إدانة رسمية لمنظومة الفساد
بقلم: فاروق جويدة
يستطيع مجلس الشعب إذا أراد إصدار عشرة قوانين في أسبوع واحد وقد فعل ذلك كثيرا..والدليل هو القوانين التي أقرها المجلس في الأيام الأخيرة ابتداء بمد العمل بقانون الطواريء وانتهاء بقوانين التأمينات الاجتماعية والشراكة مع القطاع الخاص في مشروعات الخدمات.
ما أسهل مرور القوانين التي تتعلق بالجباية وفرض الضرائب كما حدث في الضريبة العقارية ولكن ما يتعلق بحياة الناس وصحتهم خاصة البسطاء والفقراء فلا محل لهم ولا مكان في مجلس الشعب والدليل هؤلاء الذين ينامون علي أرصفة المجلس ولم يخرج لهم أحد..
أقول ذلك بعد أن قرر المجلس الموقر تأجيل مناقشة قضية قرارات العلاج علي حساب الدولة وهي القضية التي أثارت جدلا كبيرا في الشارع المصري بعد أن تكشفت كوارث كثيرة تورط فيها كبار المسئولين مع أعضاء مجلس الشعب مع المجالس الطبية وكانت من القضايا التي تثير الدهشة والاشمئزاز حيث يتاجر هؤلاء في أمراض المواطنين واحتياجهم للعلاج..
تناثرت فضائح كثير حول هذه القضية بين أعضاء مجلس الشعب مما جعل د.فتحي سرور رئيس المجلس يحيل الملف كاملا إلي جهتين الأولي هي وزارة الداخلية حيث طلب تحريات أمنية كاملة عن تجاوزات أعضاء المجلس في هذه القضية أما الجهة الثانية فهي الجهاز المركزي للمحاسبات لأعداد تقرير مالي وفني شامل حول موضوع العلاج علي حساب الدولة.. ولكن المفاجأة أننا لم نعلم شيئـا حتي الآن عن تحريات وزارة الداخلية وماذا جاء فيها.. ثم تقرر تأجيل مناقشة تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات الذي تسلمه المجلس في الأسبوع الماضي من المستشار جودت الملط رئيس الجهاز وأصبح التقرير بكل ما فيه من وقائع أمام أعضاء المجلس.. ولا أدري لمصلحة من هذا القرار بالتأجيل.. هل هو محاولة تعتيم علي أخطاء المسئولين في الحكومة والتي ذكرها التقرير بكل وضوح أم هو محاولة لإنقاذ الحزب الوطني ونحن علي أبواب الانتخابات من تجاوزات عدد كبير من أعضاءه تورطوا في هذه القضية أم أن هذا هو مصير قضايا الفساد والاعتداء علي المال العام في كل الحالات..
التقرير الذي قرر مجلس الشعب تأجيل مناقشته يضم حقائق كثيرة يجب أن يعرفها الشعب حتي ولو قرر المجلس إخفاءها بعض الوقت أو كل الوقت..
المفروض أن الأولوية في العلاج علي نفقة الدولة للمواطنين العاديين من الفقراء والبسطاء الذين لا تحميهم مظلة للتأمين الصحي أو العلاج ولا تتوافر لديهم الإمكانات لإجراء عملية جراحية أو توفير الدواء اللازم ولكن المؤسف أن هذه الأموال اتجهت إلي علاج كبار المسئولين وعائلاتهم ابتداء بعمليات التجميل والعلاج الطبيعي بالحمام المائي وجلسات المساج والأوزون وتركيب الأسنان وعلاج العيون وإصلاح الحول وزرع العدسات والعلاج بالليزر.. كل هذه المجالات التي ذكرها التقرير لا تخص المواطن العادي الذي لا يجد قرص الأسبرين.. ولكنها تخص الكبار الذين تتكدس في حساباتهم الملايين ورغم ذلك يطاردون ما بقي من فتات للغلابة.. أن واحدا من هؤلاء الكبار حصل علي مليون و900 ألف جنيه نفقات علاجه بالخارج..
كيف تسربت هذه الملايين من مستشفيات الغلابة الحكومية إلي المستشفيات الخاصة والاستثمارية لحساب كبار المسئولين وتجار مجلس الشعب..
الأرقام كما يؤكد التقرير تقول..
* تم إنفاق3 مليارات و909 ملايين جنيه علي قرارات العلاج علي نفقة الدولة خلال عام2009 هذا بخلاف أن وزارة الصحة كانت مدينة بمبلغ2.6 مليار جنيه.. قامت بسداد900 مليون جنيه منها ومازالت مدينة بمبلغ1.7 مليار جنيه وهذا يعني أننا أمام رقم يتجاوز6.5 مليار جنيه في عام واحد لا أحد يعلم أين ذهبت ويضاف إليها60 مليون جنيه قرارات العلاج بالخارج في عدة شهور حيث لم تتوافر للجهاز المستندات المطلوبة..
* يؤكد التقرير أن قرارات العلاج الصادرة عن المجالس الطبية بوزارة الصحة خلال الفترة من2007 إلي2009 أي في ثلاث سنوات بلغت8 مليارات و355 مليون جنيه وهذا يعني أننا أمام رقم يتجاوز15 مليار جنيه لقرارات العلاج فأين ذهبت كل هذه المليارات وكيف تسربت إلي حسابات وجيوب المسئولين في الدولة ومجلس الشعب والحزب الوطني..
بعد ذلك يضع التقرير مجموعة ملاحظات مهمة..
* يقول تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات أنه لا توجد تقارير طبية معتمدة من المجالس الطبية ولا توجد رقابة علي أعمال المكاتب الطبية بالخارج.. ولا توجد رقابة علي تكاليف العلاج.. ولا يوجد التزام بالتكاليف المقررة حيث تزيد أحيانـا بنسبة100% عن نص القرار.. وكثيرا ما يتم تعديل القرار دون أسباب أو انتقاله من مستشفي حكومي إلي مستشفي خاص أو استثماري.. وهناك قرارات علاج تتحول إلي شيكات مسحوبة باسم صاحب القرار دون تقديم مستندات فعلية أو تقارير طبية.. وهناك شيكات يتم صرفها بمبالغ ضخمة مقابل فواتير أدوية من صيدليات خاصة ومعظمها فواتير' مضروبة'..
* يقول التقرير إن مسئولا واحدا بالمجالس الطبية أصدر قرارات علاج بمبالغ وصلت إلي مليار و91 مليون جنيه في أربعة شهور فقط وخلال الفترة من2009/9/1 إلي2009/12/31 بل أن هذا المسئول حصل لنفسه علي قرار بالعلاج بمبلغ42 ألف جنيه..
ويؤكد التقرير.. رغم أن هناك صندوقا للخدمات الطبية للعاملين في مجلس الوزراء فقد صدرت لهم قرارات جماعية للعلاج علي نفقة الدولة بمبلغ أربعة ملايين جنيه في عام واحد..
* أن المستشفيات الخاصة والاستثمارية حصلت علي الجزء الأكبر من تكاليف العلاج سواء في صورة أدوية أو عمليات جراحية بل أن هناك تفاوتـا كبيرا في أسعار الخدمة الصحية رغم أن الحالات المرضية متشابهة.. وفي حالات كثيرة تم تحويل قرارات العلاج من المستشفيات الحكومية إلي المستشفيات الخاصة والاستثمارية دون تقديم أي مستندات أو تقارير طبية بل أن المستشارين في مجلس الوزراء يصدرون قرارات في هذا الشأن دون الرجوع لرئيس الوزراء..
الأخطر من ذلك كله.. هو صدور قرارات علاج بأسماء أشخاص متوفين..
وفي حالات كثيرة ارتفعت تكاليف قرارات العلاج عن المبالغ المقررة بنسبة100% دون تقديم مستندات أو فواتير أو أسباب طبية..
* في أقل من عام أصدر رئيس الوزراء قرارات علاج بالخارج تجاوزت47.5 مليون جنيه.. وأصدر وزير الصحة قرارات أخري قيمتها12.8 مليون جنيه..
الأغرب من ذلك كله هو السفر للخارج علي الطائرات بالدرجة الأولي مع بدل سفر وتكاليف العلاج وقد شمل ذلك عددا كبيرا من الأشخاص وعائلات كبار المسئولين..
هذه بعض الأرقام والتفاصيل والمؤشرات التي توقفت عندها في التقرير.. ولكن الشيء المخيف هو حجم الأرقام التي تنفقها الدولة علي قرارات العلاج ومن خلال طرح بسيط نري أنفسنا أمام15 مليار جنيه في ثلاث سنوات فقط.. والشيء المؤكد أن هذه المليارات لم تصل إلي مستحقيها في الأرياف أو المصانع أو النجوع أو العمال النائمين أمام مجلس الشعب ولكنها تسربت إلي مكاتب وبيوت كبار المسئولين سواء في الحكومة أو الحزب أو مجلس الشعب..
كيف تنفق الدولة15 مليار جنيه في قرارات علاج ونسبة المصابين بفيروس سي تزيد علي20% من سكان مصر والبلهارسيا مازالت تستبيح دماء الملايين في الريف المصري والعشوائيات..
* نحن أمام بلاعات من الإنفاق الحكومي الذي يؤكد نظرية المال السايب وللأسف الشديد ان هذا المال السايب يوجد في كل جوانب العمل الحكومي وبعد ذلك نقول أن الدولة فقيرة.. ويتساءل المسئولون كيف نغطي العجز في الميزانية ولكن الحقيقة كيف نغطي العجز في الضمائر..
هل هناك دولة فقيرة يتسرب منها15 مليار جنيه في المساج والأوزون والعدسات اللاصقة وعمليات التجميل.. هل هناك دولة تضم كل هذه العشوائيات واعلي نسبة في الفقر في العالم وتنفق15 مليار جنيه علي عمليات شد الوجه وتذاكر الدرجة الأولي وحمامات الساونا وزرع الشعر..
أنني أطالب مجلس الشعب بنشر أسماء الذين تورطوا في هذه الجريمة والمبالغ التي حصلوا عليها وينبغي أن يعلن الحزب الوطني براءته من أعضاء المجلس الذين تاجروا في آلام الناس..
نحن أمام قضية تهتز لها أركان السماء لأنها اعتداء وحشي علي أموال الغلابة والبسطاء وإذا كان هذا ما حدث في الخدمات الصحية فماذا يحدث في ميزانيات الدعم الذي لا يصل إلي أصحابه والأرقام الرهيبة التي تعلنها الحكومة وماذا يحدث في مشروعات الصرف الصحي والمياه والإسكان والمرافق وكيف نصدق كل هذه الأرقام التي تدعي الحكومة أنها تنفقها علي المواطنين..
ما حدث في قرارات العلاج علي نفقة الدولة يمثل جانبا من منظومة الفساد التي شملت كل شيء وتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات حول قرارات العلاج علي نفقه الدولة إدانة رسمية لمنظومة الفساد واعتراف صريح بها..
لا أجد مبررا لتأجيل مناقشة هذا التقرير الخطير إلا إذا كان الهدف ترحيله إلي دورة برلمانية قادمة او إغلاق الملف بصورة نهائية.. لقد قام الجهاز المركزي للمحاسبات بدوره كاملا بمنتهي الموضوعية والأمانة وقد بذل د.الملط جهدا خرافيا لكشف الحقيقة ويبدو أن هناك جهات أخري تحاول إخفاء هذه الحقيقة..
أن أسماء المتورطين في هذه الجريمة لدي الجهاز المركزي للمحاسبات وفيهم أسماء كبيرة ورنانة.. وإذا تمسك مجلس الشعب بقراره بتأجيل مناقشة التقرير أو إخفائه والتستر عليه فإنني أطالب النائب العام المستشار عبد المجيد محمود بأن يطلب هذا الملف ويبدأ التحقيق مع جميع الأسماء التي وردت فيه..
لا يعقل أن يكون مصير جميع قضايا الفساد في السنوات الأخيرة أرشيف السلطة ومكاتب المسئولين..
يبدو أن طوفان الفساد اجتاح كل شيء..
/.. ويبقي الشعر
هذي الوجوه العابثـات
علي ضفـاف النـهر
تحرق كـل يوم ألـف بستـان ظليل
يتـرنـحون علي الكـراسي كـالسكـاري
بينما الطـرفـان يزأر حولنـا
وعلي رفـات الأمة الثـكـلي
يفيض الدمع.. يرتفع الـعـويل
ومواكب الـكـهان تـرقـص في المزاد
وكـلـما مالت قـوي الطـغيان
في سفه نميل
زمن يبيع الضوء في عين الصغـار
يقايض الأحلام بالأوهام
يلهث عاريا
وإذا سألت تثاءب الـكـهان
في ضجر.. وقالـوا.. ما الـبديـل ؟!
موتـوا علي ظهر الخيول
ولا تموتـوا خـلـف وهم مستـحيل
واخـتـرت ضوء الـفـجر
آخر ما تـراه عيونـك الحيري
من الزمن الـبخيل
كانت صلاة الفجر
آخر لحظة في الـعمر
كانت سورة الرحمن
آخر ما تلوت.. وأنـت تهفـو للرحيل
أتـري رحلـت
لأن آخر أمنيات العمر شاخت
فاستراح النـبض في القلـب الـعليل
أتـري رحلـت
لأن شطآن الجداول
في الظـلام تآكـلـت واسود ماء النـيل
أتـري رحلت
لأن جرذان الشوارع
ينخرون الآن في الجسد النـحيل
في آخر المشوار تحمل ما تبقـي
من صلاة الـفـجر.. والشـهر الـفـضيل
من قصيدة واخترت أن تمضي وحيدا سنة2002
[email protected]
المزيد من مقالات فاروق جويدة
ساحة النقاش