فأنا ان كنت أتفق مع د.ليلي تكلا في بعض النقاط التي أشارت إليها في مقالها, وأطالب أن تراعي المناهج الدراسية تعدد الديانات والعقائد, وأن تؤكد أن الاختلاف هو الأصل في الخلق وليس الاتفاق, ومن الأمثلة الواضحة علي ذلك اختلاف ألوان البشر وملامحهم وصفاتهم الجسمية ولغاتهم وأجناسهم, واختلاف بصمات أصابعهم وبصمات أصواتهم, واختلاف الزهر وألوانه ورائحته, واختلاف الثمرة الواحدة في الحجم واللون والطعم, واختلاف الأسماك في ألوانها وأحجامها وطعمها. واتفق مع د.ليلي تكلا في أن تشتمل مادة تاريخ مصر كل عصور التاريخ المصري, وأن يأخذ كل عصر حقه من الشرح والدراسة, لكن لا أتفق معها في دعوتها إلي الربط بين عقيدة الإنسان والمناهج الدراسية التي يتلقاها في مراحل التعليم المختلفة, ولا أتفق معها في البعد عن المناهج التي تتعارض مع التعاليم التي يدرسها الطالب في حصة الدين, ولا أتفق معها في دعوتها إلي قصر تدريس آيات القرآن علي حصص الدين, وذلك لأن النصوص القرآنية لا تدرس لكونها نصوصا دينية يؤمن بها جزء أو كل أبناء الوطن, لكنها تدرس من الناحية اللغوية والبلاغية, لكونها تمثل عصرا من عصور اللغة العربية, وهذا ما يحدث في جميع أنحاء العالم عند تدريس أية لغة, فيتم تدريس نصوص مختارة تمثل كل عصر من عصور تلك اللغة بصرف النظر عن طبيعة هذا النص, وعن كونه نصا دينيا أم لا. وسوف أعرض علي سبيل المثال ما نقوم بتدريسه بالفعل في قسم اللغة العبرية جامعة عين شمس. يدرس الطالب نصوصا مختارة تمثل عصور اللغة العبرية المختلفة, فيدرس نصوصا من العهد القديم, وهو نص ديني, كممثل لأقدم عصور اللغة العبرية المدونة, ويدرس نصوصا مختارة من كتاب المشنا, وهو نص ديني ايضا, كممثل للغة العبرية في المرحلة التالية, ويدرس نصوصا مختارة من التلمود, وهو فقه يهودي, ونصوصا من كتب التفاسير الدينية اليهودية كممثل للغة العبرية في المرحلة التاريخية الممتدة من القرن(4 ـ11 م) وهذه النصوص, كما ذكرت نصوص دينية, وتضم الكثير من الرؤي والأفكار والعقائد التي قد تتفق أو تخالف ما جاء به الإسلام, ومن أمثلة الاتفاق التي لها علاقة بمقال د.ليلي تكلا, ما ذكره التلمود عن عدد السماوات في باب الدعاء براخوت, فقد ذكر أن عدد السماوات سبع, وحدد اسما لكل سماء منها, وذكر ما فيها من كائنات علوية. والتلمود, كما ذكرت, كتاب فقه يهودي عبارة عن تتمة للعهد القديم, واستكمال لما أغفله النص أو سكت عنه, ويعد التلمود المرجعية الدينية لليهود في عصرنا الحالي. ومن أمثلة الاختلاف ما تنسبه النصوص الدينية اليهودية للأنبياء من أفعال مشينة أو ارتكاب الفاحشة, كما جاء عن يهودا, وتامار, وما نسب إلي لوط من ارتكاب الزنا مع ابنتيه, وما نسب إلي داود وسليمان عليهما السلام, وغيرها من الأمثلة التي لايتسع المقام لعرضها. كما يدرس الطالب في قسم اللغة العبرية مادة اللغة السريانية والأدب السرياني في عصوره المختلفة, وهو أدب كنسي في المقام الأول, فيدرس الطالب أشعار أفريم وهي الأشعار التي ترتل مترجمة إلي العربية في الكنائس, فالقسم يدرس هذه الأشعار من الناحية اللغوية والأدبية, ولايدرسها من الناحية الدينية أو الكهنوتية. كما يدرس الطالب ترجمة الكتاب المقدس إلي السريانية بعهديه القديم والجديد, ويدرس أيضا تاريخ انقسام الكنيسة إلي: نساطرة, ويعاقبة, وملكانية. فالقسم لايدرس انقسام الكنيسة من الناحية العقدية, وإنما من الناحية اللغوية نظرا لارتباط انقسام الكنيسة بانقسام اللغة السريانية إلي ثلاث لهجات, واستقلال كل لهجة عن الاخري بأبجديتها وظواهرها اللغوية( علامات الضبط والتشكيل), كما يدرس الطالب نماذج أدبية لشعراء مسيحيين, ومعـظمها شعر ديني. بالاضافة إلي ماسبق يدرس الطالب في قسم اللغة العبرية مادة استشراق يهودي ومعظمها عبارة عن دراسات نقدية للقرآن وللحديث النبوي, قام بها علماء يهود. وعلي الرغم من طبيعة الدراسة في القسم, فلم يعترض أحد من الطلبة المسلمين علي ما يقدم في هذه المناهج الدراسية, وجاء الاعتراض من بعض الطلبة المسيحيين علي ما يتم تدريسه في مادة دراسات نقدية في نصوص العهد القديم, ورددوا المقولة التي جاءت في مقال د.ليلي تكلا وقالوا إن هذه الدراسات تتعارض مع إيماننا كمسيحيين, ونحن نفضل الرسوب علي أن نردد ما جاء فيها ويتعارض مع الإيمان المسيحي! علي الرغم من أن كل أستاذ في القسم يشرح للطلبة في البداية ويؤكد لهم أن هذه الآراء النقدية قالها علماء( ويحدد اسماءهم) وهم إما يهود أو مسيحيين, وأن طبيعة الدراسة في القسم علمية أكاديمية, وليست دراسة كهنوتية أو دينية, وأننا في القسم نقوم بتدريس المواد التي يتم تدريسها في الأقسام المناظرة لقسمنا في الجامعات الأوروبية, وقد ذكر لي أستاذ جامعي مصري مسلم يعمل في مجال الدراسات السامية في إحدي الجامعات الألمانية أنه يأمر الطلبة أن يحفظوا الكثير من النصوص العبرية القديمة, لما لذلك من فائدة في تقويم اللسان وتدريب علي النطق السليم, وكان يضرب لهم المثل فهو يحفظ معظم سفر المزامير(150 مزمورا). وفي الحقيقة فإن خطورة المقولة التي رددها بعض الطلبة المسيحيين, وجاءت في مقال د.ليلي تكلا, تمكن في كونها لاتقتصر علي تحريم تدريس مادة دراسية بعينها, في قسم محدد أو في كلية بعينها, لكنها تتسع لتشمل كل فروع العلم, وجميع التخصصات, فعلي سبيل المثال لا الحصر, ماذا يكون موقف الطالب المسيحي في كلية العلوم إزاء تدريس نظرية داروين في النشوء والارتقاء؟ هل يقول انها تخالف ما جاء عن الخلق في الكتاب المقدس, ويرفض مناقشة النظرية أو دراستها تحاشيا للخطيئة؟ أم يلتزم بتعاليم المقرر نفاقا وخوفا من الرسوب, كما جاء في مقال د.ليلي تكلا؟! هل يرفض الطالب المسيحي في كلية الآداب في قسم الفلسفة أن يدرس الفلسفة الماركسية التي تنكر جميع العقائد, الغيبيات, ويطالب بإعفائه من الامتحان فيها؟ هل يرفض أن يدرس الفلسفة الوجودية الملحدة, ومن زعمائها جان بول سارتر ومارتن هيدجر؟ وعلي الرغم من أن جميع أقسام الفلسفة في مصر تقوم بتدريس الفلسفة المسيحية, وتقدم القراءة العقلية للعهد الجديد من جهة المدرسين وفلاسفة العصور الوسطي المسيحيين, فلم يعترض أحد من الطلاب المسلمين علي تدريس الإيمان في المسيحية, وكل الأمور المسلم بها من تثليث, ومفهوم الخطيئة التي يرثها الأبناء عن الآباء. أخيرا أرجو ألا تؤدي الحساسية الدينية الشديدة, والنظرة الآنية إلي ما لا يحمد عقباه من نتائج, فنحن ان كنا في حاجة إلي إعادة النظر فيما تقدمه المناهج التعليمية, فإننا في أشد الحاجة إلي توخي الحذر والموضوعية فيما يروج من مقولات.
|
ساحة النقاش