وفي مقدمة رواد استكشاف منابعة, واكثر الناس ترويضا له, نظمنا مياهه, وحفرنا فروعه وترعه وخلجانه, وأقمنا الجسور والقناطر والمقاييس قبل تحويل مجراه لإنشاء اكبر سد مائي عليه( السد العالي), ولا عجب أن يتصف الانسان المصري طوال تاريخه بعبقرية هندسة الري. كنا أقدم من قدس النيل, وقدر وفاءه وحددنا يوم وفاء النيل في أجندة أعيادنا الوطنية, وكنا أشعر الشعراء في التغني بالنيل ومغازلته, وأبلغ الخطباء خطبا لوده, وأوائل المؤلفين من أبنائه يسجلون تاريخه ويكتبون جغرافيته, ويضعون خطط تنمية موارده, وليس ثمة مراجع مكتوبة بأية لغة من لغات شعوب حوض النيل تضاهي ما كتبه المصريون عن النيل ابتداء من خطط علي مبارك وكتابات شفيق غربال وسليمان حزين ورشدي سعيد وبطرس بطرس غالي وعبدالملك عودة ومحمد السيد غلاب ومحمود أبوزيد ونعمات أحمد فؤاد وجمال الدين الشيال واسماعيل سراج الدين, ومحمد نصرالدين علام.. وغيرهم الكثير من الجيل المعاصر الواعد. كنا ومازلنا أخلص دعاة التضامن والتعاون وتبادل المصالح والمنافع بين شعوب دول حوض النيل شعورا بالانتماء اليه, وتأمينا وحماية له من الدخلاء. كنا ومازلنا أكثر شعوب حوض النيل استخداما لمياه النهر, وبالتالي أكثرهم تقديرا لكل قطرة ماء جديدة.
لكل هذا وغيره فإننا أسعد شعوب النيل بفيضانه السنوي, عيوننا ساهرة علي مقاييسه تتابع ارتفاع منسوب مياهه بالسنتيمترات, وتتصدر أخبار الفيضانات الصفحات الأولي من صحفنا ومجلاتنا ومقدمة نشراتنا الإذاعية والتليفزيونية, والموضوع الرئيسي للندوات والمؤتمرات والمحاضرات, وفي هذا السياق بدأت مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا منذ منتصف التسعينيات تدرج نهر النيل في المناهج الدراسية التي حرصت علي توضيح كيفية التعامل مع المياه في كل أوجه الحياه الحيوية من منطلق الالتزام بندرة المياه وأهميتها والحفاظ عليها من الإهدار والتلوث, كما ركزت المناهج الجامعية علي المسائل المائية المهمة مثل الحقوق القانونية والتاريخية المتعلقة بالنهر وروافده وذلك لتنشئة جيل يعي أصول التعامل مع ثروتنا المائية استخداما وتوظيفا أمثل وحفاظا علي كل قطرة ماء منها.
واذا كانت إفريقيا تستحوذ علي مجموعات نهرية كبري( نحو56 نهرا) في مقدمتها نهر النيل وانهار زائير, النيجر, السنغال, الزمبيزي, موتو..الخ فإن اهتماماتنا يجب ألا تقتصر علي نهر النيل وحده, نظرا لدور مصر الريادي علي المستوي الإفريقي من ناحية, وتحقيقا لمصالح حيوية تربطنا بأنهار أخري منها نهر زائير سادس أطول أنهار العالم وأكبرها في امكانات الطاقة الكهرومائية. ومصر هي همزة الوصل في هذه الشبكة الكهربائية التي يمكن أن تربط إفريقيا وعلي نطاق أوسع من المشرق العربي والمغرب العربي وأوروبا. هكذا نجد أنفسنا كدولة مصب للنيل اكبر أنهار افريقيا معنيين بمياه النيل ومياه أنهار أفريقيا ككل, ولسوف يظل هاجسنا الأول هو تأمين حصتنا التاريخية والقانونية من مياه النيل وتنمية موارد مياه النهر ككل بالتعاون مع الدول التسع الأخري, ويساعدنا علي هذا طبيعة النهر الدولية ووحدته الهيدرولوجية التي تحتم تنسيق العمل في تنمية موارده من منبعه إلي مصبه. واذا كان التنظيم الاتفاقي لمياه نهر النيل قد بدأ منذ مائة عام بين الدول الاستعمارية التي تحكمت في دول حوض النيل فإن مبادرة مصر والسودان بتوقيع اتفاقية1959 قد جاءت كخطوة عملية تنظيمية في ميدان التعاون المشترك في استغلال مياه النيل بعد استغلال السودان, وتوصلت اللجنة الدائمة المشتركة بفضل حسن النية والخبرة الواسعة الي نتائج همهمةامة بالنسبة للبلدين, وكان في مقدمة تلك النتائج مشروع قناة جونجلي في مسقط السدود والمستنقعات في بحر الجبل, ويستهدف اجتذاب مياه النيل والعمل علي زيادة سرعة مجراه في هذه المنطقة لمنع أو تخفيض خسارة المياه بطريقة البخر في المستنقعات الراكدة, كما يحقق نحو خمسة مليارات متر مكعبة من المياه يمكن اقتسامها بين مصر والسودان, كما يستهدف المشروع في الاساس ايضا تعمير جانبي القناة الجديدة. وبعد مشروع قناة جونجلي شاركت كل من مصر والسودان في عدة مشروعات ثنائية أو متعددة الأطراف مع دول حوض النيل الأخري. كان في مقدمتها مبادرة حوض النيل منذ عام1999.
وأخيرا.. يتبقي علينا مسئولية التعامل مع دول حوض النيل جميعها بقلب مفتوح وبعقل مدبر وبصيرة نافذة وثقافة شاملة ومدرسة الري المصرية مدرسة عريقة لا تتواني عن التفكير المستمر لتدبير المزيد من مياه نهر النيل, أو أنهار افريقيا الأخري بما يحقق مصالح الجميع, ولن يتحقق هذا في غياب رأي عام مصري مهموم بشئون نهر النيل, ولا عجب فإننا لا نحتفل بالنيل علي مدي أيام العام كله اللهم إلا يوم21 مارس الذي يوافق يوم المياه العالمي وما أحوجنا الي أيام مصرية عديدة علي مدي العام تثير الوعي الوطني وتحفز كل فئات الشعب للحفاظ علي كل نقطة ماء وترشيد استخدام المياه في مختلف المجالات والمشاركة الجماعية في التفكير الدائم للحفاظ علي حقوقنا المشروعة.
المزيد من مقالات د. أحمد يوسف القرعى |
ساحة النقاش