بقلم: د. قدري حفني
كان أول ما تلقيت من دروس في مقرر الإحصاء النفسي علي يد أستاذي السيد خيري, أن الدرجة الخام لا معني لها, فنجاح الفرد في الإجابة إجابة صحيحة عن نصف أسئلة اختبار معين.
لا يعني شيئا علي الإطلاق, إلا إذا قمنا بوزن تلك الدرجة بمعدلات إحصائية محددة, أي بتفسيرها في ضوء أداء أقران هذا الفرد, فإذا كان هؤلاء الأقران يستطيعون الإجابة مثلا عن ثلاثة أرباع الأسئلة إجابة صحيحة تبينا أن صاحبنا متخلف عن أقرانا, ويختلف الأمر إذا كان الأقران لا يستطيعون الإجابة الصحيحة إلا علي ربع الأسئلة فحسب, آنذاك نتبين أن صاحبنا متفوق علي أقرانه.
وبعد مضي السنين وتراكم الخبرات تعلمت من أستاذي رشدي فام درسا جديدا, أن ثمة طريقة أخري لوزن الدرجة الخام بنسبتها إلي الأداء السابق للفرد, أي أن ننظر إلي الأداء السابق لصاحبنا الذي أجاب إجابة صحيحة عن نصف أسئلة الاختبار, فإذا كان متوسط أدائه السابق يتجاوز الدرجة التي حصل عليه كان ذلك مؤشرا علي تدهور أدائه, والعكس صحيح أيضا.
تذكرت تلك الدروس القديمة خلال تأمل موقفنا الفكري الإعلامي الراهن وما يفيض به من حديث لاينقطع عن تآكل الطبقة الوسطي المصرية, بحيث أصبح ذلك الحديث بمثابة اللحن الأساسي الذي تنتظم حوله معزوفة انهيار مصر التي تتعدد نغماتها ويتباين عازفوها من تراجع للدور المصري الثقافي الذي كانت تلعبه تلك الطبقة, إلي تراجع الدور السياسي المصري في العالم العربي والإفريقي, الذي كان يعتمد أيضا علي تلك الطبقة, إلي تزايد الفقر والفقراء في مصر الذي يرجع مباشرة لتساقط المزيد من أبناء تلك الطبقة في هوة الفقر, وتكون المحصلة هي تراجع نوعية الحياة في مصر علي كل المستويات.
ولم تعد تلك المعزوفة مقصورة علي مصادر غير مصرية لها أجنداتها المعلنة أو المضمرة, بل تسللت وبكثافة إلي غالبية المنابر الإعلامية المصرية, سواء كانت تصدر عن أثرياء القطاع الخاص أو الأحزاب, أو حتي ما يعرف بالصحافة القومية, ومع الإلحاح الإعلامي المستمر بالصوت والكلمة والصورة, تحولت النغمة إلي ما يشبه الأيقونة الفكرية المقدسة التي تبعث الرعب في قلب من يحاول مناقشتها أو يجرؤ علي تفنيدها.
وفي كثير من الأحيان يمضي الحديث دون التفات الأرقام أو جداول باعتبار أن القضية واضحة جلية لا تحتاج إلي بيان, وإذا لم يكن بد من دليل, فحديث تليفزيوني أو تحقيق صحفي يعرض لأحوال فقراء من مصر يشكون البؤس وسوء الحال, وإذا لم يكن بد من أرقام فلتكن أرقاما تعبر عن الواقع الراهن, وإذا لم يكن بد من مقارنة فلتكن مقارنة أحوالنا بأحوال أقراننا من أبناء ماليزيا أو كوريا أو تركيا.. إلي آخره.
وليس من شك في صدق الشكاوي أو الأرقام, ولكن يبقي سؤال: هل نحن نتقدم ولكن ببطء؟ أم أننا نتدهور؟ هل كانت أحوال الطبقة الوسطي في مصر أسوأ أم أفضل مما هي عليه الآن؟ وهل أحوال فقراء مصر الآن أفضل أم أسوأ من أحوالهم فيما مضي؟ وهل نوعية الحياة في مصر حاليا أفضل أم أسوأ مما كانت عليه؟ واضعين في الاعتبار أن التحسن البطئ قد يكون مدعاة للثورة والتململ بأكثر مما يحدثه التدهور الواضح الذي قد يدفع للاستسلام.
ولقد حاولت بقدر ما استطعت أن أبحث عن مثل تلك المقارنات الطولية دون جدوي, ولذا فإنني أناشد أهل الاختصاص أن يتفضلوا بتوفير تلك البيانات الإحصائية الأساسية, وحبذا لو استطاعوا تقديم بعض الإحصاءات الإضافية المقارنة بين الماضي والحاضر بالنسبة لعدد من المجالات مثل:
ـ هل زادت أم قلت النسبة المئوية لمن يمتلكون ثلاجات منزلية خاصة في الريف؟ إن امتلاك المواطن لثلاجة يعني وصول الكهرباء إلي منزله, وأنه لا يتناول طعامه وجبة بوجبة, ومن ثم فالمتوقع أن تكون تلك النسبة آخذة في الانخفاض.
ـ هل زاد أم قل متوسط أعمار المصريين؟ وما مدي صحة ما يتردد من أنه في الثمانينيات كان متوسط الأعمار يدور في منطقة الخمسينيات من العمر, والآن ارتفع هذا المتوسط إلي73 سنة متوسط عمر المرأة, و69 سنة متوسط عمر الرجل في ضوء أن زيادة متوسط العمر تعد مؤشرا علي تحسن نوعية الحياة, ومن ثم فالمتوقع أن يكون ذلك المتوسط آخذا في الانخفاض.
ـ هل زادت أم قلت النسبة المئوية لمن يمتلكون سيارات خاصة من ذات السعة اللترية الصغيرة؟ علما بأن تلك السيارات الصغيرة ليست المفضلة لدي الأغنياء, كما أنها تفوق قدرة الفقراء, ولذلك فمن ثم فالمتوقع أن تكون تلك النسبة آخذة في الانخفاض.
ـ هل زادت أم قلت النسبة المئوية لمن يمتلكون المحمول في السنوات الأخيرة خاصة في الريف؟ مع الوضع في الاعتبار أن المحمول إذا كان ضرورة بالنسبة لبعض الفقراء, فإن الفقر بحكم تعريفه يعني العجز عن توفير الضرورات, ويسري ذلك بطبيعة الحال علي النسبة المئوية لمن يمتلكون الأطباق اللاقطة للقنوات الفضائية؟ ومن ثم فالمتوقع أن تكون تلك النسب آخذة في الانخفاض.
ـ هل زادت أم قلت النسبة المئوية للملتحقين بالمدارس الخاصة؟ صحيح أنها قد تقدم تعليما أفضل, وصحيح أن التعليم من ضرورات العصر, ولكن مرة أخري هل المقدمون علي تلك من الفقراء؟ أم أن الفقراء يسربون أبناءهم من التعليم ويدفعون بهم إلي سوق العمل؟ ومن ثم فالمتوقع أن تكون تلك النسبة آخذة في الانخفاض.
خلاصة القول إن العلم الاجتماعي الصحيح لا يقوم إلا علي المقارنات بنوعيها: مقارنة الأقران لتحديد الفجوة المطلوب عبورها, ومقارنة الحاضر بالماضي لتحديد وجهة الحركة لاتخاذ القرار المناسب لتسريعها أو لتعديل مسارها.
المزيد من مقالات د. قدري حفني
ساحة النقاش