فالدولة المصرية الحديثة تكونت علي اساس المواطنة في مواجهة وصدام مع آراء وتيارات مخالفة استندت إلي فهمها الخاص لنظام الخلافة وعلاقته بالدين وانتهي الأمر باستقرار مفهوم الدولة الوطنية الحديثة في مصر التي ترتكز علي قاعدة الوطن المصري والمواطنة المصرية. وسواء درسنا مولد مؤسسات الحكم والإدارة في عصر محمد علي أو بداية المؤسسة التشريعية في عهد الخديوي إسماعيل وظهور الأحزاب السياسية في مطلع القرن العشرين فسوف نجد أن السمة الغالبة علي عملية بناء الدولة الحديثة في مصر هي ارتكازها إلي مفهوم المواطنة بما يستتبعه من قيم المساواة وتكافؤ الفرص في الحقوق والواجبات بين كل المصريين. وسوف نجد هذا المعني لدي كل آباء الفكر السياسي والاجتماعي الذين شكلوا عقل مصر الحديث. وعلي سبيل المثال, فإن طه حسين يقدم نموذجا للالتزام الفكري والاستقامة العقلية في هذا المجال, والذي تمثل الكتابة عنه حديث عن المستقبل, ذلك أن هذا الرجل الذي حرمه الله من نعمة البصر وهبه بصيرة نفاذة استطاع بها أن يخترق حجبا كثيفة كما غرس فيه روحا وثابة متمردة سعت إلي الجديد لتعلمه واستيعابه وتمثله, ومن ثم كان تاريخ طه حسين تاريخا متميزا استطاع فيه أن يفتح الباب لأفكار وممارسات جديدة أراد بها أن يضع شعبه ومجتمعه علي وفاق مع الدنيا الجديدة. كان طه حسين مفكرا اجتماعيا بالمعني الواسع وشملت مؤلفاته عديدا من مجالات المعرفة. لذلك, فبينما كتب عن أبي العلاء المعري, وفي الشعر الجاهلي, وعلي هامش السيرة, والأيام, وحديث الأربعاء, فإنه ألف أيضا, المعذبون في الأرض, والفتنة الكبري, ومستقبل الثقافة في مصر, ومرآة الضمير الحديث, وجنة الشوك, والوعد الحق.. كما جمع بين العمل الفكري والممارسة العملية ودخل في مساءلات عنيفة مع معاصريه, وطرد من الجامعة المصرية في عهد وزارة إسماعيل صدقي, وعاد إليها مرة أخري, وتولي عمادة كلية الآداب بها, ورئاسة جامعة الإسكندرية, ووزارة المعارف في أخر وزارة وفدية قبل ثورة1952. ففي مجال الدولة والسياسة كانت الفكرة المحورية لدي طه حسين هي المجتمع الوطني الذي يقوم علي مفهوم مشترك لمعني الوطنية التي تتجاوز الإنقسامات الدينية والطائفية والسلالية والعرقية. وقال بوجود مجتمع مصري له هويته وذاتيته التي تفاعلت مع كثير من المؤثرات الثقافية الأخري ولكن دون أن تفقد خصوصيتها الضاربة في أعماق التاريخ. ولم يكن طه حسين يخشي علي هذه الهوية من الضياع نتيجة التفاعل الكثيف مع الحضارة الأوروبية وذلك لاعتقاده بأن حضارة الإسلام ولغتها العربية لها من العمق والصلابة ما يحيمها من اي خطر. وفي إطار هذا المجتمع الوطني فإن الديمقراطية التي تستند إلي الحياة النيابية وان الشعب هو مصدر السلطات هي النظام الأثير لدي طه حسين. تلك الديمقراطية التي تحمي الحريات السياسية الأساسية للإنسان وهي حرية الرأي والتفكير وحرية العقيدة والحريات الشخصية عموما, وربط كاتبنا مفهوم الحرية بالمساواة في الحقوق والواجبات التي اعتبرها اساس الحياة الاجتماعية فكتب إننا نسعي في كل أعمالنا إلي هدف واحد وهو التوصل إلي تحقيق فكرة المساواة الطبيعية بين أبناء الوطن. ورفض طه حسين الحكم المطلق والطغيان ايا كانت اسبابه ودوافعه ودافع عن نظام الحكم الدستوري المقيد بإعتباره أفضل النظم لممارسة الحكم بقوله حين نشأت الديمقراطية عرف الإنسان أن سلطان الحاكم لا ينزل من السماء وإنما يخرج من الأرض, وأن بين الحاكم والمحكوم عقدا اجتماعيا تصوره القوانين المكتوبة والدساتير. فالدستور هو بمثابة تعاقد بين الحاكم والمحكوم يرتب الحقوق والوجبات لكل من الطرفين. ولكن الديمقراطية ليس لها معني سياسي وحسب. كان هذا هو الدرس الي توصلت إليه الديمقراطية الليبرالية في الدول الغربية, وكان هذ هو المعني الذي أدركه طه حسين في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي مع بروز التفاوتات الاقتصادية, وتزايد الاحساس بوطأة القضية الاجتماعية. ففي1945 دعا إلي المساواة والعدل الاجتماعي في محاضرة له بعنوان الديمقراطية والحياة الاجتماعية. والمساواة في نظره تتفق مع وجود العدل الاجتماعي, فلا يجوع الإنسان ليشبع إنسان أخر أو لا يشبع إنسان ليجوع إنسان أخر, وأنه لذلك يجب أن تكفل الديمقراطية للشعب المصري أن يكون حرا, فلا يضار في أي عمل يأتيه أو قول ما يقوله مادام لا يخالف القوانين. وفي منتصف الأربعينيات وصلت دعوته إلي العدل الاجتماعي والمساواة ورفع الظلم عن الطبقات الفقيرة إلي أقصاها, وتنبأ بأن استمرار هذه الأوضاع لابد وأن تخلق رياح التمرد وكتب لابد أن يكون الناس سواء أمام القانون لا يمتاز منهم فرد ولا تتفوق منهم طبقة علي طبقة ولا يتفاوتون فيما بينهم إلا بالعمل الصالح والبلاء الحسن. وهكذا فمع أن طه حسين كان مفكرا ليبراليا في المقام الأول دافع عن الحريات الفردية بما فيها الحق في الملكية, فإنه أكد دور الدولة والسياسات الحكومية في تحقيق العدل الاجتماعي, كما أكد المضمون الاجتماعي والمسئولية الاجتماعية للملكية الفردية. وكان التعليم هو الأداة الرئيسية من وجهة نظره في تأكيد هذه القيم والمفاهيم. ومثل الإمام محمد عبده وأحمد لطفي السيد أهتم بالتعليم كمفتاح للإصلاح الفكري والاجتماعي وضرورة انتشاره كمقوم للحياة الديمقراطية فيقول إن الدولة ملزمة بأن تنشر التعليم الأولي وتوكل بشئونه كلها وربط التعليم بالاستقلال فليس إلي الاستقلال من سبيل إذا لم تكن مصر متعلمة, ونادي بضرورة استقلال الجامعة فلا يجب أن تخضع الجامعات لرقابة الحكومة, ودعا إلي أن يكون التعليم حقا لكل مواطن مصري كالماء والهواء, مدركا بذلك أن التعليم هو أداة للحراك الاجتماعي ولتقليل التفاوتات بين الطبقات. وهكذا تتبلور أركان الدولة المصرية الحديثة كما عبر عنها طه حسين وهي المواطنة والدولة المدنية التي تستند إلي وحدة الشعب من ناحية, والحكم الدستوري والديمقراطية من ناحية ثانية, والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص من ناحية ثالثة. وإن التعليم في هذا السياق هو سبيل لدعم ثقافة المواطنة ودعامة للممارسة الديمقراطية وطريق للحراك الاجتماعي. هذه هي الأركان التي تأسست عليها الدولة المصرية الحديثة والتي ما زالت ضمان استمرارها واستقرارها.
المزيد من مقالات د.على الدين هلال |
ساحة النقاش