authentication required

 

 

 

 

ضحايا الحب

 

الشيخ الدكتور عائض بن عبدالله القرني


مقدمة

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه وبعد : 

فيظن بعض الناس أن أصحاب الشريعة وأبناء الملة لا يعرفون الحب ، ولا يقدرونه حق قدره ، ولا يدرون ما هو ، والحقيقة أن هذا وهم وجهل ، بل الحب العامر أنشودة عذبة في أفواه الصادقين ، وقصيدة جميلة في ديوان المحبين ، ولكنه حب شريف عفيف ، كتبه الصالحون بدموعهم ، وسطره الأبرار بدمائهم ، فأصبحت أسماؤهم في سجل الخلود معالم للفداء والتضحية والبسالة . وقصدت من هذه الرسالة الوقف مع القارئ على جوانب مشرقة ، وأطلال موحشة في مسيرة الحب الطويلة ، التي بدأها الإنسان في حياة الكبد والنكد ، ليسمو إلى حياة الجمال والجلال والكمال ، وسوف يمر بك ذكر لضحايا الحب وقتلاه ، وستعرف المقصود مما أردت إذا قرأت ، وتعلم ما نويت إذا طالعت .

والله وحده نسأل أن يجعلنا من أحبابه ، والشهداء في سبيله .

 


الحب

 

الحب ماء الحياة ،وغذاء الروح ، وقوت النفس .

تعكف الناقة على حوارها بالحب ، ويرضع الطفل ثدي أمه بالحب وتبني الحمرة عشها بالحب ، بالحب تشرق الوجوه ، وتبتسم الشفاه ، وتتألق العيون . الحب قاض في محكمة الدنيا ، يحكم للأحباب ولو جار ، ويفصل في القضايا لمصلحة المحبين ولو ظلم ، بالحب وحده تقع جماجم المحاربين على الأرض كأنها الدنانير ،لأنهم أحبوا مبدأهم ، وتسيل نفوسهم على شفرات السيوف ، لأنهم أحبوا رسالتهم ، أحب الصحابة والمنهج وصاحبه ، والرسالة وحاملها ، والوحي ومنزله ، فتقطعوا على رؤوس الرماح طلبا للرضا في بدر ، وأحد ، وحنين ، وهجروا الطعام ، والشراب ، والشهوات في هواجر مكة ، والمدينة ، وتجافوا عن المضاجع في ثلث الليل الغابر ، وأنفقوا طلبا لمرضاة الحبيب .

بالحب صاح حرام بن ملحان مقتولا : فزت ورب الكعبة !، بالحب نادى عمير بن الحمام إلى الجنة مستعجلا : إنها لحياة طويلة إذ بقيت حتى آكل هذه التمرات ! ، بالحب صرخ عبد الله بن عمرو الأنصاري : اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى !. لما أحب الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ صارت له بردا وسلاما ، ولما أحب الكليم موسى ـ عليه السلام ـ انفلق له البحر ، ولما أحب خاتمهم حن له الجذع ، وانشق له القمر .

المحب عذبه عذاب ، واستشهاده شهد لأنه محب .

 

أحبك لا تسأل لماذا لأنني *** أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي

                                     

بالحب يثور النائم من لحافه الدافئ ، وفراشه الوثير لصلاة الفجر ، بالحب يتقدم المبارز إلى الموت مستثقلا الحياة ، بالحب تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا يقال إلا ما يرضي الرب ، الحب كالكهرباء في التيار يلمس الأسلاك فإذا النور ، ويصل الأجسام فإذا الدفء ، ويباشر المادة فإذا الإشعاع ، الحب كالجاذبية به يتحرك الفلك ، وتتصاحب الكواكب ، وتتآلف المجموعة الشمسية ، فلا يقع بينهما خصام ولا قتال ، بالحب تتآخى الشموس في المجرة ، فلا صدام هناك ، ويوم ينتهي الحب يقع الهجر والقطيعة في العالم ، وسوء الظن والريبة في الأنفس ، والانقباض والعبوس في الوجوه ، يوم ينتهي الحب لا يفهم الطالب كلام معلمه العربي المبين ، ولا تذعن المرأة لزوجها ولو سألها شربت ماء ، ولا يحنو الأب على ابنه ولو كان في شدق الأسد ، يوم ينتهي الحب تهجر النحلة الزهر ، والعصفور الروض ، والحمام الغدير ، يوم ينتهي الحب تقوم الحروب ، ويشتعل القتال ، وتدمر القلاع ، وتدك الحصون ، وتذهب الأنفس والأموال ، ويوم ينتهي الحب تصبح الدنيا قاعا صفصفاً ، والوثائق صحفا فارغة ، والبراهين أساطير ، والمثل ترهات ! . لا حياة إلا بالحب ، ولا عيش إلا بالحب ، لا بقاء إلا بالحب ، إذا أحببت شممت عطر الزهر ، ولمست لين الحرير ، وذقت حلاوة العسل ، ووجدت برد العافية ، وحصلت أشرف العلوم ، وعرفت أسرار الأشياء .

وإذا كرهت صارت كل كلمة عندك جارحة ، وكل تصرف مشبوها ، وكل حركة مشكوك فيها ، وكل إحسان إساءة . المحب هجره وصال ، وغضبه رضا ، وخطيئته إحسان ، وخطؤه صواب .

ويقبح من سواك الفعل عندي *** وتفعله فيحسن منك ذاكا !

الحب حبان : حب ارضي طيني سفلي إنما هو هيام وغرام ، وحب علوي سماوي إلهي ، وهو طاعة وعبادة وشهادة وسيادة .

فحب الأرض للعيون السود والخدود والقدود ، ووادي الغضا ، وأهل البان ، وذكريات سلمى ، وأيام ليلى .

وحب الإله تعلق بشرعه ، وانقياد لأمره ، وامتثال لدينه ، وتقرب منه .

حب الطين آهات وزفرات وحسرات وندامات .

وحب رب العالمين علو ورفع وكرامة وسلامة وسعادة وريادة ، كيف لا تحب الله وما من نعمة عليك إلا هو منعمها ، ولا بلية إلا هو صرفها؟ ! هو المحسن وحده _ جل في علاه _ .، فقضاؤه عدل ، وشرعه رحمة ، وخلقه جميل ، وصنعه حكيم ، وفضله واسع ، ووصفه حسن ، فلا عيب في شئ من صفاته ، بل الكمال كله فيها ، ولا نقص في تدبيره ، بل الحكمة أجمعها فيه ، ولا خلل في صنعه ، بل الحسن أوله وآخره فيه ، فحبه واجب ، والتقرب منه فريضة ، وشكره حتم ، وطاعته لازمة .

أما الحب سواه فمنافع  متبادلة ، وأهواء مشتركة ، وأغراض مادية ، يشوبه الخلل والزلل والإسراف وعدم الاستقرار ، مع ما يعقبه من أسف وندامة وحسرة .

ولا أحد في الكون يسكن له العبد ، ويتوكل عليه إلا الواحد الأحد ، ولذلك سمى نفسه ( الله ) ،. قيل هو الذي تأله النفوس إليه ،. وتسكن إليه في علاه .

 

الحب للرحمن جل جـلاله *** وهو مستحق الحب والأشواق

فأصرفه للملك الجليل ولذبه  *** من كل ما تخشاه من إرهاق

                                     

ما الحب ؟

 

لا أعلم كلمة في قاموس العربية تعبر عن الحب مثل كلمة ( الحب ) ، فليس هناك أصدق من ( الحاء والباء ) في دلالتهما على هذا المقصود العظيم ، فالحاء تفتح الفم فيبقي فارغا حتى تأتي الباء فيضم الفم وتطبق الشفتان ، إذا هنا اجتماع بعد فرقة بعد هجر !.

وكلمة ( حب ) كلمة  عامرة ، لها أنداء وأفياء وظلال وأبعاد ، وهي كلمة مؤنسة مشجية منعشة مشوقة ، بل هي معجبة مطربة مغرية ، لكنها ذائعة شائعة ، غير أنها خفيفة لطيفة شريفة وفيها نضارة .

كلمة (حب ) عالم من المودة والصلة والأنس والرضى والراحة ، وهي دنيا الأمل والفأل الحسن ، والأمس الجميل واليوم الحافل ، والغد الواعد .

إنها رحلة في عالم التآلف والتآخي ، والتفاهم والتكاتف ، والتضامن والتعاون ، في كلمة ( حب ) بسمة وضمة ولهفة واشتياق ولوعة ! .

إذا قلت : ( حب ) تداعت الذكريات القديمة ، وثارت المعاني الجميلة ، وحضرت المواقف المشجية ، واستعادت النفس شبابها ، والقلب أمله ، والروح إشراقها ، والمجلس بهجته ، والحضور أنسه .

إذا قلت : (حب ) سافرت بك قافلة الذكرى إلى صور ومشاهد لا تمحى من ذاكرة الزمن ، فعرضت لك الطفل يضم الثدي ، والناقة تحنو على الفصيل ، والآكام تلف الثمار ، والأغصان تعانق الجذوع ، والفراشة تلثم الزهرة ، والعش يكتنف الطائر ، فما احسن كلمة ( حب ) وما أبدعها وما أروعها .

الحب حرفان حاء وبعدهـا باء  *** تذوب عند معـانيها الأحباء !

 

إذا قلت ( حب ) هل غيث الرجاء ، وهبت ريح الصفاء ، وسرى نسيم الوفاء ، وتهللت أسارير الوجوه ، وانبلجت معالم الطلعات ، وأشرقت شموس الأيام ، وإذا قلت (حب ) امتلأت الجوانح بالأشواق ، والحشايا بالتلهف ، والضمائر بصور الأحباب ، ومعاهد الأصحاب ، ومغاني الأتراب .

إذا قلت: ( حب ) تساقطت أوراق البغضاء ، وتلاشت نزعات الشر ، وارتحلت قطعان الضغينة ، وفزت زمر الأحقاد ، وغربت نجوم العداوات .

 كلمة ( حب ) سماء شمسها اللقاء ، وقمرها العناق ، ونجومها الذكريات ، وسحبها الدموع . كلمة ( حب ) إشراقة من عالم الملكوت ، وإطلالة من ديوان الخلود ، ووقفة في بساط العظمة . من استظل بسمائها اتقد شوقه وتدافع خاطره .

 وأما تعريف كلمة ( الحب ) فخذه نظما ولا تخش ظلما ولا هضما :

الحب بسمـة عاشق ولو أنها  *** سفرت لغار البدر من إطلالها !

وقيل :

الحب أكبادنا تشوى وأعيننا *** تكوى ، وأعمارنا تطوى على الأمل

وقيل :

إذا قلت هذا الحب بعد ولوعة ***   وفرقة أصحاب وهجر أقارب

فما الحب إلا الأنس والقرب والرضى  *** فدعني فهذا الحكم بعد التجارب

 وقيل :

الحب كالسحر إلا أن رقيته ***   شهادة لا يذوق الموت لاقيها

 وقيل :

الحب ليس رواية شرقية  *** بأريجها يتزوج الأبطال

لكنه الإبحار دون سفينة *** ومرادنا أن الوصول محال

وقيل :

لعلك يا محب ظننت ظنا ***  بأن الحب جمع وافتراق

أجل هو جمع أوصال تداعت ***   وفرقة مهجة ، ودم يراق !

وقيل : الحب قصة طويلة فصولها الشهداء .

وقيل : الحب سر لا يعرفه المحبون .

وقيل : الحب ليس له تعريف إلا الحب .

 


أسئلة في الحب

 

السؤال الأول :

سألت إمام الحي عن حكم عاشق  *** إذا أزداد حبا صار من شوقه صبا

أيجزئه ذكر ورد تحية  *** وشهقة شوق كالنسيم إذا هبا ؟ !

فقال : عليه النحر يوم لقائه  *** بمحبوبه حتى يزيل به الذنبا !

 

السؤال الثاني :

سألنا أبا حمدان عن حكم صاحب  *** أحب فأهدى الروح خلا بلا ثمن

أيحرم هذا البيع والشرط باطل  ***  أليس يقال المرء حقا إذا غبن

فقال معاذ الله بل صح بيعه  *** وهذا الذي نفتي به سائر الزمن

 

السؤال الثالث :

سألت حماد عن صب جرى دمه  *** من أجل أحبابه ماذا نقول له ؟

فقال : قولوا له يفدي بمهجته  *** إما سواه على عمد نقول لهوا

 

المتنبي مفتيا :

 يقول أبو الطيب :

قفي واغرمي الأولي من اللحظ مهجتي  *** بثنائه والملتف الشيء غارمه

 


صحوة من سكار الحب

 

ومن المحبين من هجر الحب المحرم واتصل بالحب الشرعي الطاهر العفيف ، فأنتقل من عالم الزور ، ودنيا الهيام ، وظلام الغرام ، ومقام الآثام ، إلى جنة الصدق ، وروضة المعرفة ، وبستان اليقين ، وباحة الإيمان : فهذا ابن أبي مرثد هام ـ  قبل أن يسلم ـ بفتاة وعشقها وسكب عمره في كأس هواها ، وأفرغ روحه في كوب نجواها ، وفرغ شبابه على تراب مغناها ، فلما هداه الله وغسل قلبه من أدران الهوان وأوصار المعصية ، أفاق ـ والله ـ من رقده الغفلة ، ومن سنة الجهالة ، ومن سكرة الغي ، على صوت بلال ، فارتجف جسمه ، وتهذبت روحه ، وأعلن في إباء ، وصاح في استعلاء : أتوب إليك يا رب ، وأقبل على المصحف ، وهب إلى المسجد ، واستعان بالصبر والصلاة ، وأدمن الذكر ، وسجل رائعته في ديوان الخلود وسفر النجاة ودفتر المجد :

أأبقى غويا في الضلالة ساردا  *** كفي بالمرء بالإسلام والشيب ناهيا

                                     

وهذا لبيد بن ربيعة الشاعر المشهور ، هام بالغزل ومات بالمقل ، وانغمس في الشعر وحده ، يعيش للقافية ، ويضحي للقصيدة ، ولكنه عرف الله عن طريق الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم ، فتاب من حياة العبث والضياع ، ورجع إلى المحراب ، وأقبل على التلاوة ، وأنشد :

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي  *** حتى اكتسب من الإسلام سربالا

ونذر لله لا ينظم ولو بيتا واحد ، فإن فعل أعتق رقبة ، وقال : كفتني سورة البقرة عن الشعر

 وهذا إبراهيم بن أدهم عاشق الملك ، وهاوي الإمارة ، والمولود في الرئاسة ، فكر ذات يوم فقال : كان أجدادي وآبائي ملوكا فأين هم الآن ؟ هل تحس منهم أحد أو تسمع لهم ركزا ؟!، وتذكر قول الشاعر :

وسلاطينهم سل الطين عنهم  *** والرؤوس العظام صارت عظاما !

 

فأعلن توبته ، وفر من قصره ، وخلع ثياب الملك ، وهرب من الترف والجاه والنعيم إلى قرة وراحة الأرواح ، فكان يسكن الخراب ، ويمرغ أنفه بالتراب ، ويأكل الشعير ، وينام على الرصيف ، ويقول نحن في عيش لو علم به الملوك لقاتلونا عليه بالسيوف :

 

أمطري لؤلؤا سماء سرنديب *** وفيضي آبار تكريت تبرا

أنا إن عشت لست أعدم خبزا  *** وإذا مت لست اعدم قبرا !

 

وهذا عمر ابن عبد العزيز ابن النعمة والحشمة ، وارث الدور والقصور ، أرغد الناس في شبابه عيشا ، وأكثرهم ترفا ، وأزكاهم عطرا ، لكن نفسه تاقت إلى الجنة فزهد في الفاني ، ورغب في الباقي ، واقبل على الله تعالى ، وصدق مع ربه فعدل في الرعية ، وأخلص في العبودية ، وقاد الأمة الإسلامية خير قيادة ، مع ورع متين ، وعلم راسخ ، وخشوع صادق :

جزاك ربي عن الإسلام مكرمة  *** وزادك الله من أفضاله كرما

 


برقيات إلى الأحبة

 

الحب على المحبين فرض ، وبه قامت السماوات والأرض ولم يدخل جنة الحب ، لن ينال القرب ، بالحب عبد الرب ، وترك الذنب ، وهان الخطب واحتمل الكرب ، عقل بلا حب لا يفكر ، وعين بلا حب لا تبصر ، وسماء بلا حب لا تمطر ، وروض بلا حب لا يزهر ، وسفينة بلا حب لا تبحر .

بالحب تتآلف المجرة ، وبالحب تدوم المسرة ، بالحب ترتسم على الثغر البسمة ، وتنطلق من الفجر النسمة ، وتشدو الطيور بالنغمة ، أرض بلا حب صحراء ، حديقة بلا حب جرداء ، ومقلة بلا حب عمياء ، وأذن بلا حب صماء !

الحب هو بساط القربى بين الأحباب وهو سياج المودة بين الأصحاب :

شكا ألم الفراق الناس قبلي  *** وروع بالنوى حي وميت

وأما مثل ما ضمت ضلوعي  *** فأني ما سمعت ولا رأيت !!

بالحب ترضع الأم وليدها ، وتروم الناقة وحيدها ، بالحب يقع الوفاق ، وبالحب يعم السلام ، والمودة والوئام .

بالحب يفهم الطلاب كلام المعلم ، وبالحب يسير الجيش وراء القائد ويتقدم ، وبالحب تذعن الرعية ، ويعمل بالأحكام الشرعية ، وتصان الحرمات ، وتقدس القربات .

بيت لا يقوم على الحب مهدوم ، وجيش لا يحمل الحب مهزوم ، لكن أعظم الحب وأجله ما جاءت به الملة ، أجمل كلمة في الحب قول الرب : (يحبهم ويحبونه  ) . فلا تطلب حبا دونه

 

ليس حبا قطعة معزوفة  *** من يراع الشاعر المتنحب

ما ( قفا نبكي ) هو الحب ولا *** ظيبة البان وذكرى زينب

إنما الحب دم تتزفــه  *** في سبيل الله خير القرب

أو دمـوع ثرة تبعثهـا *** سحرا أصدق من قلب الصبي

أو سجـود خاشع ترسمـه  *** فوق الطين فاسجد واقرب

أحب امرؤ القيس فتاة ، وأحب أبو جهل العزى ومناة ، وأحب قارون الذهب ، وأحب الرئاسة أبو لهب ، فأفلسوا جميعا ! ، لأنهم أخطؤوا خطا شنيعا . أما حب بلال بن رباح فهو البر والصلاح ؛ سحب على الرمضاء ، فنادى رب الأرض والسماء ، وانبعث من قلبه ( أحد أحد ) ، لأن في القلب إيمانا كجبل أحد

إذا كان حب الهائمين من الورى

بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا

فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي

سرى قلبه شوقا إلى العالم الأعلى ؟!

الحب لا يعترف بالألوان ولا بالأوطان ، والدليل بلال وسلمان ؛ بلال أبيض القلب أسود البشرة ، فصار بالحب مع البررة ، وأبو لهب بالبغض ليس من أهل البيت ، وسلمان نال بالحب جائزة : ( سلمان من أهل البيت ! ) .

دعني من حب مجنون ليلى ، ومحبوب سلمى ، ومعشوق عفرا ، فلطالما لطخت بأشعارهم الطروس ، وضاقت بأخبارهم النفوس ، وخدعت بقصائدهم الأجيال واتبعهم الضلال ، وحدثني عن أنباء الأنبياء ، وهم من أجل حب الرب يهجرونه الأباء والأبناء ؛ فإبراهيم يتبرأ من أبيه ، ونوح من بنيه ، وامرأة فرعون تلغي بنفسها عقد النكاح ؛ لأن البقاء مع الكافر سفاح .

 هذا هو عالم الحب بتضحياته ، بأفراحه وأتراحه ، وهو حب يصلك برضوان من رضاه مطلب ، وعفوه مكسب .

والله ما نظرت عيني لغيركم

يا واهب الحب والأشواق والمهج

كل الذين رووا في الحب ملحمة

في آخر الصف أو في أسفل الدرج !

 

 

امرؤ القيس يصيح في نجد وقد غلبه الوجد ، ( قفا نبك )،   

فإذا بكاؤه على الأطلال ، وإذا دموعه تسفح على الرمال ، وإنه هيام العقل بلا وازع ، وحيرة الإنسان بلا رادع ، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يذوق الويلات ، ويعيش النكبات ، ثم ينادي مولاه في مناجاة وإخبات ، ويقول : " لك العتبى حتى ترضى " !.

لا تضع عمري بشعر طرفة العبد وهو يشكو الحب والصد ، حب ماذا يا هذا ؟ !. . أما علمت أن أحد الأنصار ، كان يقرأ (قل هو الله أحد  ) بتكرار ، فسئل عن المقصود ، قال : لأن فيها مدح المعبود ، وأنا أحب تلك البنود ، فدخل الجنة بالمحبة ، لأن الله احبه ...

 

دعني أمسح فوق الروض أجفاني

فالنار موقدة من حر أشجاني

نسيت في حبكم أهلي ومنتجعي

فحبكم عن جميع الناس ألهاني !

 

شغلونا بالروايات الشرقية والمسرحيات الغربية ، ويل هذا الجيل ويله !.. سهر مع غراميات ألف ليلة وليلة ، وفي الذكر المنزل والحديث المبجل قصص الحب الصادقة ، والمعاني الناطقة ، ما يخلب اللب ، ويستميل القلب .

أخرجونا يا قوم من ظلمات عشق الأعراب ، والهيام في الأهداب ، فكل ما فوق التراب تراب ، الذي تطير له الأرواح ، وتهتز له الأشباح ، في ملكوت الخلود ، وعلى بساط رب الوجود .

 

بكت عيني غداة البين دمعا

وأخرى بالبكا بخلت علينا

فعاقبت التي بالدمع ضنت

بأن أغمضتها يوم التقينا

 

دع حب هؤلاء فإنهم مرضى ، وتعال إلى الواحد وناد : (عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)

 

فأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً )

في حالة البعد نفسي كنت أرسلها *** تقبل الأرض عني وهي نائبتي

وهذه دولة الأشباح قد حضرت *** فامدد يمينك كي تحظي بها شفتي

 

حمزة سيد الشهداء يمزق بالحب تمزيقاً، وأنتم تهيمون بروايات غرامية لفقت ، نقول حدثونا عن الحب عند ابن عباس ، فتذكرون لنا عشق أبي نواس! كفي جفاء ، فأما الزبد فيذهب جفاء!!

        حب طلحة والزبير أعظم من شكسبير؛ لأن حبهم سطر في (بدر) لمرضاة القوي العزيز، وحب شكسبير كتب في شوارع لندن لمراهقي الإنجليز.

إن كنت يا شاعر الغرب كتبت رواية الحب بالحبر، فالصحابة سجلوا قصص المحبة بدم الصبر.

ومن عجب أني أحن إليـهم *** فأسال عنهم من لقيت وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادهـا *** ويشتاقهم قلبي وهم بين ضلوعي

لا تدري ربما عذبت بحيك، وكنت عنك عند ربك( هذا فراق بيني وبينك)! ونحن نسمع من أجل امرأة بكاءك وأنينك.

ولما جعلت الحب خدنا وصاحباً *** تركت الهوي والعشق ينتحبان

فلا تسمعني(شكسبير) ولهوه *** ورنة عود أو غناء غواني

فلي في رحاب الله ملك ودولة *** أظن الضحي والليل قد حسداني!

 

كلما خرج علينا شاعر مخمور، فاقد الشعور ، حفظنا شعره في الصدور ، وكتبناه في السطور ، وقلنا: يا عالم هذه قصصنا الغرامية، ونسينا رسائلنا الإسلامية ، وفتوحاتنا السماوية ، التي أهلت الإنسانية.

علمني الحب من سورة الرحمن، ولا تكدر خاطري بهيام ( يا ظبية البان) ، أنا ما أحب لغة العيون، ولكن أحب لغة القلوب، ولا أتبع فلتات أبي نواس والمجنون ، ولكني أرتع في رياض الكتاب المكنون)وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ).

 

ومعنفي في الحب قلت له: أتئد *** فالدمع دمعي والعيون عيوني

 

الحب الصادق في جامعة (إن المسلمين والمسلمات)، والغرام الرخيص في مسرح الفنانين والفنانات. استعرض نصوص الحب في وثيقة الوحي المقدس، لتري فيها حياة الأنفس، فالحب السماوي يدعو العبد إلي حياة مستقيمة، ليجد فضل الله ونعيمه، أما الحب الأرضي فإنه يقتل الإنسان ويجعله بلا قيمة.

أرق علي أرق ومثلي يأرق *** وجوي يزيد وعبرة تترقرق

جهد الصبابة أن تكون كما أري *** عينا مسهدة وقلباً يخفق

 

حب العز عند فرعون ، وحب الكنز قارون، أما حب الجنة ، فعند أبطال السنة، الذين حصلوا علي اعظم منة. الجعد بن درهم ذبح علي الابتداع، وأنت تبخل بدمعة في محراب الاتباع.

أتريد من الجيل أن يحب الملك العلام، ويصلي خلف الإمام، ويحافظ علي تكبيرة الإحرام، وأنت تحفظه رباعيات الخيام، ليبلغهم رسالة لا بعث ولا نشور؟ أعوذ بالله من تلك القشور!.. يا حاج ..! أين حملة المنهاج؟ وأنت من أحرص الناس علي حياة ، فبماذا تدخل الجنة يا أخاه؟!

من تداجي يا إبراهيم ناجي، ومن تكلم ومن تناجي؟ تقول: يا فوادي رحم الله الهوي، بل قتل الله الهوي!.. من يشارك في ثورة الخبز، لا يحضر معركة العز ، لما نسيت الأمة حب القلوب، واشتغلت بحب البطون، رضيت بالدون، وعاشت في هون.

)وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .

هل عند الأمة فراغ في الأزمان ، تسمع صوت الحرمان، وهو ينادي:

باد هواك صبرت أم لم تصبــروا *** وبكاك إذ لم يجر دعك أو جري

 

نحن بحاجة إلي صوت خبيب بن عدي وهو يلقي قصيدة الفداء، علي خشبة الفناء، في إصرار وإباء ، وصبر ومضاء:

 

ولست أبالي حين أقتل مسلمـــــاً *** علي أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشــــأ *** يبارك علي أشلاء شلو ممزع

 

بارك الله فيك وفي أشلائك يا خبيب ،فأنت إلي قلوبنا حبيب: ) وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه) اللهم اجعلنا ممن يحبك ويحب من يحبك، ليؤنسنا قربك، اللهم ازرع شجرة حبك في قلوبنا، لنري النور في دروبنا، وننجو من ذنوبنا ، ونطهر من عيوبنا.

 

أحبك حباً ليس فيه غضاضــة *** وبعض مودات الرجال سراب

وأمحضتك الحب الصحيح وفي الحشا *** لودك نقس ظاهر وكــتاب

إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب

 

وإن تعجب فعجب أن تري شاعراً بائساً ، يشكو طللاً دراساً ، فهو يبكي من نار الغرام ، ويشكو ألم الهيام، ولو سافرت روحه في عالم الملكوت ، لصار حبه عنده كالقوت. ولو أدرك عنترة الإسلام ما كبا، وما قال: اذكري يا عبل أيام الصبا.

جرير يشكو العيون السود، وبشار يشكو الصدود ، والشريف الرضي يشكو فتنة الخدود، وكأن الحياة لديهم اختصرت في امرأة حسناء، ووكأن العمر يتسع لهذا الهراء، ويحسبون أن الناس من أجلهم تركوا المنام، وهجروا الطعام‍..إذا افتخرنا علي الغرب بأن لدينا نساء حسناوات، وفتيات فاتنات ، قالوا لنا: عندنا في ذلك مسارح ومسرحيات، ومغامرات وغراميات، لكن فخرنا علي الناس أن لدينا رسالة ملأت الكون نوراً، والعالم حبوراً، والدنيا طهوراً.

 

نحن الذين ملأنا جــونا كرمـــاً *** وقد بعثنا علي قرآننا أممـا

والعــالم الآخــر المشبوه في ظلم *** من يعبد الجنس أو من يعبد الصنما

 


قتيلان لا يستويان

 

ذكر أهل السير أن سيداً باع جارية له وكان له غلام يحبها حباً شديداً ، فلما ذهب البائع بالجارية رمي الغلام بنفسه من علي سطح بيت عال فوقع ميتاً! وقد قال بعض هؤلاء:

 

والله لو قطعـــوا رأسي لأتركها *** لما نحو هواها في الهوى رأسي!

 

قارن بين ما سبق وما رواه ابن حبان ، والغزالي في ( الإحياء) في كتاب السماع من أن غلاماً كان في بني إسرائيل علي جبل فقال لأمه: من خلق السماء؟ قالت : الله عز وجل ، قال فمن خلق الأرض؟ قالت الله عز وجل، قال: من خلق الجبالظ قالت: الله عز وجل ، قال: فمن خلق السحاب؟ قالت: الله عز وجل، قال : إن هذا الرب عظيم، ثم رني بنفسه من الجبل فتقطع، وإنا وإن كنا لا نقر هذا العمل، لكن أنظر كم هو الفرق بين من جعل حياته فداء لجارية ومن ضحي بروحه من أجل ربه.

 


ذبت فداها

 

أما عاشق آخر فيخبرنا بإلحاح ويعلن للملأ أنه قد امتلأ غراماً وعشقاً حتى النخاع ، يقول:

 

أخـبروهـا إذا أتيتم حـمـاها *** أنني ذبت في الغرام فداها

 

فإذا أخبرناها أنه ذاب في الغرام فداها فماذا سوف يحدث؟! أمن أجل سواد عينيها يذهب حياته هدراً : )أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) ؟!.. ولكن تعال إلي شاعر بغداد وهو يمدح الحي القيوم ـ جل في علاه ـ بيتين من أعذب الشعر يقول :

 

إليك وإلا لا تشد الركائب *** ومنك وإلا فالمؤمل خائب

وفيك وإلا فالغرام مضيع *** وعنك وإلا فالمحدث كاذب

 

أحسنت لا فض فوك!.. وهكذا فليكن الإبداع واللموع والتفوق ، وأما شاعر صنعاء فيشاركه في الثناء علي الله ولكن مع الاعتذار من التقصير يقول:

 

سبحان من لو سجدنا بالجباة علي *** حرارة الجمر والمحمي من الإبر

لم نبلغ العشر من مقدار نعمته *** ولا العشير ولا عشراً من العشر

 


العيون التي في طرفها حور

 

للموت ألف طريقة، فمنهم من يموت ساجداً لربه، ومنهم من يموت بحد السيف في سبيل الله، ومنهم من يموت تخمة من كثرة ما أكل، ومنهم من شرب عصيراً فشرق فمات، ومنهم من ضاع له مائة دينار فمات غبناً ، ومنهم من بشر بجائزة فمات فرحاً ، أو جرير فيخبرنا لنكون علي بينة بسبب موته وأمثاله فيقول:

 

إن العيون التي في طرفها حـور *** قتلننا ثم يحيين قـــتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به *** وهن اضعف خلق الله إنسانا‍

 

ياله من قتل غير جميل، ومن موت غير شريف ، ومن وفاة رخيصة، ولكن اسمع إلي بطل مجاهد صنديد شهيد وهو يقول:

 

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدما

فليس علي الأعقاب تدمي كلومنا *** ولكن علي أقدامنا نقطر الدما‍‍‍! ‍‍‍‍‍‍‍

 

شكراً لهذه النفوس الحية والأرواح الخالدة، ما أجلها وأشرفها يوم عرفت كيف تموت ‍ميتة شريفة بالذبح في سبيل الله، لا ميتة رخيصة من أجل العيون السود‍

وقد قال الصحابي الجليل طلحه بن عبد الله يوم أحد:

اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضي

جزاءك الله خيراً يا طلحة علي هذا الحب الصادق ، وهنئياً لك ذلك المصير المبارك.

وهذا شاعر يشاركه هذه الأمنية الغالية فيقول:

 

لا تمتني يـا رب إلا بســيف *** صارم الحد مصلت في سبيلك

فيقتل شهيداً في سبيل العيون السود‍ ‍


ابن عباس يتصدق بعينه

 

وهذا ابن عباس ترجمان القرآن وبحر الأمة وحبرها، يبكي من خشية الله حتى تذهب عيناه فيعزيه أحد الشامتين فينشد ابن عباس:

 

إن يأخذ الله من عيني نورهــما *** ففي فؤادي وقلبي منهما نور

قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج *** وفي فمي صارم كالسيف مشهور

 

وفي الحديث القدسي (( من ابتليته بحبيبتيه (أي بعينيه) فصبر ، عوضته منهما الجنة))‍‌‍... وهذا سعيد بن المسيب إمام التابعين أبكاه الحب الصادق حتى ذهبت عينه لمرضاة ربه، وكذلك يزيد بن هارون المحدث المشهور فإنه عمي من كثرة البكاء، فقيل له : أين العينان الجميلتان ؟ قال أذهبها ـ والله ـ بكاء الأسحار‍

أما أحد الشعراء فقد بكي علي محبوبته حتى ذهبت منه عيناه فقال:

 

أعيناي كفــا عن فوادي فإنه *** من الظلم سعي اثنين في قتل واحد

لقد عميت عيناي من كثرة البكا *** لفــرقـة حب أو لتذكـار فاقد

 

ويشاركه المتنبي هذا البكاء فيقول:

 

قد كنت أشفق من دمعي علي بصري *** فـاليوم كل عـزيز بعدكم هـانا

 

فابن عباس ذهب بصره لمرضاة الله فثوابه الجنة ، وهؤلاء ذهبت أبصارهم لفلانة فثوابهم الإفلاس والندم والحسرة.

 


يا لهف نفسي علي ملل ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

 

وخرج شاعر من المدينة وراء قافلة وهو يبكي فسئل عن ذلك؟ قال معهم جارية أخذت قلبي وذهبت فكان كلما نزلوا منزلاً سأل عنها، فإذا ارتحلوا ارتحل معهم وأخذ ينشد:

 

وقالوا ص�

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 325 مشاهدة
نشرت فى 1 مايو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,791,667