أثر الإسلام واللغة العربية في الحياة الإسبانية (دراسة جد قيمة)


<!-- / icon and title --><!-- message -->

الأستاذ محمد القاضي


أثر الإسلام في الحياة الإسبانية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

إن تاريخ إسبانيا في العصور الوسطى لم يعرف الانفصال الجغرافي ولا العنصري بين المسلمين والمسيحيين واليهود. ولولا تعايش هذه الطوائف الثلاث في إسبانيا، لما خرجت من دائرة التخلف والظلام الذي كانت تعيشه باقي الدول الأوربية. وكان المستعربون حلقة الاتصال بين شطري إسبانيا المسلمة والنصرانية، فتفاعلتا وتعرضتا للتأثير المتبادل.
فمع الفتح الإسلامي للأندلس فتحت صفحة لالتقاء ثقافتين ثقافتين مختلفتين هما العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية، اتصلتا وتفاعلتا فتعرضتا للتأثير المتبادل عبر عصور التعايش المشترك. والاعتقاد بوجود هذا التأثير هو الدافع الأول لأعمال الترجمة التي قامت بها شخصيات إسلامية ومسيحية وأفنى فيها كثيرمن الباحثين المشهورين قسطاً من حياتهم في تحديد حجمها وأهميتها محاولين معرفة النسب ودرجات هذا التأثير([1]).
وكان من البديهي في ظل القوانين الإسلامية السمحاء أن يتمتع الجميع بالحقوق الدينية والدنيوية التي يضمنها الإسلام لكل من ينضوي تحت لوائه. وكان من الطبيعي كذلك أن يترك هذا الاندماج بصمات بارزة في حياة السكان حتى بعد سقوط الأندلس وقيام محاكم التفتيش باضطهاد المسلمين وإرغامهم على التنصير أو التهجير. وقد لاحظ المستعرب الإسباني خوان برنيط (Juan-Vernet) في كتابه "المسلمون الإسبان" (Los Musulmanes Espaٌol
إنه من العسير جداً أن نحدد مدى التأثير الإسلامي في الجزيرة الإيبيرية، ذلك أن الأندلس كانت دائماً هدفاً للهجرات الشرقية مما يكون له أثره فيما قبل الإسلام بكثير على أن هناك أشياء ماثلة لا يمكن الشك في أنها إسلامية، وذلك ما هو موجود في اللغة من ألفاظ وتعبيرات وعادات مثل Ojala التي هي »إن شاء الله«، ومثلها si dios quiere...

ويضيف قائلاً:
إن ما نقله الإسلام إلى إسبانيا له وزنه الهام في تكوينها وإنعاشها، كما أن له تأثيراً غير مباشر في الناحية الروحية. أما في الناحية المادية، فأثره مباشر وواضح، وأن أوربا ما اكتسبت من الثقافة الإسلامية إلا عن طريق إسبانيا... وبالجملة فتأثير الإسلام بارز في العلم والفلسفة والتصوف والإلاهيات ([2]).
ويعتقد الكاتب الإسباني أميركو كاسترو (Americo Castro) أن عادة تغسيل الموتى قد أخذت عن المسلمين، وعادة تغطية وجوه النساء كانت تمارس حتى وقت قريب في بعض مناطق "ألمرية" و"قادس"... ومن سالف العادات أيضاً كان جلوس النساء على الأرض؛ وقد سادت هذه العادة إسبانيا في القرن الثامن عشر. ويقول الأديب الإسباني الكبير سرفانطيس (Cervantes) في روايته "دون كيخوطي" أن سانشو بانثا كان يأمل أن تجلس زوجته في الكنيسة على »القطائف« و»المخدات« وهما كلمتان عربيتان. ثم إن هناك تعبيرات التأدب يتحقق معناها إذا بحثناها في ضوء التأثير الإسلامي... مثلاً أن نقول »الدار دارك« لمن يزورها لأول مرة، وعند انصراف الزائر يقال له: »لقد نزلت منزلك، ومنزلنا تحت أمرك...«. ومن الشائع أيضاً سماع »إن شاء الله« أو »بمشيئة الله«...»إلى اللقاء غداً إن شاء الله« (Hasta manaٌa, si dios quiere)، وهي جملة تجري على ألسنة الإسبان باعتبارها شيئاً طبيعياً جداً. ويبدو له أن الإسبان قد استخدموا وما زالوا كلمة »رب«، أكثر من الشعوب الرومانيقية الأخرى؛ كما أن صيغة »حفظه الله« هي صيغة ذات أصل إسلامي، بقي بعض آثارها في الأوساط الملكية وتحيات الفلاحين الأندلسيين، وما زال أهل الريف الأندلسي يقولون حتى أيامنا هذه »في سلام الله«، وهي مأخوذة عن التحية العربي »السلام عليكم«.
أما أساليب طلب الصدقة التي ما زلنا نراها حتى اليوم في إسبانيا، ولا سيما في الجنوب، فمن الشائع الإشارة إلى قدسية اليوم خاصة إذا كان خميساً أو جمعة مقدساً... أما هذه الأساليب، فهي: »يا فاعل الخير، يا رب، إكراماً لوجه الله... يا محسنين...«. أما البركات واللعنات الكثيرة والمعبرة، فلابد من أن يكون لها أيضاً أصل شرقي. وقد تطول قائمة التدليلات، ومن السهل أن يسهب فيها من يشاء...

الحضارة الإسلامية جزء من تاريخ إسبانيا

لقد جعلت الفائدة العلمية والمتعة الجمالية من مهمة العربي مهمة مرغوباً فيها وضرورية، لأنها يسرت للطائفة المسيحية أن تطلق قدراتها على التوسع والسيادة وأن تستطيع يوماً ما وضع سياسة وقضاء شمل مناطق شاسعة من كرتنا الأرضية([3]).
وهذا الرأي نفسه يؤكده الكاتب الإسباني كريستوبال كويباس غرسيا (Cristoval Cuevas Carcia)، حيث يرى أن مجموعة كبيرة من الآراء والمواقف ووجهات النظر في إسبانيا، خاصة الديني منها، تمتد جذورها الكبرى إلى الإسلام. فالمثل العالي للمسيحي في الميل إلى الحج والزيارة والتبرك ثم الصيام وغير ذلك من الممارسات الدينية والرغبات الروحية المكونة لعقيدة الإسبان انبثقت أو تعززت بمعقتدات موازية لما هو »مسلم«. ويضيف، حجة على ذلك، أن المثل الإسباني بطرقه الخاصة وتعابيره وفلسفته في الحياة مشبع بأفكار موروثة في مجموعها من تالد ثقافي فوضه لهم العالم الإسلامي إلى ما شاء الله.
فهذا الزخم من الوقائع حدث بفضل وجود حلف من الأسباب العديدة والمتلاحقة قديماً، وفي الدرجة الأولى التفوق الفكري الذي تمتع به في القرون الوسطى مسلمو الأندلس على المسيحيين الإسبان. وهي الحقيقة التي أكدها ميننديث بيدال (Menendez Pidal) في كتابه: "إسبانيا ـ الصلة بين المسيحية والإسلام" إذ قال: »بفضل ما كان للعرب من تفوق حضاري، فإن إشعاعاته على إسبانيا ترجع إلى القرن الثامن ويشتد وقعها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر حيث تنتقل من إسبانيا إلى باقي أوربا«. أمام هذا السيل من الحجج والبراهين على وجود الأثر الإسلامي في عمق الحياة الإسبانية، لم يجد كريستوبال كويباس غرسيا بدّاً من التصريح بالحقيقة الآتية:
أمام هذه الوقائع تطرح مسألة لا جدال فيها، وهي أن عناصر إسلامية مبثوثة الوجود في تاريخ إسبانيا تؤثر في ثقافتنا حالياً. إن الإسبان اليوم يفتقرون إلى مفهوم حقيقي ومنهجي لما تمثله الثقافة الإسلامية وأصول عقيدتها وروحيتها وطرق انتشارها وعناصر التماسك التي تعطيها شخصيتها المتميزة، إذ ينقص الإسبان المعرفة التامة المعقلنة والممنهجة لطبيعة ومدى فعالية أحد العناصر الأكثر أهمية في تكوينهم وبنية فكرهم الاجتماعي والثقافي ([4]).
كانت الكنيسة والدولة قد عملتا على طمس كل ما له علاقة بالإسلام وتشويه صورته في ذهن الإنسان الإسباني، وبثت في نفسه روح التعصب وعدم التسامح مع الآثار الإسلامية، مع أنها تشكل جزءاً من تاريخ إسبانيا. بل إن إسبانيا الإسلامية تكون عنصراً من الماضي الوطني الإسباني والحاضر، ولكنه ليس مهضوماً جيداً، فهو يعتبر على الخصوص ماضياً مضاداً للأمة، وثقافة وديناً غازيين طردا ليفسحا المجال للثقافة الأوربية وللدين المسيحي اللَّذين سيطرا وتطورا إلى أيامنا هذه. لا شك أن بإسبانيا أقليات تعرف أهمية الثقافة الإسبانية العربية وتدافع عنها... إن أنواع التعصب التاريخي للقومية والكاثولكية في إسبانيا هي التي كونت روح القوميّة الكاثوليكية وصهرتها في الحرب الدائمة ضد الإسلام في شبه الجزيرة([5]).
ولكن هذا لا يمنع من وجود طائفة من المثقفين الموضوعيين الذين يتجرأون على اجتياز المحظور لإثبات الحقيقة، وخصوصاً أننا نقف اليوم على دراسات وأبحاث لمفكرين إسبان تكشف عن جوانب كثيرة من هذا المحظور، بل أصبح الجهر بالانتماء الأندلسي، بل والإسلامي، وبضرورة وجوب تعليم اللغة العربية والحضارة الإسلامية في المدارس الإسبانية على غرار اللغات الأجنبية الأخرى، بل واعتزازهم بماضيهم الإسلامي والحضاري والاحتفال بذكرى شخصيات عربية إسلامية في مجالي الفكر والأدب. وتلقى هذه الأصوات استجابة كبيرة من طرف سكان المناطق الأنلدسية، فتأسست جمعيات عديدة لذلك وعقدت ندوات ومؤتمرات استدعي لها العديد من الباحثين والمفكرين الإسبان والعرب. وقد لاحظ الدكتور محمود علي مكي:
أن هناك وعياً حقيقياً بالحضارة العربية الإسلامية واعتزازاً حقيقياً بها، وعلى الأخص في قرطبة وإشبيليا وقادس ومالقة والمرية، وهناك من الإسبان المعاصرين من يقول إنه أكثر انتماء إلى العالم العربي منه إلى إسبانيا الكاثوليكية أو إلى إسبانيا الحالية... والكثير من الكتاب والأدباء والشعراء الإسبان يكتبون انطلاقاً من هذه الروح ([6]).
إن إسبانيا تشهد اليوم صحوة في دراسة تاريخها وحضارتها القديمة، وهي صحوة لصالح الحضارة الإسلامية خاصة والإنسانية عامة، علماً بأن العديد من اللقاءات والندوات أقيمت وتقام في كل المدن تقريباً تمجيداً بماضيها الإسلامي وبشخصياته الفذة، واعترفت الحكومة الإسبانية سنة 1992 م رسمياً بالإسلام باعتباره ديناً سماوياً، ومنحت المسلمين وثيقة بذلك، وأصبح المسلمون يتمتعون بكامل حقوقهم كباقي أتباع الديانات الأخرى؛ كما سمح لهم بتقديم برنامج أسبوعي يذاع بالقناة التلفزية الثانية، يشرف عليه الأستاذ والصحفي المغربي محمد شقور، يتناول فيه أخبار الجالية الإسلامية وأنشطتها بإسبانيا، إضافة إلى قضايا دينية وفكرية وحضارية تختص بالإسلام والمسلمين. ويرى الدكتور علي المنتصر الكتاني أن:
أهم تأثير باق، هو في الإنسان الأندلسي الذي لم تتغير سماته، وأوصافه، ودمه، وموقفه من الإسلام بالمحبة ومن الكاثوليكية التي أجبر عليها بالكراهية. فمنذ سنة 1609 م ظلت الأديرة والكنائس الهدف الأول لثورة الشعب عند الفتن، بل حتى التراث الصوفي الأندلسي المتظاهر بالنصرانية، بعد سقوط غرناطة، هو تراث ذو منزع إسلامي، كما بقي الإسلام حاضراً في أبسط عادات الأهالي وتصرفاتهم. ويلاحظ ذلك اليوم في القرى والمدن الأندلسية، في شعاراتها والكتيبات التي تنشرها([7]).
أما الكاتب الإسباني والأندلسي الشهير والمعروف بتعاطفه مع الثقافة العربية أنطونيو غالا (Antonio Gala)، فيؤكد بكل شجاعة وجرأة: »إن الإسلام هو نحن، ولا يمكن أن نسير في اتجاه معاكس لما هو بداخلنا. فإسبانيا بدون إسلام لا يمكن فهمها كما لا يمكن فهم لغتها، لأن اللغة الإسبانية هي عملياً لغتان (أي مزدوجة اللسان): فهي لاتينية وعربية أيضاً«. ويضيف قائلاً: »عندما تم تسليم غرناطة، أصبحت إسبانيا فقيرة منعزلة لمدة قرون، وأصبحت الدول المسيحية بها هرمة بعد أن أفلت شمس الحضارة السامية العربية الإسلامية، عندئذ انتهى عصر العلم والحكمة والفنون والثقافة الرفيعة والذوق والتهذيب«([8]).
ويشير غالا (Gala) في استجواب أجرته معه صحيفة La Jornada المكسيكية إلى أنه خلال قراءاته العديدة أو عند كتابته لأي مؤلف جديد حول الحضارة العربية، فإنه يكتشف كل يوم حقائق مثيرة.
فأجمل المعاني والأشياء هي من الحضارة العربية، بل إن أجمل المهن وأغربها، وكذلك ميادين تنظيم الإدارة والجيوش والفلاحة والطب والاقتصاد، وتصنيف الألوان والأحجار الكريمة والمهن المتواضعة، كل هذه الأشياء التي نفخر بها نحن في إسبانيا اليوم تأتي وتنحدر من اللغة العربية. وهذا لم يحدث من باب الصدفة أو الاعتباط، فالعرب أقاموا في هذه الديار زهاء ثمانية قرون، وظللنا نحن نحاربهم ثمانية قرون لإخراجهم وطردهم من شبه الجزيرة الإيبيرية... فكيف يمكن للمرء أن يحارب نفسه؟ ذلك أن الإسلام كان قد تغلغل في روح كل إسباني... إن هذه الحقيقة تصدم البعض؛ إلا أنهم إذا أعملوا النظر وتأملوا جيداً في هذا الشأن، فلابد أنهم سيقبلون هذه الحقيقة؛ فالبراهين قائمة والحجج دامغة([9]).
وهذه الدعوة نفسها ينادي بها الكاتب والروائي الإسباني الكبير خوان غويتسولو (Juan Goytisolo)، فيقول:
أعتقد أنه بالنسبة لأي إسباني في القرن العشرين قد جاءت اللحظة التي يجب أن ينظر فيها إلى ماضيه بدون عقد. ذلك أن التخلف الثقافي لإسبانيا خلال الثلاثة قرون الأخيرة إزاء أوربا جعل المثقفين والمفكرين الإسبان يبذلون جهداً متعمداً للحد من هذا التخلف عن طريق طرح فكرة »أربنة« إسبانيا، ورفض كل ما كان في تاريخها يتعارض مع صورة بلد غربي... والآن تجاوزت إسبانيا تخلفها الثقافي والاقتصادي والسياسي، وجاوزت اللحظة التي يجب أن تنظر فيها إلى أن اختلافها الثقافي ليس عيباً وإنما هو ثروة. فهذا الذي يجعلنا نختلف عن أوربا شيء يجب أن نفخر به. وأعتقد أن هذه هي المراجعة النقدية التي قام بها »أمريكيو كاسترو وآسين بلاثيوس«، فقد فتحا عيوننا على كثير من الموضوعات حول الأهمية الثقافية التي قدمها لنا العرب. وأنا آمل أن يتعلم الإسبان من الآن كيف يفهمون ماضيهم الحقيقي، لأن معرفة الماضي يمكن أن تفتح أمامنا مستقبلاً حقيقياً([10]).

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 72/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
24 تصويتات / 718 مشاهدة
نشرت فى 18 مايو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,796,737