برامج الهواء‏..‏ والزواج الباطل
بقلم: فاروق جويدة
15/04/2010
تراجعت بصورة واضحة في الفترة الأخيرة برامج الهواء في التلفزيون سواء كانت مصرية أو عربية‏..‏ فضائية أو محلية‏..‏ لم يعد المشاهد حريصا كما كان علي أن يتابع هذه البرامج‏,‏
 
 

 

فهناك مؤشرات كثيرة تؤكد تراجعها من حيث نسبة المشاهدة أو التأثير في المشاهدين‏..‏ وأكاد أجزم أن هذا التراجع ارتبط بما حدث في موقعة الجزائر الإعلامية وما شهدته من انتهاك لكل القيم الإنسانية والأخلاقية والإعلامية التي عرفها الإعلام العربي منذ بداية ظهوره حتي الآن‏,‏ لقد كشفت هذه الموقعة التاريخية عن جوانب قصور كثيرة في منظومة الإعلام علي مستوي المقدمين ومستوي البرامج ولغة الحوار‏..‏
هناك أسباب كثيرة جعلت هذه النوعية من البرامج تتراجع‏,‏ خاصة أنها وصلت في يوم من الأيام إلي درجة من التأثير تجاوزت كل الحدود‏..‏ وكان الرهان أن هذه البرامج يمكن أن تتحول في يوم من الأيام إلي منابر للحريات تطرح الشعوب من خلالها أحلامها وأفكارها وقضاياها‏..‏ هذه المنابر الإعلامية كان من الممكن أن تتجاوز في دورها وتأثيرها أحزابا سياسية لا تعمل‏,‏ وتنظيمات ثقافية لا تري‏,‏ونخبة تراجع فكرها ودورها وتجمد في أهداف صغيرة وأحلام خاصة للثراء أو الشهرة أو المناصب‏..‏
كان الأمل كبيرا في برامج الهواء‏,‏ خاصة أنها فتحت أفاقـا واسعة للحوار واقتربت من ممنوعات كثيرة في الدين والمعتقدات والفكر والسياسة والثوابت وحركت مياها راكدة وعقولا تبلدت زمنـا طويلا‏..‏
علي المستوي السياسي أثارت هذه البرامج قضايا كثيرة ابتداء بتزوير الانتخابات وانتهاء بحرية الأفكار والعقائد‏..‏ ووجدنا برامج حادة وعنيفة تهز العقل العربي بعنف وتفتح أمامه أفاقـا جديدة من التساؤل والدهشة والرفض أو القبول‏..‏
علي المستوي التاريخي كشفت هذه البرامج خبايا كثيرة من خلال حوارات طويلة مع أصحاب القرار السابقين واللاحقين الذين لعبوا أدوارا تاريخية لم يعرفها أحد من قبل‏,‏ وكشفوا أسرارا كثيرة كانت في حكم المحظورات‏..‏ بل إن هذه الخبايا صدمت المشاهدين في أشخاص رحلوا أو آخرين مازالوا أحياء بيننا‏..‏
علي المستوي الفكري والثقافي فتحت هذه البرامج حوارات كثيرة حول قضايا الفكر وأحوال الثقافة والمثقفين ولعبت دورا كبيرا في إنعاش الذاكرة‏..‏
ولاشك أن هذه البرامج شاركت بجدية في مواجهة مشاكل الناس وأزمات المجتمع في الخدمات والأسعار وهموم الحياة اليومية بصفة عامة‏,‏ ابتداء بالعشوائيات وما يحدث فيها وانتهاء بتلال الزبالة التي تحاصرنا في كل مكان‏..‏
هذه بعض الجوانب الإيجابية التي اتسمت بها هذه البرامج فترة من الزمن‏..‏ ولكن للأسف الشديد تسلل إلي شاشات التليفزيون أشخاص لا علاقة لهم بفن يسمي الإعلام له دراساته ومناهجه وأصوله وثوابته في لغة الحوار والقدرة علي الإقناع ورحابة الصدر وعمق الثقافة‏..‏
ظهرت أمراض كثيرة في برامج الهواء‏..‏
‏*‏ كان من أخطر هذه الأمراض لغة سوقية تسربت إلي هذه البرامج وأفقدتها الوقار والاحترام والمصداقية‏..‏ ووجدنا أنفسنا لا نفرق بين برنامج يتناول قضايا سياسية أو فكرية أو أخلاقية‏,‏ وبرنامج آخر يغطي ردود أفعال الجماهير الغاضبة في مباريات كرة القدم‏..‏ لم نعد نفرق بين برنامج يستضيف أحد رجال الفكر أو القضاء أو رمزا من رموز السياسة‏,‏وفريق من المشجعين في مدرجات الدرجة الثالثة‏..‏ اختلطت الأوراق في هذه البرامج وتسربت إليها أسماء لا علاقة لها بالإعلام أو لغة الحوار أو الثقافة والفكر‏..‏
إن انحطاط لغة الحوار والتجاوزات الفجة في هذه البرامج كان أول مراحل التراجع والسقوط‏..‏
‏*‏ كانت فضيحة الجزائر الإعلامية أكبر الشواهد علي ذلك‏,‏ حيث انطلقت من هذه البرامج أبشع الألفاظ وأسوأ الشتائم تلوث الهواء أمام غياب كامل للثوابت الأخلاقية والمهنية‏..‏ وجدنا أمامنا مجموعة من الأشخاص لا نعلم من أين جاءوا يجلسون علي‏'‏ المصاطب‏'‏ ويهدرون كل موازين السياسة والأخلاق والرياضة والسلوك‏..‏
كشفت موقعة الجزائر الإعلامية عن أخطر جوانب القصور في هذه البرامج وهو الجهل وانعدام الثقافة وفساد الأخلاق والذمم‏..‏
‏*‏ زادت الأزمة تعقيدا بعد أن تحولت بعض هذه البرامج إلي ساحات للأحكام ومنابر للقضايا التي تنظرها الجهات القضائية‏..‏ كانت القضايا تدور في سراديب المحاكم بين القضاة‏,‏ بينما هناك محاكمات أخري تجري أمام الفضائيات‏..‏ كان من الخطأ الجسيم أن تصبح هذه البرامج طرفـا يدافع عن أشخاص يحاكمون أمام العدالة‏..‏ ويلقون التهم هنا أو هناك‏..‏ وكان المحامون يتركون ساحات القضاء والمرافعات ويمارسون معاركهم علي شاشات هذه البرامج‏..‏ هذا التدخل الصارخ في مسئوليات السلطة القضائية وضع علامات استفهام كثيرة أمام مصداقية وشفافية هذه البرامج‏..‏ وباستثناء برامج قليلة جدا حرصت علي الالتزام بالقواعد الأخلاقية والمهنية للعمل الإعلامي فإن برامج كثيرة سقطت في هذا الخطأ الجسيم‏..‏
‏*‏ من أكبر الخطايا التي أساءت لهذه البرامج أيضا تداخل المصالح بين المشرفين عليها ورجال الأعمال‏..‏ في الفترة الأخيرة أصبح ظهور رجال الأعمال في هذه البرامج واجبا يوميا مفروضا علي المشاهدين‏..‏ وللأسف الشديد أن لغة الحوار والقضايا كانت تحاول تبرير أخطاء وتجاوزات لأشخاص خضعوا لمحاكمات قضائية وتدور حولهم شبهات كثيرة‏,‏ وكان ينبغي أن تراجع هذه البرامج مواقفها حتي لا تسقط في هذا الشرك‏,‏ ويبدو أن تداخل المصالح بين الإعلام ورأس المال فتح أبوابا كثيرة لعلاقات غير حميدة‏..‏ لم تكتف كتائب رأس المال بإقتحام السياسة وزواجها الباطل مع السلطة ولكنها عقدت زواجا أخر مع الإعلام في صفقة خاسرة لرسالته وأهدافه‏..‏
وقد اتضح ذلك بصورة فجة في الاحتفاليات التي أقامتها بعض البرامج لرجال الأعمال العائدين لمصر أو المقيمين في الخارج ممن حصلوا علي تعويضات من الدولة وكأنهم خاضوا معارك حربية‏..‏
لقد كنا دائما ننبه إلي خطورة الزواج الباطل بين السلطة ورجال الأعمال‏,‏ فقد ترتبت عليه كوارث كثيرة مازلنا نعاني منها‏..‏ ولكن الكارثة الأكبر هذا الزواج الذي نشهده الآن بين الإعلام ورجال الأعمال وكأن سلطة رجال الأعمال لم تكتف بالسياسة أو الأحزاب ولكنها اجتاحت بقوة دوائر الإعلام لتسخرها لمصالحها وأهدافها لتبرير أخطائها وخطاياها‏..‏
‏*‏ كان من الخطأ أيضا أن تنتقل أمراض صاحبة الجلالة إلي شاشات التليفزيون‏..‏ هناك أجيال جديدة في الصحافة المصرية نشأت بعيدة عن أخلاقيات المهنة وثوابتها‏..‏ بعض هذه الأجيال تأثر كثيرا بالأجواء الأمنية التي عاش ونشأ فيها ومارسها‏..‏ وهذه الأجيال لاتعرف الكثير عن لغة الحوار ورسالة الكلمة وما ينبغي أن تكون عليه‏..‏ كما أن أسلوب الأثارة الذي حرصت عليه الصحافة المستقلة لجذب القاريء انتقل إلي برامج الهواء وتسابقت فيما بينها من يكون أكثر جرأة وأكثر إثارة‏,‏ بل أنها تحولت أحيانـا إلي مصدر من مصادر نشر الشائعات والفضائح دون أن تتأكد من صدق ما يقال‏.‏
وإذا كانت الصحافة قد خسرت أجيالا واعدة تركت العمل الصحفي واتجهت إلي الفضائيات‏,‏ فإن هذه الأجيال حملت أمراضا كثيرة لهذه الفضائيات‏,‏ وهنا اجتمعت سلسلة من الأخطاء منها ما هو مهني ومنها ما هو أخلاقي في مسيرة هذه الأجيال‏..‏
‏*‏ كان من أسوأ الأخطاء التي سقطت فيها برامج الهواء أيضا البرامج الدينية التي جمعت أعدادا رهيبة من الدعاة القدامي والجدد‏..‏ واختلفت الصور بين دعوات صارخة إلي الانفتاح والتسيب ودعوات متشددة لا حديث لها إلا عن عذاب القبر وجحيم الآخرة‏..‏ ما بين دعاة يبيحون السجائر والقبلات في رمضان وآخرين يطالبون الأطفال بالنقاب‏..‏ مساحات كبيرة ملأها سواد العقول والنفوس والمشاعر‏..‏ ووسط هذا تسللت مواكب أخري من الدعاة الشبان الذين يرتدون الملابس المزركشة علي طريقة الفيديو كليب ونجوم الأفلام الهابطة ويجلسون علي مصاطب الفضائيات يفتون ويفسرون وهم يخطئون في أبسط قواعد اللغة العربية‏,‏ ولا يقرأون جملة عربية سليمة‏..‏ وسط هذا الصخب وهذا الضجيج تواري صوت العلماء الحقيقيين من رجال الدين الأجلاء وزاد الطين بلة هذه البرامج التي تخصصت في تفسير الأحلام والأحاديث عن الجن والعفاريت والخزعبلات التي امتلأت بها رؤوس المشاهدين أمام أجواء إعلامية فاسدة‏..‏
لاشك أن هذه البرامج التي انتشرت كثيرا وجمعت الملايين حولها يوما من الأيام تواجه الآن اختبارا صعبا‏,‏ لقد فقدت مصداقيتها حينما ساءت فيها لغة الحوار كما حدث في موقعة الجزائر‏,‏ ولم تستطع أن تفرق بين كلمات لا تقال حتي في السر ثم تصبح حديثـا للملايين علي شاشات التليفزيون وقد حدث ذلك مرة أخري علي شاشات تليفزيون الدولة المصرية في معركة استخدمت فيها كل الأسلحة الهابطة‏.‏
ما الذي يهم الناس في رجال الأعمال العائدين أو الهاربين‏..‏ ومن الذي يفرض علي المشاهد أن يسمع هذا الكم من الشتائم بالأب والأم وهذه التلال من الفضائح بين أشخاص لا يمكن أن يكونوا نموذجا للقدوة أو السلوك القويم‏..‏ هذه البرامج التي توحدت فيها قوة الإعلام وسلطة المال لتصنع خطيئة كبري ضاعت فيها حرمة الكلمة ومصداقية المواقف وأمانة المسئولية وأصبحت سوقـا مفتوحة لمن يشتري ويدفع‏..‏
لقد أفسدت هذه البرامج حياة الناس بهذا الكم من الكآبة أمام قضايا القتل والموت والدمار والفضائح التي تذاع كل يوم ويشاهدها ملايين الأطفال‏..‏ وقبل هذا كله كانت قضايا الاتجار بالدين التي شوهتها هذه البرامج حين فتحت أبوابها لكل من هب ودب ليفتي ويحرم ويدخل الناس الجنة ويلقي بهم في الجحيم‏..‏
أن اخطر ما يواجه الإعلام العربي الآن ليس تسلط حكومات استبدادية فقط‏.‏ ولكن سيطرة رؤوس أموال مشبوهة علي الإعلام لا نعرف من أين جاءت ومن يقف وراءها‏..‏ وبعد أن كان زواج السلطة ورأس المال أبرز مظاهر هذا العصر أصبح زواج الإعلام ورأس المال أكبر وأسوا خطايا هذا العصر‏..‏

‏..‏ ويبقي الشعر
البحر يحبـك أمواجا
وشواطيء ذابت فيها الشمس
والعمر يغرد حين تطل نجوم اليوم
وتنسانا أشباح الأمس
والنـاس تجيئــك أسرابا
تتلهف شوقـا وحنينـا لليالي الأنس
فاترك أحزانـك للأيـام ولا تعبـأ
بخيول ماتت‏..‏ أجهضها‏..‏ طغيان اليأس
فالليـل يعربد في الطـرقات
ويرصدنا بعيون البؤس
أطلق أيامك فوق الريح فما أقـسي‏..‏
أن تبــكي العمر إذا ولـي وانتحر الكأس
في ليـلة حزن وحشيه
أبحث عن صدر يحميني
ويعيد دماء شراييني
فأنا مرتعد كالأطفال
طيور النـوم تـجافيني
أزرع أحلامي يدميها
سيف الجلاد ويدميني
أزرع في عيني بستانـا
يـأتي القنــاص ويرصدني
يحرق في الليـل بساتيني
مهزوم في عشق بلادي
في صرخة سخطي وعنادي‏..‏
حتــي الأحلام تـعاندني
وبكل طريق تـلقيني
ما أجمل أن أجد امرأة
في ساعة موتي‏..‏ تـحيينـي

 ‏[email protected]
 

 

المزيد من مقالات فاروق جويدة
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 205 مشاهدة
نشرت فى 18 إبريل 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,823,743