرى،"الانتقال من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب".[20] أو بعبارة أكثر دقة، "الانتقال من دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة...]إلى[ دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة"[21].
إن تكرار هذه العملية الذهنية المتضمنة في الكتابة (من الحروف المرسمة إلى منطوق الحروف المرسومة، ومن منطوق الحروف المرسومة إلى الصورة الذهنية أو المعنى، والعكس صحيح) يكون ملكة الانتقال السريع بين الدوال والمدلولات. هذه الملكة تزيد العقل تعقلا وفطنة وذكاء.
أما الحساب ففي صنعته"تصرف في العدد بالضم والتفريق"[22]. وصنعة تحتاج إلى الكثير من البراهين والاستدلالات.
يستنتج ابن خلدون من هذا التحليل أن الكتابة تقوي النظر العقلي، وأن الحساب يقوي العقل (العمليات الذهنية الصورية أو الشكلية أو المنطقية) لهذا يجب الاهتمام بتعليمهما.
الرحلة لطلب العلم:
يؤكد ابن خلدون أن كمال التعليم يكون بالرحلة لطلبه. فالرحلة تتيح الفرصة للقاء أهل العلوم بالمشايخ على اختلاف وجهاتهم ومشاربهم. وينج عن هذا اللقاء صقل الملكات ووعي الاختلافات بين المشايخ على تعددهم ثم التمكن من تجريد العلم وتمييزه، وأخيرا التعالي على الاصطلاحات التعليمية بحيث يدرك المتعلم أن الاصطلاحات ما هي إلا"أنحاء تعليم، وطرق توصل وتنهض فواه إلى الرسوخ والاستحكام في المكان. وتصحح معارفه وتميزه عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهم من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم"[23].
ينبني التعليم المفيد إذن، على ستة عناصر (التدريج، التكرار، عدم الخلط، عدم التوسع في المعارف الأداتية، التركيز على الكتابة والحساب، التوسع في العلوم من خلال الرحلة لطلبها). والمطلوب هو أن يحصل المتعلم على ملكة في العلم المدروس. فما المقصود بالملكة عند ابن خلدون؟
مفهوم المَلَكة:
ترد هذه الكلمة في أكثر موضع من"المقدمة" ولا سيما على امتداد الفصول المخصصة للتعليم. وفي كل مرة يتخذ معنى سياقيا مضبوطا. وليس من المجازفة القول إنه إذا كان مفهوم العصبية هو المفهوم المركزي في تحليلات ابن خلدون للسلطة السياسية والدولة والاجتماع البشري، فإن مفهوم الملكة هو المفهوم المركزي في تحيلاته المتصلة بالتعليم.
ولتحديد تعريف واضح لهذا المفهوم، سنرجع إلى نص المقدمة بذاته لجرد التعريفات التي أعطاها له ابن خلدون نفسه، وهذا أسلم طريق نتبعه من خلال تتبع معاني المفهوم مثلما وردت في النص الأصلي.
إن الملكة أولا فردية ومكتسبة(ليست جماعية ولا فطرية)، كما أنها جسمانية (خارجية وملاحظة) حتى ولو كانت قدرة ذهنية. يقول ابن خلدون:"والملكة كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ"[24]. والملكة متميزة عن مفهومي الفهم والوعي(تتجاوز هذين المفهومين)؛لأن"الملكة في غير الفهم والوعي"[25]. فالفهم والوعي مشتركان بين العامي والجاهل والمبتدئ والعالم. والحال أن الملكة لا تكون سوى للعالم. والملكة فوق ذلك تكتسب بتكرار الأفعال، "والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، فتكون حالا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة فيزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة"[26]. وعندما ترسخ هذه الملكة يحصل الحذق والذكاء والكيس والاستيلاء على العلوم والصنائع."وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره"[27]. "وما لم تحصل الملكة لم يكن الحذق"[28]. وفضلا عن هذا، الملكة تتطور وتجود، مثلما تنطفئ وتخمد، "[فالمتعلم] إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم، استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق"[29]، "فتجود ملكته"[30]. "وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه"[31].
وبتركيب العناصر أعلاه، نصل إلى التعريف التالي لمفهوم الملكة:"مجموع القدرات والمهارات والاستعدادات الفردية والمكتسبة بتكرار الأفعال والمتطورة والتي لها تجليات سلوكية خارجية (الحذق والكيس والذكاء) مهمة للتعلم".
والملاحظ أن هناك نوعين من الملكات، بحسب ابن خلدون:
الملكات الأساسية التي ينبغي للمتعلم أن يحصلها من خلال تعلماته، وهي غاية التعلم وهدفه الأسمى، "وذلك أن الحذق في التعلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله"[32].
الملكات الوسيطية(الأداتية) التي تخدم غيرها في طريق تحصيل الملكة الأساسية[33]. فالمتعلم يحصل ملكة أولية (وسيطية) تساعده على الوصول إلى الملكة الأساسية مثل ملكة الوضوء من أجل تحصيل الملكة الأساسية التي هي الصلاة.
خلاصة:
الفكر طبيعي في بني البشر وبه تميزوا عن سائر الحيوانات، والفكر بطبيعته تواق إلى تحصيل ومعرفة ما عند الآخرين من معارف وصنائع. هذا الشوق والاشتياق والفضول وحب الاطلاع يقود حتما إلى التعلم. ومن أراد أن يتعلم يرجع إلى من سبقه بعلم فيأخذ عنه علمه ويتعلم فتحصل له ملكة أولى يكون أقدر بها على تعلم ما بقي من ذلك العلم حتى تحصل له ملكة ذلك العلم. عندئذ يصبح صاحب علم مخصوص، فيفزع إليه أولئك الذين يرغبون أخذ العلم ليتعلموا. وهكذا ينشأ التعليم. إنه إذن، ضرورة طبيعية وبشرية.
والتعليم، وإن ارتبط بالعلم والفكر، فهو صنعة شأنه شأن جميع الصنائع. فالمعلمون مثل الصناع، يختلفون في اصطلاحات التعليم لكنهم لا يختلفون في العلم؛ لأنه واحد عندهم.
وقد اختلفت مذاهب المسلمين في التعليم لكنهم اتفقوا جميعا على تعليم القرآن للولدان. كما أن اصطلاحات التعليم (منهجيات التدريس) اختلفت بين أئمة ومشايخ المسلمين. فمنهم من بنى تعليمه على المطولات من الكتب، ومنهم من اعتمد على المختصرات، وكثير منهم كان شديدا على متعلميه.
والتعليم المناسب هو التعليم المفيد القائم على التدرج، والتكرار، وعدم الخلط، وتجنب الإغراق في العلوم الأداتية والتوسع في المعرفة، هدا التعليم الذي غايته تحصيل المتعلم ملكة أساسية من خلال المرور بملكات أولية وسيطية.
هذه الرؤية للتعليم تتضمن الكثير من الأفكار والمفاهيم والمبادئ المهمة التي لا يمكن غض الطرف عنها. إنها ليست شتاتا من الأفكار بل هي جهاز من المفاهيم المتسقة والمترابطة التي تؤسس رؤية واضحة للفعل التعليمي في صيغته التقليدية. فهل ترقى هذه الرؤية إلى مستوى النظرية التعليمية؟
مستوى المنظور التعليمي
عادة ما يرد اسم ابن خلدون مرتبطا بعلم الاجتماع أكثر من ارتباطه بعلم التربية (البيداغوجيا) أو بعلم التدريس (الديداكتيك). ولقد شاع الاعتقاد لدى الكثيرين من العرب بأن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع، ورغم عدم صحة مثل هذا الادعاء من الناحية الابستمولوجية[34]. ومن جهتنا لسنا نمهد للادعاء بأن ابن خلدون هو مؤسس علم التربية أو علم التدريس بل نريد الكشف عن نقاط الالتقاء بين الأفكار الخلدونية ومعطيات وأسس التعليم الحديث.
من العسير جدا القول بأن الأفكار التعليمية الخلدونية ترقى إلى درجة النظرية التعليمية. والسبب أن النظرية تستلزم جملة من الشروط التي بدونها لا يمكن أن تسمى نظرية. من بين هذه الشروط:
المسلمات.
الاتساق الداخلي.
الانسجام بين المفاهيم المحورية.
القابلية للاختبار.
التعبير عن جملة من الحقائق التجريبية.
القدرة على تفسير الوقائع الماضية والحالية وحتى المستقبلية(في بعض الحدود).
وتبعا لهذا فالنظرية، بهذا المعنى، لا وجود لها حتى في علم التدريس الحديث. لذلك يفضل الدارسون استخدام نماذج تعليمية.
صحيح أن ابن خلدون يسلم بأن الفكر الإنساني يتوق إلى المعرفة، وأن المفاهيم التي طرحها تتمتع بقدر كبير من الاتساق الداخلي والانسجام فيما بينها، وأن هذه الأفكار التي طرحها قابلة للتجريب وتعبر عن حقائق عصره. ولكنها لا تتسم بالعمومية والشمول الكافيين، ولا تصلح لتفسير الوقائع التعليمية العربية الإسلامية ككل.
لهذه الاعتبارات لا يمكن الحديث عن نظرية تعليمية خلدونية، وما يمكن الحديث عنه هو منظور تعليمي عند ابن خلدون. يمكن أن نطلق عليه اسم"منظور التعليم المفيد". والسبب هو كون ابن خلدون أورد الحديث عن التعليم في سياق رؤية شمولية للطبيعة والإنسان والتاريخ والمؤسسات الاجتماعية. بعبارة أوضح، التعليم ليس سوى عنصر ضمن نسق كلي هو في ذاته تصور للعالم Une conception du monde أو ما جرت العادة على تسميته في العلوم الاجتماعية بـ Weltanschauung. ولكن ألا يرقى هذا المنظور إلى مستوى مناظرة نموذج تعليمي مثل نموذج التدريس بالأهداف السلوكي؟
المقارنة بين المنظور التعليمي الخلدوني ونموذج التدريس بالأهداف السلوكي شيقة جدا وتكشف عن تشابه قوي في المفاهيم:
المفاهيم الخلدونية |
المفاهيم السلوكية |
الملكة |
الهدف |
المذهب </t نشرت فى 29 مايو 2010
بواسطة azazystudy
الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »
ابحثتسجيل الدخولعدد زيارات الموقع
4,794,874
|
ساحة النقاش