أثر التقدم التكنولوجي وثورة المعلومات
على النمو الاقتصادي
د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب
ملخص
أثر التقدم التكنولوجي وثورة المعلومات
على النمو الاقتصادي
لم يعد النمو الاقتصادي مرتبطاً فقط بالتقدم التكنولوجي وثروة المعلومات ، بل أصبح أكثر من ظاهرة النمو الاقتصادي الناتج عن تراكم رأس المال ( البشري والمادي) وبذلك فإن التغيرات التكنولوجية وثورة المعلومات أضحت كعوامل محددة للنمو .
فالنمو الاقتصادي المرتبط بالتقدم التكنولوجي انتقل إلى التركيز على نظرية النمو المعتمدة على الابتكار والبراعة في إدارة الأعمال وتضمين المخاطر في سلسلة من الخطوات غير المتصلة ، والبعيدة عن افتراض التوازن بين الثوابت المقارنة والتحولات في منحنيات العرض والطلب والاستجابات الرامية إلى التكيف .
فنظرية النمو الاقتصادي النابعة عن التقدم التكنولوجي تعترف بمجموعة واسعة من المؤسسات العاملة في نطاق الدول على المستوى الدولي والهيئات الحكومية إضافة إلى شركات الأعمال والأسواق .
وعلى هذا الأساس فقد أصبحت القدرة على الوصول إلى المعلومات ومعالجتها وتحويلها باعتبارها مكوناً أساسياً في صناعة النمو الاقتصادي .
مقدمة :
يعيش العالم اليوم ( حرب اجتماعية كونيه ) في لحظات من التاريخ مفصليه ، وقد دخل العالم منذ عقد من السنين نتيجة الثورة المعلوماتية . فإذا ماركس قد قال : اعطوني طاحونه الهواء ، أعطكم القرون الوسطى . وتترجم هذه العبارة في الزمن المعاصر على الشكل التالي : أعطوني الكومبيوتر ، أعطكم العولمة .
فمنذ العقد الأخير من القرن العشرين راهن الرأسماليون على نمو كل النشاطات المرتبطة بطرق المعلومات السريعة ، وبالتقنيات ذات الشبكات النظرية ، وبالانترنت . وكان الكثير من المستثمرين على يقين من أن المشاريع سوف تكون مجبره ، ومهما كان موقعها في العالم ، على التأقلم مع العصر ، وانفاق الكثير في مجال التجهيزات المعلوماتية ، والهاتف الرقمي ، والاتصالات عبر الشبكة .
هذه المعركة الاقتصادية ، يفترض أن تكون مساحتها المشاريع الأميركية والأوربية واليابانية ، لوضع اليد على الشبكات والسيطرة على سوق الاعلام والصور والمعطيات والتسليات والصوت واللعب وغيرها ، ومن أجل ان يقرض كل طرف من هؤلاء نفسه ، مضى المستثمرون الشبيهون بفرق النحل ينقضون انقضاضاً على البورصات . وسرعان ما تفجرت مسارات القيم المالية المتصلة بمجرد الانترنت .
لقد أنشأت العولمة المالية دولتها الخاصة دولة تتجاوز النطاق الوطني ، هذه الدولة العالمية سلطة من دون مجتمع ، وبالمقابل تبدو المجتمعات الموجودة حقيقة ، مجتمعات مجردة من السلطة ، ولايزال هذا الأمر يتفاقم باطراد .
ظاهرة عولمة ثورة المعلومات اتاحت تحولً عميقاً في السلطة ، ولم يعد أسياد العالم الحقيقيون أولئك الذين يمسكون بالزمام الظاهر للسلطة السياسية ، وأنما أولئك الذين يتولون شأن الأسواق المالية ، والشركات الإعلامية الكبرى ، وطرق الاتصالات السريعة، وصناعة المعلوماتية والتقنيات الوراثية ( رامونيه ، 2006 م ) .
أهداف الدراسة :
- تأثير التقدم التكنولوجي وثورة المعلومات على قوة العمل .
- تتبع الأسباب التي أدت إلى تجسير هوه التكلفة بين الاقتصادات المتقدمة والنامية .
- السبل الواجب اتباعها للاستفادة من إيجابيات العولمة .
تساؤلات الدراسة :
- ما الأسباب التي جعلت عالم اليوم يفتقر إلى المساواة ؟
- ما هو السبب وراء معدلات النمو المتسارع والهائل خلال فترة قصيرة من الزمن ؟
- لماذا لم تستطيع النظرية الكلاسيكية الجديدة للنمو الاقتصادي ( نظرية مارشال ) من الاجابة على الاسئلة السابقة ؟
- هل هناك نظرية جديدة وبديلة قادره على الاجابة على الاسئلة التي فشلت النظرية الكلاسيكية من الإجابة عليها .
- ماهي آثار التقدم التكنولوجي على الفقر وانعدام المساواة ؟
- هل يمكن أن تكون العولمة من أجل الجميع ؟
أولاً : الاقتصاد الجديد :
نظرية مارشال الاقتصادية التي أنشأها الاقتصادي البريطاني الفريد مارشال مع بداية القرن العشرين والتي تتلخص في اقتصاد التوازن بين الثوابت المقارنة والتحولات في منحنيات العرض والطلب والاستجابات الرامية إلى التكيف .
ونظرية مارشال ترتكز على فلسفة ان " الطبيعة لا تقفز " وثيقة النظرية في قدرة السوق على حل المشكلات التي تعترض التغيرات الاقتصادية لكن القفزة التكنولوجية التي أدت إلى رفع أجور العمال المهرة والمتمكنين مما أوجد حالة متفاقمة من التفاوتات وعدم المساواة ما اقنعت الاقتصاديين ان أدوات مارشال ضئيلة القيمة فيما يتصل بفهم النمو الاقتصادي الحديث . وان المصادر الحقيقية للنمو لا تكمن في العرض والطلب وتخصيص الموارد القليلة للاستخدامات البديلة بل انها تكمن في التغير التكنولوجي والتنظيمي وهما اللذان يجيبان على اجابات لاسئلة لا نجد لها اجابات في أدوات مارشال مثل ما السبب وراء ركود مستويات المعيشة المتوسطة في كل انحاء العالم ولهذه المدة الطويلة ؟ ولماذا خصصت معدلات النمو لتسارع هائل خلال فترة وجيزة من الزمن ؟ وما الذي جعل عالم اليوم يفتقر إلى المساواة إلى الحد الذي أصبح من الصعب معه ان نجد أي مقياس لتوزيع الثروة في العالم لا يعتريه الانحراف على الأقل من ثمانينات القرن العشرين ؟
اين اقتصاد الابتكار والابداع والتكيف والانتشار من الاجابة على هذه الاسئلة التي تكمن في التغير التكنولوجي والتنظيمي .
وعناصر الاقتصاد لابد ان تختلف تمام الاختلاف خلال الجيل المقبل عما هي عليه الآن .
ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين ارتبك النمو الاقتصادي بالتقدم التكنولوجي ، وهو مايبدو واضحاً عند تحليل الطفرة الاقتصادية المواكبة للتقدم التكنولوجي في بعض الدول الآسيوية ومنها اليابان والصين والهند في العقود الأخيرة .
فالنظرية الكلاسيكية الجديدة للنمو الاقتصادي ( نظرية مارشال ) غير مناسبة تماما لتحليل ظاهرة النمو الاقتصادي لانها تركز فقط على تراكم رأس المال ( البشري والمادي) بينما التغيرات التكنولوجية كعوامل محددة للنمو في إطار نظري تفترض وجود نوع من أنواع التوازن .
بينما النظرية الحديثة والبديلة تركز على النمو الاقتصادي النابع من التقدم التكنولوجي وتتضمن عدم التوازن بشكل أساسي ومستمر كعنصر أصيل وأساسي فيها أي أنها تنقل التركيز في نظرية النمو على الابتكار والبراعة في إدارة الأعمال وأخذ المخاطر في سلسلة من الخطوات غير المتصلة ببعضها والبعيدة عن افتراض التوازن .
وهذه النظرية البديلة تعترف بمجموعة واسعة من المؤسسات العاملة في نطاق الدول أو على المستوى الدولي ، مثل الجامعات والهيئات الحكومية ، إضافة إلى شركات الأعمال والأسواق وهي بخلاف نظريات النمو السابقة التي تركز على المعايير الجمعية الكلية للنمو ، مثل اجمالي الناتج القومي للفرد تتجاهل ما هو تحت المجموع الكلي ، حيث توجد نسب مختلفة للتقدم في قطاعات مختلفة .
بينما النظرية البديلة تركز على عملية النمو الاقتصادي على انها تتضمن تطوراً متشاركة من التكنولوجيات والمؤسسات وقطاع الصناعة .
بل ان نشأة وانهيار بعض الصناعات من المقومات الأساسية في عملية النمو .
ويضرب على ذلك أمثلة ريتشارد نلسون مؤلف كتاب علاقة الاقتصاد والتكنولوجيا بالولايات المتحدة واليابان والنمور الآسيوية الأربعة كأمثلة على تطبيق تلك النظرية البديلة حيث يجب ان تحدث تغيرات مؤسسية لتحقيق الاستفادة القصوى من التكنولوجيات الجديدة ( Nelson, 2005) .
لكن القوى التي تحرك التنمية في النظام الاقتصادي العالمي وينتج عنها تنمية جغرافية غير متساوية فهو راجع إلى القوى التي تصنع النجاح أو الفشل الاقتصادي ، وليس باللجوء إلى سياسات الليبرالية الجديدة التي لا تشجع النمو الاقتصادي الحقيقي الموزع بعدل . ( Harceg, 2006) .
ثانياً : أثر التكنولوجيا على قوة العمل :
ثورة المعلومات أدت إلى انتقال الشركات من الاعتماد على قوة العمل المكونة من موظفين تقليديين أكبر سناً واكثر خبرة إلى آخرين أصغر سناً وأكثر رغبة في التنقل بين الوظائف المختلفة يفرض هذا الانتقال العديد من التحديات المهمة خصوصاً عندما نضع في الاعتبار السياق الذي يمثل فيه الشركات التي تطبق خطط طويلة الأجل تهدف إلى تقليل عدد الموظفين وتخفيض النفقات .
وتنوي الدول المتقدمة عام 2008م إلى إحالة الجيل المولود بين عامي 1946م و 1964م إلى سن التقاعد في معظم الدول المتقدمة وإذا استمر اقتصاد الولايات المتحدة في النمو بمعدل 1.5 في المائة سنوياً فسيواجه عجزاً يقدر بعشرة ملايين موظف بحلول 2010 م .
بعض المجالات ستعاني من هذا العجز أكثر من الأخرى فمن المتوقع أن تفقد مصانع السيارات أكثر من 40 في المائة من مديريها ومن المقرر ان يحال 45 في المائة من العاملين في الخدمات المدنية الفيدرالية الكندية للتقاعد بحلول عام 2010 م .
ووصل بالفعل في الولايات المتحدة تقاعد 60 في المائة من الموظفين في أحد معامل في وكالة ناسا الفضائية وكذلك واجه نظام الرعاية الصحية في استراليا 31 ألف مكان عمل شاغر عام 2006م .
فلا يزال ينظر إلى قوى العمل البشرية على انها عناصر قابلة للاستبدال .
فبينما يزيد احتياج العمل إلى المعرفة ، نجد أن جيلاً كبيراً من الموظفين الذين يتمتعون بالخبرة والمعرفة في مجالهم قد وصولوا إلى سن التقاعد ( Delong, 2004) .
فالتكنولوجيا قوة لا يمكن مقاومتها ، وقد تلعب دوراً في عدم المساواة في الأجور والنمو البطيء لأجور الطبقة المتوسطة ، والاختلافات بين التكنولوجيا والعولمة مهمة ، ومن الناحية العملية لا يمكن الفصل بينهما بسبب انهما متشابكان .
والتكنولوجيا تساعد العمال في طريق زيادة انتاجيتهم وبالتالي زيادة الأجور وان كانت هناك مدرسة أخرى لا ترى زيادة الأجور بشكل فوري .
وأثر التكنولوجيا مثل آثار التغيرات الاقتصادية الأخرى على تحول الميزة المقارنة بصورة سريعة من نشاط إلى التالي . وهذا يعني احتكاكاً أقل في أسواق العمالة ، ونظاماً تنظيمياً يشجع الاستثمار . ويعني نظاماً تعليمياً يزود الناس بالمهارات العامة التي تجعلهم متنقلين .
لكن الاشكالية هي في التفاوت الكبير جداً بين راتب العامل العادي الذي لم يزيد في الولايات المتحدة منذ عام 2001م بسبب ان نمو الاجور الحقيقية بسرعة تبلغ أقل من نصف سرعة نمو الانتاجية . بينما أجور كبار المدراء في اميركا منذ 20 عاماً زادت من حوالي 40 ضعف متوسط الأجور التي ظلت على هذا المستوى أربعة عقود وإلى 110 أضعاف المتوسط اليومي فالعامل حينما تنتهي خدماته فلن يحصل على مبلغ مجزي في حين تنجي نارديلي أحد المدراء بمكافأة باهظة ومهيبه بقدر مهنته التنفيذية . ومقارنة ببدل انهاء خدماته البالغ 210 ملايين دولار في شركة هوم ديبوت .
ثالثاً : تجسير هوة التكلفة :
انيل شتكارا نائبة الرئيس لشركة بي . تي . سي الأمريكية وهي شركة رائدة عالمياً في مجال برمجيات التصميم باستخدام الكومبيوتر التي تستخدم في تطوير المنتجات للأغراض الصناعية ، يقول ان هنالك 30 في المائة من كل الأعمال الخاصة بتطوير المنتجات في الدول ذات تكلفة اقل . وتعتبر الهند دولة رائدة في جذب مثل هذه الأعمال ، وهي تتقدم على بعض الدول الأخرى مثل جمهورية التشك والصين وروسيا .
ويقول اريد من أجل القيام بتطوير أحد المنتجات داخل البلاد في بلد التكلفة فيه مرتفعة يمكن أن يكلف ذلك من 40 إلى 60 دولاً للساعة الواحدة . ان تنفيذ العمل في الخارج سواء من خلال قسم تابع للشركة أو من خلال التعاقد مع شركة أخرى يتم اسناد العمل إليها يمكن أن يخفض التكاليف بحيث تتراوح ما بين 10 و 25 دولاراً في الساعة .
وبدأت تذهب الشركات في الدول ذات التكلفة المرتفعة إلى بلدان مثل الهند من أجل تطوير منتجاتها .
وذهاب تلك الشركات ليس فقط بسبب انخفاص التكاليف رغم انه عنصر جذب لكن من أجل توسيع نطاق الحصول على عماله فنيه بدرجة أكبر مما هو متوفر في بلدانهم بحسب اعتراف مسؤولين كبار في نفس الشركات الأمريكية .
يدعم موقف الهند في مجال اسناد عمليات التطوير جودة التعليم الفني في الهند الذي يوفر أعداداً كبيرة من المهندسين المتدربين ذوي الأجور الاقل نسبياً . ولديهم خبرة أخرى قدرتهم على تعلم اللغات وخصوصاً اللغة الانجليزية تساعدهم في مجال الخدمات الخارجية بالإضافة إلى مرونة المهندسين الهنود في العمل خارج الهند ( مارش ، 2006م ) .
ولم تكتفي الهند بأساليب التطوير الأساسية بل أيضاً اهتمامها بأعمال جانبية يمكن أن يكون من السهل نسبياً أسنادها لجهة خارجية مثل تحديث منتجات سابقة للشركة تحتاج لنوع من التحسينات أو تصميم أدوات بل أصبحت الشركات العالمية تنظر الى المهندسين الهنود ليس فقط من أجل تنفيذ أعمالهم بل اصبح من أجل الوصول إلى أشخاص لهم وزنهم في مجال يتسم بالشح في العرض .
فأصبحت الهند تلعب دوراً بارزاً ورئيسياً في تقريب الفجوة بين البلدان ذات التكلفة المرتفعة والبلدان ذات التكلفة المنخفضة وذلك من خلال تطوير منتجات جديدة تستخدم التقنية الغربية ولكنها تركز على احتياجات الناس ذوي الدخول المنخفضة في الاقتصادات الناشئة .
فشركة انتل الأمريكية التي تعتبر أكبر شركة لانتاج المعالجات الالكترونية الصغيرة ، كشفت أخيراً عن تصاميم لجهاز كمبيوتر رخيص يتم تصنيعه من قبل شركات هندية رائدة في مجال الالكترونيات وهي شركة وبرو وشركة اتش . سي . أل انفو سستمز ، يمكن أن تستخدم في الشاك الانترنت في المناطق الريفية ، ويعمل على بطاريات رخيصة ويتحمل درجات الحرارة القصوى .
وينطبق الشيء نفسه على صناعة سيارات شعبية رخيصة الثمن يستطيع أفراد الطبقة الوسطى في الهند اقتناءها حيث يتم بيعها بسعر التجزئة بأقل من عشرة آلاف دولار.
رابعاً : العولمة تقلقل أنصارها :
انتقال التصنيع إلى الخارج ، فجأة أصبح الأمريكيون الذين كانوا من أشد انصار العولمة لمدة طويلة مهتمين بالآثار الضارة للعولمة على اقتصادهم . وبطبيعة الحال فإن المرافعين عنها لا تزعجهم ضياع فرص العمل ، فهم يؤكدون ان انتقال التصنيع إلى الخارج يخفض من التكاليف تماماً مثل التحول التكنولوجي الذي يحسن من الانتاجية ، مما يؤدي إلى زيادة الأرباح وكل مايؤدي إلى زيادة الأرباك يكون مفيداً للاقتصاد الأميركي .
ويعتبرون ان في الأسواق التنافسية يضمن قانون العرض والطلب على المدى البعيد ان يتساوى الطلب على العمالة من المعروض منها في النهاية ستختفي ظاهرة البطالة .
لكن الواقع غير ذلك وان أداء الاقتصاد الأمريكي غير الجيد ويعاني عجزاً تجارياً وكذلك في الميزانية ومطالباً الاقتصاد الأمريكي بخلق وتوفير ما بين أربع إلى ست ملايين فرصة عمل لاستيعاب الاضافات الجديدة إلى قوة العمل لكن ما حدث على أرض الواقع كان الاطاحة بأكثر من مليوني فرصة عمل حتى نهاية عام 2004م .
والقلق الأكبر هو انتقال الأعمال التي كانت تمثل العقيدة المحورية في النقاش حول العولمة في الولايات المتحدة والدول الصناعية المتقدمة الآخرى التي كانت تقول ان العمال لا ينبغي أن يخافوا من العولمة بعد ما ان كان انتقال الأعمال لصالح الأعمال التي تتطلب عماله رخيصه فقط بينما تخصص الولايات المتحدة في المجالات التي تكسب فيها تميزاً نسبياً والتي تتطلب عماله ماهره وتكنولوجيا متقدمة لكن هذه أصبحت حجة غير مقنعة . ففي النهاية لابد أن يقبل مهندسي أمريكا والدول الغنية إلى تخفيض أجورهم أو يضطروا إلى البطالة .
فقد تضطر أمريكا والدول الأخرى الغنية إلى إتخاذ خطوات كفيلة بحماية عمالها وشركاتها ضد المنافسة الآتية من الخارج سواء في مجال البرمجيات أو تصنيع الفولاذ فان مبررات الدول النامية لاتخاذ الاجراءات نفسها أكثر منطقية وقوة ( ستيجلتز ،2004م) .
وأكثر من نصف الأمريكيين يريدون حماية الشركات من المنافسه الأجنبية حتى لو أدى ذلك إلى ابطاء النمو . بالإضافة إلى ذلك فان مجلس النواب صوت لصالح الحد الأدنى للأجور الفيدراليه للمرة الأولى منذ عشر سنوات . وحتى اليابان تشعر بنفس القلق بشأن عدم المساواة وركود الأجور وذهاب الوظائف للصين في الوقت الذي يحتضر فيه جولة الدوحة لمحادثات التجارة العالمية .
خامساً : الانفاق على المعرفة من أجل امتلاك التكنولوجيا :
تشهد جامعة MIT في مدينة كامبردج في الولايات المتحدة فعاليات مؤتمر (التقنيات القادمة ) وهو تقليد سنوي دأبت عليه الجامعة برعاية مجلة التقنية Technology Review ويشارك في هذا الملتقى زبدة من أصحاب العقول والاختراعات الجديدة من حول العالم لتكريم أفضل 100 مخترع من الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً .
وتشكل هذه التظاهرة العلمية فرصة غير عادية لاؤلئك الشباب المخترعين لجذب انظار المستثمرين ودعوتهم للمشاركة في تمويل تطوير المخترعات ونقلها من مرحلة الأفكار إلى مرحلة الانتاج التجاري .
والمعرفة اليوم مشتته بين كل الدول ، ولكن الدول المتقدمة سعت إلى احتكار التكنولوجيا والمعرفة وأنشأت منظمة عالمية للملكية الفكرية " وايبو " من أجل حماية الملكية الفكرية ، بينما العالم العربي والإسلامي أصبح في ذيل المناطق العالمية التي تمتلك المعرفة واقتصادياتها .
وهذا لا ينفي قدرة العقل العربي والإسلامي على الابداع والابتكار في شتى مجالات العلم والمعرفة ، ولكن هناك حقيقة أخرى تؤكد أن العالم العربي أصبح طارداً للعلماء ساهموا في النهضة الغربية الحديثة ، ولم تستطع العقول العربية المهاجرة إلى إيجاد بيئة علمية مناسبة لها في العالم العربي مما ساعد الغرب على تلقفها والاستفادة منها في بناء نهضتها العلمية والمعرفية وهناك جانب آخر يقوم الغرب بتمويل البحوث العلمية باشكال متنوعة حتى يستطيعوا الابتكار والابداع العلمي .
وتتحول آسيا على نحو سريع إلى محور عالمي جديد للانجاز في العلوم والتكنولوجيا متحدية هيمنة الولايات المتحدة وأروبا ويشير بحث اجرته مؤسسة ( يموس ) البريطانية إلى هيمنة آسيا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والأعمال والاختراعات في العقد المقبل ، مشيراً إلى أن الصين والهند وكوريا الجنوبية تبرز باعتبارها ( مراكز استقطاب في مجال الاختراعات ) وبالأرقام فإن الصين تجاوزت اليابان لتصبح المستثمر الثاني في العالم في مجال الأبحاث والتطوير بعد الولايات المتحدة .
ووفقاً لأرقام في ( تقرير العلوم والتكنولوجيا والصناعة لعام 2006 ) انفقت الصين ما يقرب من 136 مليار يورو على الأبحاث والتطور في عام 2006 واليابان ما مجموعه 130 مليار يورو ، غير ان الولايات المتحدة ظلت تقف على رأس دول العالم في استثمارات الأبحاث والتطوير بما يقرب من 330 مليار يورو . اما دول الاتحاد الأوربي التي تضم 15 دولة بينها فرنسا والمانيا والمملكة المتحدة ، فقد انفقت 230 مليار يورو ، وفي الفترة من 1995 حتى 2001 زادت الصين وكوريا الجنوبية وتايون من إجمالي الإنفاق على الأبحاث والتطوير بما يقرب من 14 في المائة بينما زاد الولايات المتحدة استثماراتها بـ 34 في المائة .
ولكن زادت براءات الاختراع المسجلة باسماء باحثين اسيويين من الصين والهند وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايون بنسبة 859 في المائة بين عامي 1989 وحتى عام 2001 ، بينما كان نشاط براءات الاختراع داخل الدول المتقدمة بسرعة أقل بلغت نسبة 116 في المائة .
ويشير تقرير لصحيفة ( نيويورك تايمز ) حول نمو آسيا في مجال الابتكار العلمي والتكنولوجيا ، مستشهدة بما قالته هيكس رئيسة معهد السياسة العامة في معهد جورجيا للتكنولوجيا إلى أنه ( من المدهش ان نرى هذه الحصيلة في أرقام المطبوعات والشهادات وبراعات الاختراع تتسارع على هذا النحو . انه شيء لا يصدق ) .
وقد أورد ( تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 2006 ) حول اتجاهات التكنولوجيا في العالم بان الصين تمثل الآن المرتبة الثانية في العالم حيث يوجد 966 ألف باحث تأتي مباشرة بعد الولايات المتحدة حيث يوجد بها 1.3 مليون باحث واحتلت اليابان المركز الثالث بنحو 677 ألف باحث بينما احتلت روسيا المركز الرابع .
وفي تقرير لليونسكو العلمي لعام 2005 ان إجمالي الانفاق على الأبحاث والتطوير في آسيا ارتفعت من 27.6 عام 1997 إلى 36.5 عام 2004 من إجمالي الانفاق على البحث العلمي العالمي مما أدى إلى اعداد هائلة من المواهب في مجال العلوم والتكنولوجيا والإدارة في آسيا ، التي لديها آفاق في تجاوز الغرب سواء في النوعية أو الكمية . وتشهد الهيمنة الأوربية الأمريكية في الابتكار في مجال العلوم والتكنولوجيا انخفاضاً .
وخلال العقدين المقبلين ستخلق آسيا مراكز جديدة هامة للابتكار في مجال العلوم والتكنولوجيا .
ويتوقع ان تصبح الصين القوة العلمية الأولى عام 2050 إذا سارت التوجهات في الصين على هذا المنوال ( تقرير ، الصين ، القوة العلمية العظمى المقبلة 2006) .
واستطاعت الصين إغراء 200 الف صيني بالعودة من خلال تقديم محفزات حكومية وفرص تجارية .
وبراءات الاختراع في الصين تسجل زيادة سنوية قدرها 23 في المائة منذ عام 2000 كما ان هناك 750 شركة عالمية باتت لها مراكز بحث في الصين خلال السنوات الثماني الماضية ( غويتا ، 2007) .
سادساً : كيف تكون العولمة من أجل الجميع :
يجب الا نتظاهر بأن الجميع يستفيدون من العولمة . فالمشكلة التي تفرضها العولمة اليوم هي بالتحديد ان قليلين قد يستفيدون ، وان الغالبية العظمى قد تسوء أحوالهم ، ما لم تضطلع الحكومة بدور فعال في إدارة وصياغة العولمة .
ونعوم شومسكي يقول ان العولمة تفاقم انعدام المساواة فحسب ، بل زادت الفقر العالمي .
ولكن إيهما يؤثر أكثر ، عدم المساواة أم الفقر ؟ فالغالبية العظمى ترى ان الفقر أكثر أثراً من عدم المساواة . وحقيقة الأمر مع الزيادة الأخيرة في معدلات النمو في أكبر البلدان الفقيرة - على رأسها الصين ، وبدرجة أقل الهند - أخذ عدم المساواة والفقر العالميان في الانخفاض . ويشير مؤشر عن التنمية حول العالم اصدره البنك الدولي في إبريل 2004 ان أعداد من يعيشون في فقر مدقع وهم الذين يعرفهم خط الفقر المعتمد لدى البنك الدولي انهم من يعيشون على دولار واحد يومياً ، حسب القوة الشرائية وكنسبة من سكان البلدان النامية بلغ التراجع 39.5 في المائة عام 1981 إلى 21.3 في المائة عام 2001 م .
والسبب الرئيس في انخفاضات الفقر وانعدام المساواة العالميين واحد : النمو السريع في البلدان الآسيوية ، وفي مقدمتها الصين . ويظهر أرقام البنك الدولي الخاصة بالفقر بجلاء فقد تراجعت النسبة بين عامي 1981 – 1999 من يعيشون على دولار واحد يومياً في منطقة شرقي آسيا والمحيط الهادي من 56 في المائة إلى 16 في المائة ، وتراجعت النسبة في الصين من 61 في المائة إلى 17 في المائة لكن في أفريقيا جنوب الصحراء حيث تعثر النمو عن 42في المائة إلى 47 في المائة .
فالانفتاح أمام التجارة أبعد من أن يكون شرطاً كافياً للنمو السريع ، لكنه أثبت في حال توافرت الظروف الملائمة .
وإذا استمرت الدول المانحة في تقديم قدر ضئيل من العون لا يكفي لحل مشاكل أفقر دول العالم ، فلن يكتب لهذه الدول التفلت من قبضة الفقر أبداً . أما إذا بادرت الدول الغنية إلى تمويل قدر أكبر من الاستثمارات في الأعوام المقبلة ، فانها بهذا تمنح الدول الفقيرة الفرصة لتحقيق النمو الاقتصادي . الأمر الذي يعد بانتفاء الحاجة إلى هذه المساعدات مستقبلاً .
وقد اقترح الوزير البريطاني براون إنشاء هيئة التمويل الدولي IFF تحقيق لهذا الهدف بالتحديد . وتتلخص فكرة هيئة التمويل الدولي في ضمان مضاعفة الدول المانحة المعونات التي تقدمها في غضون العقد المقبل ، حتى تتمكن الدول الفقيرة ذات الحكومات الرشيدة من وضع الاستثمارات اللازمة لتحقيق أهداف التنمية في الألفية الجديدة . وتهدف التنمية إلى وضع أفريقيا والمناطق الفقيرة الأخرى على أول الطريق نحو النمو الاقتصادي الثابت من خلال احتساب نفقات ومصروفات المعونات مقدماً خلال الفترة حتى عام 2015 .
لكن قوانين التجارة العالمية تكرس الثراء على حساب الفقراء وهي تحمي المزارعين الأثرياء على مستوى العالم من خلال خنق كل فرصة تسنح للفقراء ، وذلك بتكلفة تصل إلى 280 ألف مليون دولار امريكي سنوياً يتحملها دافعوا الضرائب والمستهلكون . وفي مجال الصناعة يمنع الوضع الراهن الدول الفقيرة من الترقي في سلسلة القيمة بسبب تصاعد التعريفات المفروضة على صادراتهم وفقاً لدرجة معالجة هذه الصادرات .
والحواجز القائمة بين البلدان النامية أيضاً مرتفعة بصورة خاصة ، الأمر الذي يؤدي إلى إعاقة النمو السريع للتبادل التجاري بين تلك البلدان .
وفي مجال اللخدمات تسد الحواجز التجارية الطريق في وجه تحسين الجودة والكفاءة ، الأمر الذي يؤدي إلى إبطاء نمو قطاع يستطيع أن يقدم اسهاماً ضخماً للعملية التنافسية وتشغيل العمالة .
والدول الغنية تتراجع العرض المقترح بالغاء دعم الصادرات الزراعية بحلول عام 2013 ، ومنح الدول الأقل تقدما إعفاء الجمارك والقواعد الخاصة بالحصص على جميع صادراتها تقريباً .
وهذه سوف يساعد على تقديم العون للدول النامية لتمكنيها من استغلال المزايا التي توفرها الفرص التجارية كوسيلة لدعم النمو بجانب تعزيز المعونات المالية والفنية والتحليلية فيما يتصل بالتجارة التي يقدمها كل من صندوق النقد والبنك الدوليين .
والدول الأقل نمواً مجموعة من 50 دولة بها عدد كبير من الدول الإسلامية تعرضت لتاريخ مأساوي من الاستعمار والاستغلال وتشمل بنين واليمن وبنغلاديش وافغانستان والسودان وموريتانيا ومالديف ومالي وتشاد وجزر القمر والصومال وهذه الدول غالباً ما تقوم بتصدير المنتجات الزراعية البسيطة مثل الموز والسكر والشاي وتصيب هذه الدول من التجارة العالمية بسيطاً جداً يصل إلى 0.64 في المائة فقط عام 2004 والبالغة نحو 8.9 تريليون دولار .
وتقول سوزان شبوب نائبة الممثل التجاري الأميركي بعد ختام أيام اجتماعات منظمة التجارة في هونج كونج في نهاية عام 2005 في حديثها للصحفيين ان ما قدمته أمريكا أكبر بكثير ما هو إلا مقدم لاستثمار اميركي ، وان الفوائد لامريكا والشركات الامريكية أكبر بكثير وما على اميركا وشركاتها إلا العودة لبدء بحث كيفية تحويل مؤتمر هونج كونج إلى أرباح ومكاسب طويلة المدى ، وذلك لأن أوربا واليابان واميركا قد حصلت على تعهدات لإلزام الدول النامية الكبيرة ذات الأسواق المربحة مثل مصر والسعودية في العالم العربي والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا باهم هدف تسعى وراءه الشركات الغربية الكبيرة وهو تحويل العالم كله إلى سوق كبير مفتوح للمنتجات الاميركية والغربية والقضاء على المنافسين المحليين . وحاولت مجموعة التسعين مكونة من 90 دولة فقيرة ونامية قد أحتجت في المؤتمر على إلزامها بفتح أسواقها للخدمات الغربية ، خصوصاً في مجالات حساسة للغاية مثل توزيع المياه والكهرباء والتعليم والرعاية الصحية غير أن اعتراضها ذهب ادراج الرياح مع هيمنة الدول الغنية على المحادثات الكبيرة تقوم بالضغط على الدول النامية عن طريقين :
الأول : هو طريق القروض المصحوبة بشروط تنص على فتح الأسواق وتفضيل الشركات الأجنبية ، واعطائهم معاملات امتيازية ، والطريق الثاني هو طريق المعلومات الفنية التي يتم التلاعب بها لتناسب أجندة الشركات الغربية ، ثم يتم تقديمها للدول النامية المنبطحة والخالية من الفكر الاقتصادي المستقل على أنها معلومات اقتصادية ونصائح مخلصة في السياسة الاقتصادية مجردة .
ويشهد على تلك السياسات كتاب : صورة المفكر الاقتصادي الأميركي جوزيف استجليتز رئيس مجل الاستشاريين الاقتصاديين الأميركي في فترة رئاسة بيل كلينتون وكبير الاقتصاديين في البنك الدولى ويروي كيف أدت سياسات البنك الدولي إلى الكثير من المآسي إلتى تعرض لها فقراء العالم الثالث بسبب اصرار العاملين في تلك المؤسسات على آليات عمل تبنى على أسس ايديولوجية وسياسية تتفق مع مصالح أو قناعات أصحاب السلطة في تلك المراكز الدولية .
ويرى استجليتز في كتابه ان تلك السياسيات مازالت تؤمن ان السوق يصل تلقائياً إلى أكثر النتائج فاعلية عندما تنفض يد الدولة عن التدخل لصالح الفقراء وتقوم بتخفيض أو الغاء ما يقدم من دعم للسلع والخدمات الضرورية من صحة وتعليم ومسكن ، وهذه السياسات التي يصر على تطبيقها البنك الدولي في الدول التي تلجأ إليه طلباً المعونة حسب تعبير استجليتز تجاوزها الزمن ولم تعد صالحة في عالم اليوم لإدارة دفة العولمة ( استجليتز ، 2005 ) .
ويرى ايسترلي باعتباره محللا سابقاً لنظم البنك الدولي بان الانتصارات الحقيقة ضد الفقر كثيراً ما تتحقق من خلال الأساليب التقليدية بخفض معدلات الفقر لا تساعد حقيقة وفعلياً ، بل انها في كثير من الأحيان تضر أكثر مما تفيد Ensterly, 2005)) .
بينما تقرير التنمية البشرية للعام 2006 م يؤكد ان التحديات البشرية الأكثر الحاحاً ، وان أصل المشكلة يكمن في الفقر والسلطة وعدم المساواة . وينصح باقامة شراكة عالمية من أجل التنمية ، عبر وضع خطة عمل عالمية في موضعها الصحيح لتحفيز العمل السياسي وتدعيم عمليات التخطيط على المستوى الوطني وتوفير التمويل متوسط الأجل .
لكن جينفري ساكس مؤلف كتاب نهاية الفقر .. الممكنات الاقتصادية لمستقبل البشري يرى ان 20 سنة سبقت الالفية الجديدة من سياسات الاصلاح الهيكلي الفاشلة ، وان الاخفاق كان من الدول الغنية مثلما هو من الدول الفقيرة ولاسيما ان مسؤولية النجاح تقع على الجميع ، ويرى ان تعذر احراز تقدم في الأهداف التنمية وفي أغلب أنحاء أفريقيا وبعض مناطق أمريكا اللاتينية ، ووسط آسيا تدل على ان المشاكل تتجاوز مسألة أنظمة الحكم الرشيد ذلك ان الحكومات في هذه المناطق قد أبدت شجاعة واستقامة وذكاء ، ومع ذلك تراجعت التنمية لديها . ومن هذه المنطلق تأتي الحاجة الملحة إلى اقتصاد اكلينيكي يشير إلى مسار استراتيجية أفضل في المستقبل . يتمثل مفتاح الاقتصاد الجديد في التشخيص المغاير الذي تتبعه وصفه علاجية مناسبة . وضرورة ان يأتي علاج مغاير كلي في كل حاله على حده ، يكون ساكس قد عمل على تقويض سلطان التهمه التي كثيراً ما تذرع بها الغرب في نصائحه للدول الفقيرة بتبنى أنظمة حكم رشيد .
وهو يؤيد أفكار الاسكوتلندي آدم سميث (1723-1790) حول طبيعة وأسباب ثروة الأمم فيصل ساكي إلى ان الجغرافيا بما فيها من موارد طبيعية والغرب من مسارات التجارة والأسواق الرئيسية لا تقل أهمية عن الحكم الرشيد بأي حال من الأحوال . (Sachs, 2005) .
فايرلندا اليوم أغنى بلد أوربي بعد لوكسمبورغ ، بعدما كانت تعاني من المجاعة والحروب الأهلية تمتلك اليوم اجمالي ناتج محلي للفرد أعلى من المانيا وفرنسا وبريطانيا .
وتحولت ايرلندا في أقل من جيل من بلد فقير إلى بلد غني ، ففي أواخر ستينيات القرن الماضي جعلت الحكومة التعليم الثانوي مجانياً وعندما انضمت عام 1973م إلى أوربا اصبحت قادرة على الاستفادة من قوة عمل أكثر تعليمياً . وبحلول أواسط الثمانينات كانت ايرلندا قد حصدت الثمار الأولية لعضويتها في الاتحاد الأوربي ، وهي المعونات لاقامة بنية تحتية أفضل وسوق كبيرة تبيع فيها منتجاتها . وبسبب سنوات سياسية الحماية وسوء الإدارة المالية عانت من الأفلاس ولكن شجاعة التغيير قادت ايرلندا إلى اتباع برنامج للتقشف المالي وخفض الضرائب على الشركات إلى 12.5 في المائة وهو أدنى بكثير من بقية دول أوربا . ما جعل الأجور والأسعار معتدلة ، واجتذبت الاستثمار الأجنبي وفي عام 1996 جعلت ايرلندا التعليم في الكليات مجاناً . ما أدى إلى خلق قوة عمل أكثر تعليماً .
ففي الوقت الحالي لدى تسع من كل عشر من كبريات شركات المواد الصيدلانية في العالم كليات في ايرلندا ، وكذلك الحال بالنسبة لـ 19 من 20 شركة معدات وطنية و7 من كل 10 من شركات تصميم البرامج الالكترونية وفي عام 2004م حصلت ايرلندا على استثمارات أجنبية من أمريكا أكثر من دولة في حجم الصين . انها السياسات الداخلية السليمة وتبنى العولمة طريق للنجاح .
سابعاً : الاعتماد على قوى السوق ليس دائما هو الحل الأمثل :
اصرار العاملين في المؤسسات الدولية على أن السوق يصل تلقائياً إلى أكثر النتائج فاعلية عندما تنفض يد الدولة عن التدخل لصالح الفقراء وتقوم بالغاء ما يقدم من دعم للسلع والخدمات الضرورية من صحة وتعليم ومسكن وهذه السياسات يصر على تطبيقها البنك الدولي في الدول التي تلجأ إليه طلباً لمعونته ولا يريد ان يقتنع كذلك صندوق النقد الدولي ، ان الاعتماد على قوى السوق ليس دائماً هو الحل الأمثل ، وفي حالات كثيرة كان تدخل الدولة إصلاح لما افسده السوق وسد ثغرات كبيرة احدثها .
وجميع الاقتصاديين يؤيدون تطبيق الخصخصة إلا انه مما يعطي الحالات خصوصاً حينما تباع مشروعات الدول للاجانب تؤدي إلى أضرار جسيمة للاقتصاد الوطني كما ان الانتقال المفاجىء إلى اقتصاد الخصخصة يجعل الدولة تدفع ثمناً باهظاً في صورة انخفاض معدل النمو وزيادة معدل البطالة وشيوع الفساد مثلما حدث في روسيا وفي بعض دول الاتحاد السوفيتي السابق نتيجة تطبيق نصائح صندوق النقد الدولي الذي أوصى تلك الدول بسياسة علاج الصدمة والانتقال مباشرة إلى اقتصاد السوق دون المرور بمراحل تدرج حذره مثلما عملت الصين الذي جنبها الكثير من الأزمات التي عانت منها دول شرق أوربا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا .
ويلقي اللوم المفكر الأمريكي جوززيف استجليتز رئيس مجلس الاستشاريين الاقتصاديين الآميركي في فترة رئاسة بل كلينتون وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي الذي رأى وعاد وألف كتاباً بعنوان ( ضحايا العولمة ) على سياسات صندوق النقد الدولي واصرار العاملين فيه على آليات عمل تبنى على أسس ايديولوجية وسياسات تتفق مع مصالح أو قناعات أصحاب السلطة في تلك المراكز .
وهي مسؤولة عن حالات الفشل في أنحاء كثيرة من العالم وأثرت بشكل مرير على الفقراء بسبب سياسات الصندوق البالية بسبب اهمال الصندوق جانب التنمية الاقتصادية لذلك من الضروري مراجعة الاتفاقيات التجارية الدولية التي لعبت دوراً كبيراً في الغاء الحواجز التجارية والسياسيات التي فرضت على الدول النامية أو الأقل فقراً في إطار عملية العولمة . وعلى ذلك لابد من تناول المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها شعوب تلك الدول الأقل فقراً أو الدول الفقيرة وترك ايديولوجية منظمة التجارة العالمية جانباً وتحصر الوقائع الخاصة لكل دولة تحديداً . لأن القرارات التي تبنى على أسس أيديولوجية وسياسية تؤدي دائماً إلى مبادرات ناقصة عاجزة تماماً عن حل مشكلات الدول الفقيرة .
فالفرضية التي ترى أن السوق يصل بصورة تلقائية إلى أكثر النتائج فاعلية ولا داعي لأي تدخل من قبل الحكومات بضبط الايقاع في الأسواق نظرية قد تجاوزها الزمن ، وأصبحت الحكومات والأسواق لابد أن تكون العلاقة بينهما أكثر تكاملية تعتمد على الشراكة ، فالحكومة يجب أن تضطلع بدور هام بالنسبة لقضايا عدم المساواة والبطالة والتلوث . ومن يحطون من قدر العولمة غالباً ما يغفلون مكاسبها ، لكن كذلك موقف أنصارها غير متوازن بدرجة كبيرة بسبب ربطه بالنموذج المنتصر الأمريكي الطراز .
ولكن لماذا نجحت العولمة في الصين وفشلت في أماكن عديدة من العالم . فالتاريخ المحلي للصين عام 1990 كان يمثل 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في روسيا ، لكن في نهاية التسعينات شهدت روسيا اتساع رقعة الفقر بينما انخفضت نسبة الففر في الصين انخفاضاً كبيراً جداً ، بسبب ان الصين نفذت برنامج تحول اقتصادي صممته بنفسها وطبقاً لظروفها بينما خضعت روسيا لبرنامج صممه صندوق النقد الدولي وكان سبباً فيما تعرضت له من أزمات . لكنها تنبهت روسيا في الوقت الحاضر لتلك المخاطر وتقترب الصين من احتلال المركز الرابع في العالم اقتصادياً وهي ثالث أكبر مصدر ومستورد للمنتجات التجارية في العالم بعد الولايات المتحدة والمانيا وأكبر دولة لديها فائض في حسابها الجاري في العالم ، يما يقارب 300 مليار دولار عام 2006 ولديها أكبر احتياطيات للعمله في العالم أكثر من ألف مليار دولار .
ونجحت الصين باعتمادها أسس بصادرات تتميز باستخدام مكثف للعماله ، وطلب متزايد على المواد الخام ، واعتماد كبير على المعرفة ، والخبرة الأجنبية المستوردة .
وانفقت على المعرفة 136 مليار يورو عام 2006 وفق ( تقرير العلوم والتكنولوجيا والصناعة لعام 2006 ) تزيد على اليابان قليلاً التي انفقت 130 مليار يورو مقابل انفاق الاتحاد الأوربي 230 مليار يورو بينما كانت الولايات المتحدة على رأس دول العالم إذ تنفق 330 مليار يورو . ويقول تقرير اليونسكو العلمي لعام 2005 ان إجمالي الاتفاق في آسيا زاد من حصة عالمية بلغت 27.9 في المائة عام 1997 إلى 36.5 في المائة عام 2004 ، مما أدى إلى أعداد هائلة من المواهب في مجال العلوم والتكنولوجيا والإدارة في آسيا ، التي لديها آفاق في تجاوزالغرب سواء في النوعية أو الكمية ، وتشهد الهيمنه الأوربية الاميركية في الابتكار في مجال العلوم والتكنولوجيا انخفاضاً خلال العقدين المقبلين ستخلق آسيا مراكز جديدة هامه للابتكار في مجال العلوم والتكنولوجيا .
الخاتمة :
ولما كانت الشركات الكبرى غير مباليه بالنقاش الديمقراطي ، ولا تخضع لنتائج الانتخابات المحلية صارت سلطات عديمة الشكل ولكنها تقود الأرض فعلاً وتقرير مصير سكانها على نحو سيادي ، فمن أصل 6 مليارات نسمة تحيا في هذه المعمورة ، يكاد 500 مليون منهم يحيا في رفاهية معقوله ، في حين يقع 5 مليارات و 500 مليون في حال العوز. دخل بعضهم أقل من دولار واحد في اليوم .
لقد آن الأوان لتعود تأسيس اقتصاد جديد ، يكون أكثر تضامناً مع صانعيه ، يقوم على مبدأ التنمية المستدامة ويجعل الكائن البشري في قلب اهتمامه .
وعموماً فان المجتمع الديناميكي أفضل من المجتمع المتساوي حيث يمكن احتمالات التفاوتات إذا كانت ضمن نظام قائم على التقدم وفقاً للاستحقاق وفي نظام اقتصادي متقدم بصورة عامة . وقد أثبتت أمريكا منذ عقود كيف ان الاقتصادات الديناميكية أفضل من الاقتصادات المدفوعة بالمساواة لتحقيق الازدهار العام .
�
ساحة النقاش