إنه يقتضي عمليا القدرة علي تعبئة الموارد البشرية والمادية الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية في تشابكها مع القدرات الثقافية والسياسية من أجل حماية كيان الدولة وتأمين حياة كريمة لمواطنيها, بهذا المعني, هناك ثلاثة أبعاد كبري للأمن القومي, القدرات العسكرية, والتي تستطيع أن تردع مصادر التهديد الخارجية وتواجهها إذا اقتضت الضرورة ذلك وهو ما اصطلح عليه السياسة الدفاعية للدولة, والقدرات السياسية التي تدفع إلي الاجماع أو التوافق القومي علي الأهداف العليا للوطن, وتنمي الولاء والانتماء وتعبيء الجميع لمشاركة فاعلة تحد من التهميش السياسي, ثم القدرات الاقتصادية والتي تتخطي إشباع الحاجات الأساسية الي خلق مناخ جاذب للاستثمارات الخارجية وتوظيف الموارد المختلفة لبناء اقتصاد مبدع ومنتج تعود خيراته علي المواطنين كافة. لاشك أن رسم السياسات الأمنية يقتضي أولا تحديد موارد الدولة ومن ثم, قدراتها ورؤية مصادر تهديدها ووضع استراتيجيات قومية لمواجهتها, وفي هذا الاطار, فإن مصر الدولة الاقليمية الكبري في الوطن العربي والشرق الأوسط لم تأل جهدا عبر تاريخها الموغل في القدم في تحديد قدراتها الوطنية, والتمعن في رؤية مصادر تهديد أمنها خاصة الخارجية منها وتمكنت دوما من رسم سياسة دفاعية قوامها جيش مدرب وأسلحة حديثة واستراتيجيات مرنة, وفي مواقف عديدة خاضت الدولة المركزية حروبا ضروسا ضد أعدائها الخارجين وانتقلت بكفاءة مستمدة من وضعها الجيوستراتيجي من استخدام القوة المسلحة الي القوة الناعمة قبل أن يتنبه إلي ذلك علماء السياسة المعاصرون, فبعد أن انتصر رمسيس الثاني علي الحيثيين فور تهديدهم للسيادة المصرية ولسلامة الحدود الشرقية, تزوج ابنة ملكهم حرصا علي تحييد ذلك الخطر الداهم خارج الأراضي المصرية, وفي العصور المتقدمة تم توظيف القدرات العسكرية المصرية متفاعلة مع قوي جيرانها في درء الخطر الصليبي. في مواقف أخري استخدمت القوي الطامعة قدراتها العسكرية ضد بعضها البعض من أجل التنافس علي مصر واحتلالها, وفي كل ذلك كانت مصر تعرف جيدا أعداءها, كما كانت تحدد حلفاءها, وفي القرن الحادي والعشرين يمكن تحديد المصادر الخارجية لتهديد الأمن القومي المصري, وهي المصادر التي يمكن أن تهدد السلامة الوطنية لمصر والوطن العربي في إسرائيل أولا ليس بما تملكه من قوي عسكرية أو أسلحة نووية فقط, وليس لوقوعها علي الحدود الشرقية لمصر وليس لوجود متطرفين إسرائيليين يمقتون السلام ويعشقون الصراع والقتال, وإنما كذلك لعدم وجود رغبة إسرائيلية في التوصل الي حل للقضية الفلسطينية يضمن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تضم الفلسطينيين كافة. إن المماطلة الإسرائيلية, والتي تعني رفض قيام دولة فلسطينية, مستقلة علي الأراضي الفلسطينية في حل هذا الصراع المعقد يضيف الي المسئوليات الأمنية المصرية تحديات دائمة تقلل من الجهد والوقت والموارد التي يمكن تخصيصها للتنمية والارتقاء بالوطن, يضاف الي ذلك أن أهم المسئوليات الدفاعية تتمثل في الحفاظ علي سلامة وتكامل الحدود المصرية, وعلي رأسها حدودها الشرقية. من هنا, فليس من المقبول أن يثير الطرف الإسرائيلي مع الجانب الفلسطيني قضايا تبادل الأراضي الحدودية دون التشاور مع مصر التي ترفض رفضا باتا المساس بحدودها الدولية, كما أن امتلاك إسرائيل أسلحة نووية والذي يشكل تهديدا للأمن والاستقرار في المنطقة, يدفع بقوي إقليمية أخري لامتلاك سلاح مماثل مما يضع المنطقة رهينة لقرارات فردية قد تكون غير رشيدة, ومن المسئوليات الأمنية المصرية أيضا القدرة علي تأمين مصادر المياه وحماية الحدود الجنوبية ومحاولة الحفاظ علي وحدة السودان وسلاسة التطورات السياسية فيه, كما يعني أيضا حماية المصالح المصرية والعربية عامة من أطماع دول الجوار الجغرافي, والتي صارت متأهبة للسيطرة علي عمليات الحرب والسلام في المنطقة, ومن ثم صار الحفاظ علي القدرات العسكرية وتنميتها جوهر السياسة الأمنية المصرية, وارتبط بذلك أيضا الإعداد الدقيق للقوات المسلحة المصرية وتزويدها بأحدث أسلحة وتكنولوجيا العصر. أما قضية القدرات الاقتصادية, فمن المعلوم أنها تشكل الضلع الثاني لمثلث الأمن القومي المصري وهي تعني من ناحية, تهيئة الظروف المادية والإنسانية لانطلاق الاقتصاد المصري وزيادة معدل نموه وتعني كذلك تحقيق العدالة الجتماعية بين المواطنين, وهذا مايحرص عليه الرئيس مبارك, فالنمو دون العدالة في ظل زيادة نسبة الفقر المدقع إلي مايزيد علي20% ووصول نسبة الفقر عموما الي40% يؤدي إلي زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء بصورة تهدد النسيج الاجتماعي والاستقرار الداخلي, ويمكن إذا تراكمت وزاد الإحساس بالحرمان الاقتصادي أن تهدد الأمن القومي, فالفئات المهمشة اجتماعيا في المدن والفقراء في الريف والقري يمكن دفعهم دفعا بطريق قوي التطرف إلي تخريب الاستقرار وإهدار التوازن الداخلي, فالخبرات الدولية تؤكد أن حركات التمرد قامت بين هؤلاء المحرومين والمعدمين, كما أن القدرات الاقتصادية تعني القدرة علي جذب الاستثمارات الخارجية إلي القطاعات الإنتاجية والتشغيلية, كما تعني كذلك القدرة علي الابتكار والإبداع أو علي الأقل الاستخدام الأكفأ للتكنولوجية العصرية, إنها تعني بالقطع أن تصير الصادرات جزءا من الموارد القومية للدولة, وفوق ذلك, وهو ما لم يحدث بعد أن يتحدد شكل وطبيعة المجتمع المصري وما إذا كان مآله التصنيع أم الزراعة أم الخدمات أم الجمع بينها جميعا, هكذا, نمت وتطورت كوريا الجنوبية وماليزيا والهند حينما صارت مناطق جذب وإلحاق للاستثمارات الخارجية. أما المتغير الثالث والأخير, وهو أكثر صعوبة, فيتمثل في التطور السياسي المرتبط بالديمقراطية والليبرالية والتعددية, ويقوم علي الشفافية ويستهدف دمج واستيعاب واستمالة المواطن في العملية السياسية وإقناعه بالمشاركة والتخلي عن السلبية التي تشوه الصورة القومية والتحول الديمقراطي كلية ولاشك أن هناك تطورا محمودا في مصر, ورغبة أكيدة في توسيع دوائر المشاركة السياسية, وإن كان الأمر يقتضي التأكيد علي المساواة السياسية بين الجميع, وهي جوهر المواطنة, والحد من ظواهر الإقصاء وتعديل قواعد إنشاء الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني لكي تصير أكثر تلقائية وانطلاقا. إن المشاركة الواعية الفاعلة أساس متين لشيوع الحب للوطن وهو جوهر للولاء والانتماء والافتخار والإخلاص والالتزام, ولاشك أن التهميش السياسي, والذي يقود الي الاغتراب يضر بالاستقرار الوطني ضررا بليغا ويشوه التطور السياسي والاجتماعي ويقلل من المكانة العليا للدولة في عالم صار صغيرا يحكمه الإعلام غير الواعي احيانا والموجه أحيانا أخري, والمعادي أحيانا ثالثة, وتتباهي الأمم اليوم بمدي قدرتها علي خلق مجتمع اندماجي يقوم علي الوفاق القومي, مجتمع تنافسي يفرز أفضل مافيه ويحتضن أبناءه كافة, وينمي فيهم مشاعر الإيثار والمصلحة العامة كقيمة عليا لاراد لها. تشير الدراسات النظرية والإمبريقية في الدول المتقدمة والتي مرت بمراحل النمو المختلفة إلي أن الانسان حيوان سياسي, وإن لم يظهر ذلك وانه يميل بطبعه الي المشاركة والمساهمة في الحياة العامة وأن السياسات العامة, ان دفعته الي ذلك استوعبته واحتضنته بحيث يتحول الي قوة مبدعة ومنتجة, وإن حرمته وهجرته تحول الي عنصر هدم وتدمير وفي الظروف الراهنة حيث تضعف الأحزاب كافة وتنفصل عن المواطنين, وحيث يموج العالم حولنا بقوي متصارعة حول النفوذ والقوة والسلطة, وحيث يفتقد المواطن الي الوعي السياسي الذي عجزت مؤسسات التنشئة السياسية عن مده به, يمكن أن يصير ضحية لتلك القوي تستقطبه وتستوعبه وترهبه وتجنده بما يضر بالمصلحة القومية العليا وينسحب ذلك بصورة خاصة علي الشباب الذي ينبغي علي مؤسسات الدولة وأجهزتها أن ترنو إليه وتتواصل معه وتحتضنه بدفء سياسي استثنائي, وتستغرقه في حب الوطن والإعلاء منه. هكذا, فإن الأمن القومي المصري لايقتصر علي البعد العسكري وإن كان ذلك جوهره وقلبه وأساسه المتين, بل يمتد إلي مدي تحقق التنمية الاقتصادية والسياسية مجتمعتين, في هذه الحالة يتم الحفاظ علي السيادة والحدود والمصالح القومية, كما يصير الاستقرار والتقدم الاقتصادي متينين لمساندة ودعم القدرات العسكرية, ولاشك أن ذلك يقتضي أن تبني السياسة الخارجية علي قاعدة تكريس التعاون الاقليمي والدولي والحد من الصراعات والتوترات, وذلك باتباع سياسة أكثر نشاطا وقدرة علي المبادرة في نظام دولي تعددي يتيح للدول المركزية مرونة وأدوارا لم تتوافر من قبل, ومصر التي تشكل قلب النظام الاقليمي العربي والشرق أوسطي مؤهلة بالجغرافيا والديمجرافيا وإرادة محبيها المصريين أن تضطلع بهذا الدور الذي يجعلها أكثر أمنا.
المزيد من مقالات د. عبد المنعم المشاط |
ساحة النقاش