هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع سورة الإسراء, وهي سورة مكية, وآياتها مائة وإحدي عشرة(111) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الاشارة في مطلعها الي رحلة الإسراء من المسجد الحرام الي المسجد الأقصي, وقد تلي ذلك الرحلة المباركة رحلة المعراج من بيت المقدس الي سدرة المنتهي, مرورا بالسماوات العلي, والتي جاء وصفها في مطلع سورة النجم. وكان في هذه الرحلة من التكريم ما لم ينله مخلوق من قبل ولا من بعد, ويدور المحور الرئيسي لسورة الإسراء حول قضية العقيدة الاسلامية شأنها في ذلك شأن كل السور المكية. هذا وقد سبق لنا استعراض سورة الاسراء وماجاء فيها من ركائز العقيدة والتشريعات الاسلامية والاشارات الكونية, ونركز هنا علي وجه الإعجاز الإنبائي في رحلة الإسراء التي جاءت الإشارة إليها في الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال. وجه الإعجاز الإنبائي في وصف الآية الكريمة لرحلة الإسراء: أراد الله ـ تعالي ـ أن يعوض رسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عن كل الشدائد التي لقيها من كفار كل من قريش وثقيف, فأكرمه بأعظم معجزة حدثت في تاريخ البشرية كلها, وهي معجزة الإسراء والمعراج التي حملت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من مكة المكرمة الي بيت المقدس, ثم من الكون المدرك الي عالم الغيب المطلق حيث شرف ـ صلي الله عليه وسلم ـ بالمثول بين يدي الحضرة الإلهية, وتلقي الأمر بالصلاة ثم عاد ليؤم أنبياء الله ورسله في صلاة بالمسجد الأقصي, وبعد ذلك رجع الي بيته في مكة المكرمة ليجد فراشه لايزال دافئا, لأن الله تعالي أوقف له الزمن وطوي له المكان, وكان ذلك في شهر ربيع الأول من السنة السابقة علي الهجرة النبوية الشريفة, أي في حدود سنة620 م. وفي الصباح حدث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أهل مكة برحلته المعجزة, فصدقه من صدق,( وكان أولهم سيدنا أبو بكر الصديق) وكذبه من كذب( وكان علي رأسهم عدو الله أبو لهب). وتروي الأحاديث النبوية الشريفة عن هذه الرحلة المباركة أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ طاف حول الكعبة المشرفة ليلا وحيدا, ثم رجع الي بيته وآوي الي فراشه, وعند منتصف الليل جاءه جبريل ـ عليه السلام ـ وأخبره بأن الله ـ سبحانه وتعالي ـ يدعوه الي السماء, وتحرك الركب الكريم علي البراق من مكة المكرمة بادئا بالمسجد الحرام ومنتهيا بالمسجد الأقصي, تأكيدا علي الرباط بين هذين الحرمين الشريفين, الذي يؤكده مايرويه أبو ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قلت يارسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال: المسجد الحرام. قلت ثم أي ؟ قال: المسجد الأقصي. قلت: كم كان بينهما ؟ قال: أربعون سنة, ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فهو مسجد, وفي رواية أخري: فإن الفضل فيه( أخرجه كل من الإمامين البخاري ومسلم). وبمجرد وصول رسول الله ـ عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم ـ إلي المسجد الأقصي صلي به ركعات ومعه جبريل ومن استقبلهما من الملائكة الكرام. ثم عرج به ـ صلي الله عليه وسلم ـ عبرالسماوات السبع حتي وصل الي سدرة المنتهي, حيث شاهد جنة المأوي, وراح يصعد حتي وقف بين يدي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما, وسجد لله ـ تعالي ـ قائلا: التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله, فقال الحق ـ عز وجل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, وعلي الفور سبحت الملائكة لهذه التحية الربانية قائلة: السلام علينا وعلي عباد الله الصالحين, وقد جعلت هذه التحية بداية التشهد الذي يردده المسلمون في صلواتهم. وفي هذا الموقف العظيم أمر الله ـ سبحانه وتعالي خاتم أنبيائه ورسله بالصلاة المفروضة علي المسلمين خمس صلوات في اليوم( الليل والنهار) وهي صلوات المغرب, ثم العشاء, ثم الفجر, ثم الظهر, ثم العصر, ولها أجر خمسين صلاة. وقد رأي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في هذه الرحلة المباركة من آيات ربه الكبري مالم يفصح القرآن الكريم عنه, وإن أشارت السنة النبوية المباركة الي شيء منه. وبعد رحلة التكريم الإلهي تلك عاد رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الي بيت المقدس حيث صلي إماما بأنبياء الله ورسله, ثم عاد الي مكة المكرمة ليجد فراشه لايزال دافئا, ولما كان الصباح حدث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أهل مكة بما حدث معه في تلك الرحلة المباركة, وطفق مشركو قريش يتناقلون الخبر في تكذيب وسخرية بالغين, وتحدي بعضهم رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن يصف لهم بيت المقدس فجلي الله ـ سبحانه وتعالي ـ لرسوله الكريم بيت المقدس فطفق يصفه لهم وصفا تفصيليا كما يسألون. وفي ذلك أخرج كل من الإمامين البخاري ومسلم حديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي قال فيه: لما كذبتني قريش قمت في الحجر, فجلي الله لي بيت المقدس, فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه. وفي صبيحة رحلة الإسراء والمعراج نزل جبريل ـ عليه السلام ـ ليعلم رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم أوقات الصلاة, وكيفية أدائها, وماذا يقرأ فيها, وأول كل وقت وآخره, وكان ـ صلي الله عليه وسلم ـ يصلي ركعتين صباحا, ومثليهما مساء, كما كان يفعل جده ابراهيم ـ عليه السلام ـ وذلك قبل مشروعية الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج. الدروس المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج: ـ إن الدروس المستفادة من هذه الرحلة المباركة عديدة, منها مايلي: 1 ـ تأكيد وحدة رسالة السماء المنطلقة من وحدانية الله تعالي ـ والتي صورها الربط بين المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد الأقصي في بيت المقدس. 2 ـ عرض شيء من قدرة الله ـ تعالي ـ التي لا تحدها حدود, ولا يقف أمامها عائق, ومن ذلك مامثلته هذه الرحلة المباركة من إيقاف الزمن, وطي المكان لخاتم أنبياء الله ورسله ـ صلي الله عليه وسلم حتي تمكن من السفر من مكة المكرمة إلي بيت المقدس, ومنه عرج به الي سدرة المنتهي, ثم عاد الي بيت المقدس ثم الي مكة المكرمة بلا زمن علي الاطلاق, ولذلك وجد فراشه دافئا كما غادره, وطوي الله ـ تعالي له المسافات حتي قطعها بلا زمن أيضا. 3 ـ الإيمان بالله ـ تعالي ـ وبملائكته, وكتبه, ورسله, دون أدني تفريق أو تمييز. 4 ـ اليقين في بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ ومعرفة شيء عن منزلته عند رب العالمين. 5 ـ تأكيد قيمة الصلاة التي هي عماد الدين, ولذا كان فرضها من الله ـ تعالي ـ مباشرة الي خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بينما بقية العبادات حمل الأمر الإلهي بها جبريل ـ عليه السلام ـ الي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم. 6 ـ التسليم بأن المعجزات هي خوارق للسنن, وبالتالي فإن العقل البشري لا يستطيع تفسيرها. 7 ـ الإيمان بأن الله ـ تعالي ـ فضل بعض الأماكن علي بعض, وبعض الأزمنة علي بعض, كما فضل بعض النبيين وبعض الرسل وبعض الأفراد العاديين علي بعض, ومن ذلك فضل مكة المكرمة علي سائر مدن الأرض, يليها فضل مدينة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ثم فضل بيت المقدس الذي ندعو الله ـ تعالي أن يطهره من دنس الصهاينة المجرمين المعتدين عليه وعلي ما حوله من مقدسات إسلامية. من هنا تتضح ومضة الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة التي اخترتها عنوانا لهذا المقال, لأن خبر هذه الرحلة المباركة من أنباء الغيب, التي لولا أن الله ـ تعالي ـ قد أخبرنا بها في محكم كتابه, ولولا أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قد فصلها لنا في أحاديثه ماكان أمام أحد من البشر أي إمكانية للعلم بها, وفي ذلك يروي أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ـ قوله: أتيت بالبراق ـ وهو دابة ـ أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل, يضع حافره عند منتهي طرفه قال: فركبته حتي أتيت بيت المقدس فربطه بالحلقة التي يربط بها الأنبياء, ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل ـ عليه السلام ـ بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة( رواه الامام مسلم). ثم تتابعت الأحداث في مكة بسرعة عجيبة, وزاد تضييق الكفار والمشركين علي حملة الدعوة الاسلامية بشكل مستفز, حتي أدرك رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن الدعوة قد حوصرت في مكة, فأمر عددا من أصحابه بالهجرة الي يثرب التي كان نفر من أبنائها قد أسلم أثناء أداء شعيرة الحج علي دفعات متتالية في بيعتي العقبة الأولي والثانية, وشرع الصحابة الكرام في الهجرة الي المدينة التي شرح الله صدور عدد من رجالها ونسائها للدخول في الإسلام, وبقي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ وصاحبه أبو بكر الصديق ينتظران الأمر من الله ـ تعالي ـ بالهجرة, لأن الأنبياء لا يتحركون إلا بالأمر الإلهي. وصلت أخبار بيعتي العقبة الأولي والثانية وهجرة أعداد من المسلمين الي يثرب, وانتشار الاسلام بين أهلها, فاجتمع زعماء قريش في دار الندوة ليتداولوا في أمر النبي, فاقترح أحدهم أن يلقي في السجن مقيدا في الحديد حتي يموت جوعا, واقترح آخر نفيه من مكة, واقترح أبو جهل أن يختاروا من كل قبيلة من قبائل مكة شابا قويا, ويعطي كل واحد منهم سيفا بتارا ويحاصروا بيته بليل, فإذا خرج من بيته في الصباح ضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل, وبالتالي يعجز بنو هاشم عن قتالهم ويقبلون بالدية.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار |
ساحة النقاش