وتستند هذه النظرية الذائعة الي فرضية أن سكان العالم العربي خارج شبه جزيرة العرب لم يكونوا عربا جنسيا وإن جري تعريبهم. ويسلم جمال حمدان صاحب شخصية مصر والمنظر المصري للقومية العربية بأن العروبة مضمون ثقافي, لا جنسي, أولا, ويعلن أن مقياس العروبة ليس جنسيا; ولكنه كمية اللسان العربي التي أستعيرت! والثابت المحقق الآن أن اللغة المصرية القديمة, وهي حامية تصنيفا, كانت تشمل نسبة مهمة من المؤثرات والكلمات السامية, وأن البعض قد أثبت اشتراك أكثر من عشرة آلاف كلمة بين المصرية والعربية! ومن هنا قرب اللغة العربية السامية من اللغة المصرية القديمة, حتي اعتبرت الأخيرة في نظر البعض لغة حامية سامية في آن واحد! وليس هذا غريبا لأنه من الثابت أن عرب الجزيرة لم يكفوا عن الخروج منها والتدفق علي مصر أو التسلل إليها طوال التاريخ المكتوب وقبله. أضف الي هذا أن كل الغطاء البشري الذي يغطي ما يعتبر الآن العالم العربي هو أساسا فرشة واحدة, من جذر واحد, وإن تمايزت اللغات والألسن ما بين سام وحام مع عصر الجفاف, حيث' تقطع' الغطاء القديم المتجانس جنسيا إلي رقع متباعدة جغرافيا, وإن ظلت متجانسة جنسيا; وهذا بالدقة مفتاح أنثروبولوجية عالمنا العربي, كما يري جمال حمدان. والواقع أن عرب الجزيرة من الساميين, بل هم قلب السامية, إن لم يكونوا أصلها, كما يسجل جمال حمدان في مؤلفه شخصية مصر. ورغم أن عالمنا الموسوعي العظيم قد وقع في شرك هذا المفهوم اللغوي, فان موضوعيته تقوده للتسليم بحقيقة أنه ليس من شك أن الساميين والحاميين, الذين ينتمي المصريون الي المجموعة الاخيرة منهما, هما تعديلان من عرق جنسي مشترك, أو فرعان من شجرة واحدة! وأن التمايز بينهما قد تم في زمن ليس بالبعيد جدا, بدليل أوجه التشابه العديدة بينهما لغويا وحضاريا, فضلا عن الصفات الجسمية ذاتها, التي تجعلهما معا أقارب للأوروبيين من جنس البحر المتوسط! ويمضي الباحث الفرنسي بيير روسي الي أبعد من باحثنا العروبي, إذ يتحدي في كتابه التاريخ الحقيقي للعرب, مسلمة أن تعريف العرب عرقيا يقتصر علي بدو شبه الجزيرة العربية دون غيرهم. ويبين روسي أن علماء الغرب الذين درسوا تاريخ الشرق الادني ويدرسون حاضر الشرق الاوسط, هم الذين روجوا لهذا التعريف حتي يخدموا ـ ولايزالون ـ ساسة الغرب الساعين الي تفكيك المنطقة, بل وتفكيك دولها. ويبين روسي أن التقارب الثقافي التاريخي لشعوب الشرق يفسر حقيقتين: الأولي, أن اللغة العربية قد لقيت حظا لم تعرفه أية لغة أخري في انتشارها, وثانيتهما, أن دين ولغة الإسلام قد انتشرا بيسر دون جيوش جرارة وسيوف مسلطة مزعومة! ويعلن روسي دهشته من ان العرب قد وافقوا علي تعريف أنفسهم من قبل أجانب بأنهم ساميون! وهو اختراع متولد عن خيال اللغويين الالمان.. لا اثر له قبل القرن18. ويقول الباحث الفرنسي: إن الأمر سيكون بسيطا للغاية لو قلنا العرب, بوجودهم الاجتماعي والثقافي واللغوي المستمر منذ آلاف السنوات! رافضا ما وصفه زيفا وضلالا باسم السامية المزعومة لفصل العرب عن المجموع الثقافي المصري والكنعاني والبابلي! ثم يبين أن اللغة العربية المعاصرة قد تطورت عن اللغة الآرامية, التي تطورت بدورها عن اللغات المصرية والكنعانية والاناضولية والآشورية البابلية, حيث توجد في أصولها جميعا العناصر الأساسية للغة العربية! ويفسر تشويه الغرب لتاريخ وتعريف العرب برغبته في جعل العبرانيين الجدود الساميين لحضارة العرب ولتبرير عدوانه علي العرب الباديء منذ اضطهاده الكنائس الشرقية وشنه الحروب الصليبية! وقد زعمت في مقال سابق عن التاريخ الحقيقي للعرب أن قصور معرفة التاريخ الحقيقي للعرب, والتباس مفهوم العروبة وتعريف العرب, هو ما يفسر الدور السلبي للكثيرين من قادة الرأي العام العربي في الترويج لعوامل فرقة العرب, بدلا من دورهم في التنوير الإيجابي بواقع الوحدة رغم التنوع بين الشعوب العربية! ولست قوميا عربيا! بل أقول هذا من موقع الوطنية المصرية, مدركا أن عهد مصر بالتعريب يقل عن ربع تاريخها المكتوب, ومعتزا بالانتماء للحضارة المصرية القديمة! التي يستنكر الجاهلون الفخر الواجب باسهامها الرائد في خلق الحضارة وصنع الضمير. والحديث عن التاريخ الحقيقي للعرب تبرره حاله فقدان الاتجاه بين صفوف النخبة السياسية والثقافية المصرية ازاء مسالة دور مصر العربي! اقصد توزعها بين: موقف وطني انعزالي يعززه واقع تفكك العالم العربي! وموقف ليبرالي مستغرب ينشد الالتحاق بالغرب! وموقف اسلاموي سلفي يعلي فكرة إحياء دولة الخلافة علي حساب الولاء الوطني لمصر والرابطة العربية الوثيقة! وموقف' قومي عربي' يغذيه حنين الي زمن صعود الدعوة الناصرية للقومية العربية بعد أن ولي وانقضي بما له وما عليه! وعود علي بدء الي الجذور المشتركة للغتين الهيروغليفية والعربية, نرصد ما سجله الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح في الجزء الأول من كتابه' حضارة مصر القديمة وآثارها' من أن الصبغة السامية قد ظلت أكثر وضوحا في المفردات المصرية القديمة خلال ثلاث مراحل أساسية طويلة. المرحلة الأولي, كانت عصور التكوين الثقافي التي سبقت العصور التاريخية واستمرت خلال الألف الرابع ق.م, وكان جزء كبير من أهل مصر خلالها من نفس جنس أصحاب اللغة السامية الغربية, وقد ظهرت ألفاظ هذه المرحلة في نصوص الدولة القديمة. والمرحلة الثانية, سبقت عصور الدولة الوسطي واستمرت خلالها, واستقبلت مصر إبانها جماعات متفرقة من الرعاة والتجار والمهاجرين ومن عمال المناجم والأرقاء الأموريين( الساميين), واتسعت صلاتها ببلاد الشام حتي أصبحت لغتها مفهومة عند بعض أهل لبنان. والمرحلة الثالثة سبقت بداية الدولة الحديثة واستمرت خلالها, واندفعت إلي مصر في أوائلها جماعات سامية عدة تحت ضغط هجرات آرية شمالية, ثم مدت مصر نفوذها السياسي والحضاري علي نواحي الشام وأطراف العراق. كما شاعت في العبارات المصرية الدارجة مفردات سامية كثيرة يصعب تحديد أزمنتها, وتجاهلتها المتون الأدبية الرسمية عصورا طويلة, حتي سجلتها الكتابة القبطية منذ القرون الميلادية الأولي. وقد ظلت صلات لغة المصريين بالمجموعتين اللغويتين السامية والحامية موضع بحوث علمية مسهبة منذ أوائل القرن الماضي حتي الآن. وتكشف البحوث أن اللغة المصرية القديمة قد اشتركت مع أخواتها الساميات في خصائص عدة, كان من أوضحها وجود العين والحاء والقاف في حروفها. ولكن لم يؤد التقارب بين اللغة المصرية وبين جاراتها في الشرق والغرب والجنوب إلي ضياع شخصيتها اللفظية إطلاقا. ولم تكن المفردات الساميات غير قلة قليلة من كثرة كثيرة من مفردات ابتدعها المصريون, بوحي بيئتهم, وبما يناسب مطالب حضارتهم, وما يتفق مع أذواقهم وتخيلاتهم. والواقع أن المصريين وإن شاركوا إخوانهم الساميين في التعبير عن العين بلفظ عين, علي سبيل المثال, إلا أنهم ابتدعوا للعين ستة أسماء أخري, فضلا عن عدد من الصفات! وعبروا عن السماء بنحو أربعين اسما وصفة! وعبروا عن حركات المشي في الذهاب والإياب بنحو أربعين فعلا! وظل ذلك شأنهم في التعبير عن كل ما أحاط بهم وعاشوا فيه ووصفوه. كما احتفظ المصريون للغتهم بمبادئ نحو وصرف ميزت بينها وبين غيرها من لغات العالم القديم, وظلت أكثر دلالة في تصوير شخصية مصر اللغوية المتميزة, وإن ضمنوها قواعد ومفردات أخري تبين استمرار صلاتهم بجيرانهم الأقربين. [email protected]
المزيد من مقالات د. طه عبد العليم |
ساحة النقاش