ويصفون هذا التفكير بأنه ارتداد عن قيم الحداثة, ويصمونه بالتفكير التآمري أو هكذا يسمونه, وبالتالي يضعونه ضمن سلة التفكير غير العلمي جنبا إلي جنب مع التفكير الغيبي والتفكير الخرافي. فنظرية المؤامرة هي نظرية تستخدم في تفسير المواقف والأحداث ـ وربما ـ التاريخ أيضا; وعليه فهي ليست تفكيرا تآمريا كما يري البعض; ذلك أن التفكير التآمري هو ذلك الجهد الذهني الذي يصنع المؤامرة ويحكيها, ولا ينصرف بحال إلي جهد هؤلاء الذين يستخدمونها في تفسير الأحداث. فما يفعلونه هو تفسير تآمري وليس تفكيرا تآمريا وبين الاثنين شتان, فان استخدام نظرية المؤامرة في التفسير ليس خطيئة في كل الأحوال. بل هو مطلوب أحيانا. وإذا كان الكثير منه يضر, فإن الإقلاع التام عنه قد لايفيد. ففي عالم السياسة ـ كلنا يعرف هناك قسط كبير من الأحداث يجري خلف الكواليس وتحيط به مغاليق السرية. في هذه الحالة يصبح التفسير التآمري منطقيا يصبح منطقيا عندما يغيب المنطق عن هذه الأحداث وبتفصيل مبسط يمكن القول إنه إذا كانت المؤامرة تعني أن هناك شيئا ما يحاك أو يدبر في الخفاء, وأن مصالح بعض الأطراف تلتقي عند هذا التدبير, وأن هذه المصالح التي تتلاقي هي بالضرورة ضد مصالح آخرين, فمعني ذلك أن هناك دائما مؤامرات تتم في دهاليز السياسة العالمية وفي دوائر صنع القرار في الدول المختلفة. وهذا هو ما شهدناه بالفعل طوال تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب ومنذ عهد الاستعمار, وهذا أيضا هو ما لمسناه في بعض ثنايا الممارسات الإقليمية. بل ونظن ـ وبعض الظن ليس بإثم ـ أن الحكومات الديمقراطية تمارس المؤامرة بهذا المعني وفي عقر دارها; أي مع شعوبها أو علي مواطنيها( نتذكر تضليل الشعب الأمريكي في قضية احتلال العراق). مرة أخري تقول العيب في الافراط في استخدام هذه النظرية. والأكثر عيبا هو أن نستخدمها شماعة; نعلق عليها أخطاءنا والفشل. ومن ثم فإذا كان الاعتدال في استخدام هذه النظرية مطلوبا, فإن الأكثر منه إلحاحا هو أن نتحري منهجية في هذا الاستخدام, وعندئذ نستطيع أن نخرجها أو نخرج بها من فصيلة التفكير غير العلمي, وقد نتفق أن استخدام النظرية ليس علميا بالمرة, لكن النظرية ذاتها( نظرية المؤامرة) كمجموعة من المقولات المترابطة تنهض علي افتراضات منطقية قابلة للتطبيق ولها قدرة تفسيرية, لا يجوز وضعها علي قائمة التفكير الخرافي أو العيبي; ذلك أن لها حجيتها المعرفية. والحقيقة أن أية معايير يمكن أن تطرد هذه النظرية من الحقل العلمي قادرة بالضرورة علي نزع صفة العلمية عن كثير من النظريات العاملة في حقل العلاقات الدولية. وبنفس المنطق ـ معكوسا ـ فإن الشروط التي تكسب أغلب نظريات علم السياسة صفة العلمية, إنما تكسبها أيضا علي نظرية المؤامرة وتؤكدها لها. تقوم نظرية المؤامرة علي افتراضي الاستهداف والاستفادة; أي اننا مستهدفون وأن هناك من يستفيد من هذا الاستهداف. ولا أدري لماذا ننكر أننا مستهدفون مادمنا كذلك بالفعل!.. ان ما يجب أن نفعله هو أن نستنكر هذا الاستهداف لا أن ننكره, وأن نستعد له لا أن ننصرف عنه( ألم يعلن الغرب أن الإسلام هو العدو الأخضر). والاستفادة من هذا الاستهداف واردة وربما أكيدة. لكن ذلك لا يعني تصوير العلاقة مع الغرب علي أنها علاقة صراع, وحتي لو تم تسكينها في هذه الخانة; فإن الصراع ليس مرادفا للعنف أو الحرب; ذلك أن وسائله وآلياته عديدة ومتعددة ومتجددة أيضا. كذلك فإن وجود أطراف مستفيدة لا يعني أن المباراة صفرية بمعني أن الطرف الكاسب يحصل علي كل شئ مقابل لا شيء للخاسر; ثم إنها تقبل التعاون بل وتفترضه. وفي نظرية المؤامرة يتم اعمال اداتين هما: الاستدراج والاختراق. والاستدراج لا يقف عند هذا التصور الساذج عن نصب كمين أو فخ لاصطياد طرف ما; رغم أن ذلك يحدث, وإنما يشير إلي خلق موقف معقد يجد الضحية نفسه فيه دون خيار حقيقي أو علي الأقل يجد من الخيارات ما هو أسوأ من بعضه فيضطر إلي الوقوع فيما يريدونه أن يقع فيه. صحيح أن الضحية قد يرتكب بعض الأخطاء; لكن ليس معني ذلك أن يضيق عليه الخناق حتي إنهاكه أو تصفيته. والاختراق قائم وموجود, ولسوف يظل, لكنه ليس مرتبطا بالضرورة بالعمالة أو الخيانة قدر ارتباطه بضعف الأطر والنظم والسياقات القائمة, والتي تتلخص في تضعضع المناعة الوطنية. أعتقد أن التفسير التآمري لبعض المواقف والأحداث قد يصير مقبولا في ظل هذه الضوابط, والتي تحتاج إلي مزيد من المراجعة والتدقيق.
|
ساحة النقاش